• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الأم الربانية

الأم التي تدرك المقصود من حياتها وحياة أولادها هي التي يتكئ عليها المجتمع في نهوضه ويسند إليها ظهره في أزماته، وهي الرصيد الإستراتيجي في نصرة دين الله تعالى بتحرير أولادها لله تعالى من كل عبودية وارتباط يقيِّدهم عن أداء حق الله وحق الأمة عليهم


أنْ ينظرَ العليُّ الكريم سبحانه إلى بيت من البيوت فيسبغَ عليه من وافر نعمه وأفضاله وعطاياه فتلك عجيبة من عجائب الزمان ويتيمة من أيتام الدهر؛ فكيف إذا أعلم الله تعالى الناس بخبر هذا البيت ثم أثنى على أهله وعبَّد الناس بتلاوة هذا الثناء على مرِّ العصور والأحقاب؟ تالله إنَّها المنة الكبرى والكرامة العظمى. فيا لله ذلك الثناء الذي تفضل به الرب تبارك وتعالى على عِمران وأهل بيته وذريته حين قال: {إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ 33 ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: ٣٣ - ٣٤]! وآدم ونوح وإبراهيم أنبياء اصطفاهم الله بالنبوة من قبلُ، أما عمران فليس بنبي لكنه لصلاحه اصطفاه الله وبارك عليه وعلى أهل بيته، فكان من ذريته مريم، ومن مريمَ عيسى النبي عليهم السلام.

 قال قتادة: «ذكر الله أهل بيتين صالحين ورجلين صالحين ففضلهم على العالمين. فكان محمد من آل إبراهيم»[1].

وعمـرانُ هـو ابن ياشـهم بن آمـون مـن ذريـة سـليمان بن داود عليهما السـلام، وكان حَبراً صالحـاً من أحبار بني إسرائيل وإماماً لهـم في الصلاة وصاحبَ قربانهم ومن بيت لهم شأن في الديانة، وزوجه الطيبة هي أم مريم وجدَّة عيسى عليه السلام: حنَّة بنت فاقوذ. وأم يحيى بن زكريا هي إيشاع، وعلى القول بأنها - أيْ زوج زكريا - أخت حنَّة بنت فاقوذ أو القول بأنها أخت مريم بنت عمران فهي من نبتة مباركة ويدلُّك ذلك على صلاح هؤلاء الرهط[2]، وقد أثنى الله تعالى على أم يحيى فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: ٩٠].

هذه خريطة تقريبية للبيوت المصطفاة، وتوضيح لشجرة النسب المباركة التي أثنى الله تعالى على أهلها، فرضي الله عنهم ورحمهم وأبلغهم صَلاتَنا وسلامَنا عليهم.

الرسالية في حياة الأمهات:

يغلب على الوالدين حب الخير لأولادهما، ويتمنيان أنْ يكون أولادهما على درجة مُرْضية من الصلاح والاهتداء والاستقامة، وهذا أمر فطري غريزي عام، وهذا يقتضي أنْ يكون الوالدان هما الباب الأول في إصلاح أولادهما، لكونهما القدوة الأولى لهم، ولأنَّ الجزاء من جنس العمل، ولأنه لا يستقيم أنْ ينحرف الوالدان وفي الوقت نفسه يطلبان استقامة الأولاد! لكن القرآن هنا أبان عن حال الأم تحديداً، وهي أم مريم، وشرح لنا طرفاً من قصتها تبيِّن عن صلاح هذه الأم ورغبتها فيما عند الله تعالى وتعلُّق قلبها بمرضاته، فقال تعالى: {إذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 35  فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 35 - 36].

فأول ما يلفت القرآن إليه عنايتنا في قدوة الأمهات حنَّة بنت فاقوذ أنها تقربت إلى الله بأنْ نذرت حملها لله، وجعلته وقفاً لعبادة الله وخدمة بيته ودينه، وتالله إنها لمنزلة عظيمة تلك التي تجعل هذه الأم تغلِّب الآجل على العاجل وتغلِّب الأجر على الغريزة وتغلِّب الإرادة العلمية على الإرادة العاطفية، فحب الولد غريزة الأم الطبيعية، تحب الولد وتأنس بقربه وضمه وشمه، ويرضيها منه سلامةُ حواسه وعافيةُ بدنه ونحوُ ذلك، ومع هذا فنجد أم مريم تنزع عن نفسها ما تقتضيه هذه الغرائز لأجل مرضاة الله تعالى؛ فكيف إذا علمتَ أنها لم تحمل إلا في كبر سنها!

قال ابن إسحاق: «تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أم يحيى عند زكريا، وكانت أم مريم عند عمران، فهلك عمران وأم مريم حامل بمريم، فهي جنين في بطنها. قال: وكانت - فيما يزعمون - قد أُمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظل شجرة نظرت إلى طائر يطعم فرخاً له، فتحركت نفسها للولد، فدعت الله أنْ يهب لها ولداً، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أنَّ في بطنها جنيناً جعلته لله نذيرة، و (النذيرة) أنْ تعبِّده لله، فتجعله حبيساً في الكنيسة، لا يُنتفع به بشيء من أمور الدنيا»[3].

وتحرير الأولاد هو تخليص الذكور منهم من كافة أمور الدنيا كالسعي في الأرزاق والقيام على مصالح البيت ونحو ذلك وتفريغهم لأعمال بيوت الله وتعليم دين الله والدعوة إليه، فيلحق بالأنبياء والقائمين على أمور الدين من أهل العبادة والعلم.

فلما حملت امرأة عمران رضي الله عنها احتسبت هذا الأمر عند الله، وأرادت أنْ يكون من بطنها صاحب ديانة وتقوى وخدمة لبيوت الله.

والمقصود أنه وإنْ كانت حنَّة بنت فاقوذ امرأة كالنساء إلا أنَّ حب الله تعالى وابتغاء مرضاته وإرادة التقرب إليه كانت على رأس الهرم في أولوياتها، وكانت المحور الذي تدور حوله أفعالها ورغباتها وحاجاتها، وكانت النقطة التي منها تنطلق إراداتها وبرنامج حياتها، بل كانت اللبنات التي تبني بها بيتها وتؤسس عليها حياةَ مَن بعدها مِن نسلها.

شعور هذه الأم بأنَّ مقصود الحياة التي أوجدنا الله تعالى فيها هو عبادته والسعي إلى رضاه كان حاضراً في وجدانها وكلماتها، كان عالقاً في مجريات حياتها، تأمل صورة هذه الأم وهي ترقب طفولة الحيوانات والطيور فتتحرك رغبتها في الولد، لا لضمه وشمه ولثمه؛ وإنما لأجل إيجاد عبد لله، يقول: لا إله إلا الله، ويبني حياته على هذا الأساس!

هذا - يا كرام - هو عمق المعرفة بحق الله تعالى علينا، بل هو حق اليقين.

وتأمل الصورة الأخرى: يكبر سن امرأة عمران دون أنْ تحمل، ثم تحمل على كبر سنها، ثم يموت زوجها في مدة حملها؛ وهو ما يزيد الرغبة في الولد للأنس والرعاية على الكبر، فتنذره محرراً خالصاً لله، فلا تستفيد منه لنفسها في دنياها ألبتة.

وفي هذا درس كبير جعله الله تعالى للأمهات في عرض قصةِ مَن رضيها الله تعالى أنْ تكون قدوة لهن.

فهي قدوة لهن في معرفة مقصود الحياة، وأنَّ المقصود الأسمى - على مرِّ العصور والأحقاب - هو عبودية الله تعالى.

وهي قدوة لهن في طريقة تفكير الأم تجاه أولادها، وأنه ينبغي أنْ يكون عندها أمومة صالحة في أولادها تفوق أمومة الحيوانات المقتصرة على الرعاية البدنية والأنس العاطفي وإشباع الغريزة. هذا سيفضي بالأم إلى الاهتمام الديني بأولادها وتربيتهم على ما يرضي الله وتقديمهم فداءً لدين الله وخدمة له.

وهي قدوة لهن في استثمار حياة الأولاد فيما يعود عليهن بالأجر الموفور من الله، وتقديم ذلك على مصالح الدنيا وعلى إشباع غريزتها الأُمية.

الأم الرسالية هي التي تطمح أنْ يكون وليدها عنصراً فاعلاً في أمته، نافعاً لدينه، صالحاً في نفسه، هكذا كانت امرأة عمران، وهكذا كانت نساء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : طموحهن إعداد الجيل الجديد لإعلاء دين الله تعالى؛ فما كان عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والحسن والحسين وقائمة الثلة المضيئة من صغار الصحابة إلا نتاجاً مباركاً وذرية طيبة من أمهات عرفن رسالتهن في الحياة.

ألا ترى إلى صنيع الصحابية الجليلة أم سليم في ابنها أنس بن مالك حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ! قال أنس: «أخذتْ أم سليم بيدي مَقْدَم النبي صلى الله عليه وسلم  فأتتْ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقالت: يا رسول الله! هذا ابني، وهو غلام كاتب». أي وهبته لخدمتك لعله ينال من علمك وبركتك ونؤجر فيما وهبناه، وكان عمره آنذاك ثمان سنين أو عشر سنين[4].

الأم التي تدرك المقصود من حياتها وحياة أولادها هي التي يتكئ عليها المجتمع في نهوضه ويسند إليها ظهره في أزماته، وهي الرصيد الإستراتيجي في نصرة دين الله تعالى بتحرير أولادها لله تعالى من كل عبودية وارتباط يقيِّدهم عن أداء حق الله وحق الأمة عليهم، ولا يثنيها عن ذلك الخوف على الولد من الموت أو العوز أو البعد.

حتى الاسم، لم يكن مجرد اسم، بل قامت امرأة عمران بتسمية ابنتها تسمية دالة على إدراكها لمقصود الحياة {وَإنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}. قال الشوكاني: «ومقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرب إلى الله سبحانه، وأنْ يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها، فإنَّ معنى مريم خادم الرب بلغتهم، فهي وإنْ لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة فذلك لا يمنع أنْ تكون من العابدات»[5].

هذه الآية القرآنية الخالدة نزلت لتذكر أمهات أمة الإسلام بالنموذج الأحسن والأقوم للأمومة الصالحة، أعني نموذج امرأة عمران، قال تعالى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩]. ولذلك فإنَّ زكريا عليه السلام حين رأى ما رأى من هذا النسل المبارك، تحركت نفسه لطلب الولد، لكنه أراد صلاح هذا الولد واستقامته، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: ٣٨].

التربية بالدعاء:

أنت بصدد الحديث عن أمٍّ أنجبت أكمل النساء، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون»[6]. فما هي أقوى وسائل التربية التي ذكرها الله تعالى لنا عن امرأة عمران؟

لا شك أنَّ اللجوء إلى الله تعالى وطلبَ الإعانة على التربية ودعاءه بصلاح الأولاد هو أعظم الوسائل التربوية، لا لأنه أمر مجرَّب معروف فحسب، ولا لأنه قربة محبوبة لله تعالى فحسب؛ بل لأنَّ الدعاء أقوى الأسباب كما ينص أهل العلم على ذلك استقراءً من نصوص الوحي، قال ابن القيم رحمه الله: «فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدِّر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصحَّ أنْ يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفعَ من الدعاء، ولا أبلغَ في حصول المطلوب. ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلمَ الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم  وأفقهَهم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم. وكان عمر رضي الله عنه يستنصر به على عدوِّه، وكان أعظم جنديه، وكان يقول لأصحابه: (لستم تُنصرون بكثرة، وإنما تُنصرون من السماء). وكان يقول: (إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء فإنَّ الإجابة معه). فمن أُلهم الدعاء فقد أُريد به الإجابة، فإنَّ الله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠]»[7].

وامرأة عمران بعد أنْ تبيَّن حملها نذرت تحرير وليدها لله تعالى، وهي حينئذٍ لا تعلم أنها تحمل أنثى، وطلبت من الله قبول هذه النذيرة، قال تعالى: {إذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: 35]، فلما وضعتْ توجهت إلى الله تعالى داعية متضرعة خاشعة معتذرة بأن الذي ولدته أنثى ولم يكن التحرير إلا للذكور، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: ٣٦].

فقالت ابتداءً: {رَبِّ إنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى} قال ابن عطية: «لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف. وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكراً فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أنْ نذرت ما لا يجوز نذره»[8]. إذ يختلف الذكر عن الأنثى، قال ابن كثير: «في القوة والجَلَد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى»[9]. وقال البغوي: «لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس»[10]. فهذا الاعتذار متعلق بطلب قبول دعائها الأول الذي دعت به ربها تبارك وتعالى.

ثم إنها دعت الله تعالى أنْ يعيذَ ابنتها مريم، وذرية مريم فيما بعد، من نزغات الشيطان ووسوسته وإضلاله وإغوائه، فقالت: {وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: ٣٦].

ففعل الدعاء فعله في القدر، واستجاب الله تعالى طلب الأم الصالحة، قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْـمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: ٣٧].

لقد تقبل الله ابنتها محررة للعبادة ولخدمة المسجد الأقصى على خلاف العادة، قال ابن عطية: «إخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم  بأنَّ الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها، وسنَّى لها الأمل في ذلك، والمعنى يقتضي أنَّ الله أوحى إلى زكريا ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت»[11].

وأنبت الله تعالى مريم نباتاً حسناً؛ أي: جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً، ويسَّر لها أسباب القبول، وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم الخير والعلم والدين[12]. فمِن استجابة الله لدعاء الأم الصالحة سخَّر الله تعالى لمريم صحبة الأنبياء والصالحين، فتشكل لها وسط صالح تتربى في معاطفه، واتصلت بالمسجد الأقصى وعامريه، ومن هنا نقول: إنَّ الدعاء سبب في توفير وسط صالح للأولاد، وسبب في توفير بيئة تربوية ينتفعون منها بإذن الله، وينبتون فيها نباتاً حسناً. قال تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إذ وُلِدَت يتيمة، قال ابن كثير: «وإنما قدَّر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علماً جمّاً نافعاً وعملاً صالحاً؛ ولأنه كان زوج خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما، وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصحيح: «فإذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة»[13]، وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها. وقد ثبت في الصحيحين[14] أن النبي صلى الله عليه وسلم  قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال: (الخالة بمنزلة الأم)»[15].

وأجار الله تعالى مريم وابنها من نزغات الشيطان، قال أبو هريرة: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول: ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من مسِّ الشيطان، غير مريم وابنها»[16].

فتأمل عناية الرب تعالى بمريم عليها السلام، وكيف أنَّ الله حفظها ورعاها بدعوة أمها، وكيف تقلَّبت أحوالها في معاطف الخير والزكاء والاصطفاء، حتى أنَّ زكريا لما رأى كل هذا اللطف الرباني بها بدعوة أمها لجأ إلى الله داعياً متضرعاً أنْ يكون من حاله كما كان من حال امرأة عمران التي استجاب الله لها دعاءها على كبر سنها ويُتْم ابنتها، وقد وصف الله هذه الحال من زكريا فقال:{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْـمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ 37 هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: ٣٧ - ٣٨].

الدعاء الدعاء - أيها الآباء والأمهات - أمضى سلاح وأقوى سبب يستجلب به صلاح الأولاد والذرية. ولذلك فإنَّ الله أيضاً استجاب لزكريا عليه السلام، فكانت معجزةً أنْ يرزقَ الولد على كبر سنه وسن زوجه، ثم يصلح الله ابنه ويجعله نبياً، قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْـمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْـمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِـحِينَ 39 قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: ٣٩ - ٤٠].

القوة الربانية والقدرة الباهرة لله تعالى هي ما يجعلنا نلجأ إليه في إصلاح أولادنا ومباركتهم؛ حتى وإنْ كانوا يعيشون في أوساط غير ملائمة. ألا ترى أنَّ زكريا يقول: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ}؟ فيقول الملك له: كذلك الله يفعل ما يشاء.

ومن أهم الدعوات التي نسديها لأولادنا على سبيل التقويم والإصلاح: أنْ يعيذَهم الله من شر الشيطان ونزغاته، فهذه أم مريم تقول: {وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. لأنَّ الشيطان توعد ذرية آدم وأقام الرصد لإغوائهم وإيذائهم وأقسم أنْ يزين لهم تغيير فطرتهم، وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم  تعويذ الأولاد وأخبرنا أنَّ الأنبياء عليهم السلام كانوا على هذه السُّنة؛ فعن ابن عباس، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم  يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: إنَّ أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامَّة»[17].

أفلا يكون لنا بهم أسوة وقدوة؟

مفاهيم فطرية:

ثلاثة مفاهيم رئيسية نستشفها من كلام امرأة عمران الخالد لها صفة العموم والفطرية، فليست مقتصرة على تاريخ محدد ولا على جغرافية محددة، وإنما هي لصيقة بالبشر منذ خلق آدم وإلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها:

أولها: ضرورة اللجوء إلى الله تعالى، فإنَّ الله وحده هو المعبود بحق، وهو الذي ينبغي أنْ تتوجه الخلائق له تعظيماً وإجلالاً وحبّاً ورجاء ورهبة وخشية، وهو الذي عليه التكلان والاعتماد، وهو المستعان والملاذ، فلا يُدعى غيره ولا يُرجى سواه.

وثانيها: طبيعة خلْق الأنثى المغايرة لخلْق الذكر، وأنَّ في المرأة بعض اختلاف في جسدها الخارجي والداخلي وما ينتج عنه من اختلاف الوظائف كمّاً وكيفاً عن الرجل يضع بصمته على قوَّتها الجسدية والعقلية، فليس الذكر كالأنثى؛ هكذا قالت امرأة عمران معتذرة إلى الله في نذرها، قال ابن عاشور: «ونفيُ المشابهة بين الذكر والأنثى يقصَد به معنى التفضيل في مثل هذا المقام، وذلك في قول العرب: ليس سواء كذا وكذا، وليس كذا مثل كذا، ولا هو مثل كذا، كقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]. وقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: ٣٢]»[18].

والمقصود أنَّ امرأة عمران لم تجد غضاضة وهي تناجي ربها أنْ تعترف بأفضلية الذكور على الإناث، على الأقل فيما يخص هذه الوظائف الدينية العامة، وأنْ تعترف لله باختلافهما بما يجعل مخالطة مريم بالرجال ووجودها في المسجد حال الحيض غير سائغ. وهو تفضيل عام، وإلا فإنَّ الله أثنى على امرأة عمران وابنتها مريم بثناء عظيم وهما امرأتان؛ واصطفاهما فيمن اصطفى على العالمين، قال السعدي: «فجبر الله قلبها وتقبَّل نذرها، وصارت هذه الأنثى أكملَ وأتمَّ من كثير من الذكور، بل من أكثرهم»[19]. وليس في هذا التفضيل غضاضة؛ فهو أمر متكرر معتاد في الشريعة، ومتكرر في الأعراف والنظم كذلك دون نكير ولا شعور بالعقدة، ولم يحدث هذا الشعور إلا بعد بث النظم الكافرة بقوَّتها القانونية والإعلامية فكرة المساواة بين الجنسين والشعور بعقدة النقص في الأزمنة المتأخرة.

وثالثها: أنَّ الشيطان عدو دائم للذرية، لا يألو جهداً في إغوائهم وإيذائهم، وقد تقدم حديث مسِّ الشيطان للوليد، وفي الحديث الآخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء، فإنَّ الشياطين تنبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء»[20]. وقد أقسم على أنْ يكون كذلك أبد الدهر، كما أخبرنا الله تعالى إذ قال: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلَّا قَلِيلًا 62 قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا 63 وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا 64 إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء: 62 - 65].

كل ذلك نستفيده من العرض القرآني لقصة الأم الربانية امرأة عمران عليها وعلى زوجها وذريتها وعلى نبينا الصلاة والسلام.


 


[1] تفسير الطبري: 6/328.

[2] انظر: المصدر السابق وما بعده.

[3] المصدر السابق: 6/330.

[4] الطبقات الكبير: 5/326، الاستيعاب: 1/109.

[5] فتح القدير: 1/384.

[6] أخرجه البخاري: 4/164، حـ 3433.

[7] الداء والدواء، ص28.

[8] المحرر الوجيز: 2/385.

[9] تفسير ابن كثير: 2/337.

[10] معالم التنزيل: 2/30.

[11] المحرر الوجيز: 2/387.

[12] تفسير ابن كثير: 2/339.

[13] أخرجه البخاري: 4/163، حـ 3430.

[14] البخاري: 3/184، حـ 2699، ولم أجده في صحيح مسلم، وقال الألباني في تخريج الحديث في إرواء الغليل 7/ 249: تنبيه: لقد عزا المصنف هذا الحديث إلى المتفق عليه، وهو في ذلك تابع للسيوطي في (الجامع الصغير) و (الكبير) (1/339/1)، وهو وهم عنه فليس الحديث عند مسلم، وإنما لديه المناسبة التي وردت فيها قصة الحديث فَلْيُعلم ذلك.

[15] تفسير ابن كثير: 2/340.

[16] أخرجه البخاري: 4/164، حـ 3431.

[17] أخرجه البخاري: 4/147، حـ 3371.

[18] التحرير والتنوير: 3/234.

[19] تفسير السعدي: 1/218.

[20] أخرجه مسلم، حـ 2013.

أعلى