الكوارث وتأثيراتها في منطقة إفريقيا الغربية خلال القرنين 11- 16م

أسفرت الكوارث عن تفاقم وظهور كثير من المشاكل التي أدت في النهاية إلى زعزعة الأسس المادية للنشاط الفلاحي، وأعاقت تطور الزراعة والغراسة والرعي


مقدمة:

كثيراً ما تعرَّضت القارة الإفريقية - وخاصة الأجزاء الغربية منها - إلى موجات من الأوبئة والأمراض عبر التاريخ، تسببت في تغيير الخرائط السياسية للممالك والبلدان؛ فسقطت أُمم وظهرت أخرى، كما شكلت في الوقت نفسه تهديداً لحياة البشر في تلك المنطقة؛ إذ كان تأثيرها أشد وطأة وصعوبة. كما أنَ التدهور الذي شهدته ممالك إفريقيا الغربية خلال حِقَبها التاريخية المختلفة، لا يتمحور فقط حول التدهور السياسي فحسب؛ وإنما يرجع - أيضاً - إلى عوامل أخرى، اجتماعية واقتصادية، كان للكوارث الطبيعية من أوبئة، وجفاف، وفيضانات، دور كبير في تكريس الأزمات وتفاقمها؛ كتعطيل الحركة الاقتصادية، وبث الفوضى الاجتماعية، من نهب وسلب، وانخفاض معدل الإنتاج، وارتفاع نسبة البطالة... كل ذلك ساهم - بشكلٍ أو بآخر - في  سقوط هذه الممالك.

إذاً، يتعلق موضوع البحث الذي أتناوله بالدرس والتحليل، بالإجابة عن الإشكالية التالية: ما هي أهم الكوارث التي تعرضت لها منطقة إفريقيا الغربية خلال القرنين 11 و 16م؟ وما مدى تأثيراتها على المجتمع؟

أولاً: أهم الكوارث التي تعرضت لها ممالك إفريقيا الغربية

وأنا أبحث في متون وأمهات المصادر التاريخية، وكُلِّي أمل بأن أجد ما يشفي غليلي في هذه المصادر من معلومات، تمكنني من تناول موضوعنا ومعالجته بالشكل الذي يريحني نفسياً، إلا أنني وقفت مندهشاً ورحت أسال نفسي: لماذا صمتت هذه المصادر عن ذكر ما تعرضت له منطقة إفريقيا الغربية من كوارث مثل الأوبئة والجفاف والفيضانات، التي كان لها بالغ الأثر في بتر أوصال التطور الاقتصادي، والاجتماعي، وحتى السياسي لهذه الممالك؟

فكل ما تم ذكره حقيقة من معلومات، هو عبارة عن إشارات طفيفة وخجولة إن صح التعبير، لا تساعدنا في وضع جداول للأوبئة والمجاعات خلال الحقبة التي تهمنا؛ فتكتفي بالإشارة إلى وفاة عالِم أو صالح، أو عند طلب الاستسقاء من الولي أيام القحط والجفاف، وأحياناً نجد أنَ هذه المصنفات، قد أهملت حتى ذكر سنة المجاعة التي وقعت، في مقابل اهتمامها بكرامات هذا الفقيه أو ذاك، وأدواره الاجتماعية، دون ذكر الانعكاسات السلبية لهذه الجوائح على الفرد والمجتمع معاً. وكان أصحاب تلك المصادر، ينظرون إلى هذه الكوارث وتأثيراتها من ناحية دينية فقط، وأنها عقاب من الله، ونتيجة حتمية لفساد الأنظمة الحاكمة، وطغيانها.

فوق هذا وذاك، يمكننا القول: إن المعلومات الواردة في بعض ثنايا المصادر حول سنوات الجفاف، وما يتبعها من مجاعات ارتبطت أكثر بمراحل التقلب المناخي؛ أي أن المصادر لم تذكر إلا بعض الوقائع التي كان يشتد فيها الجفاف، وأنَّ سكوتها عن أحوال المناخ لحقب طويلة، لا يعني أن الوضع المناخي كان مستقراً.

واللافت للانتباه، أنه حتى بالنسبة للطاعون الذي تخاف منه الأمم، والذي ذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، على حدِّ تعبير العلَّامة ابن خلدون[1]، لا يتوفر بشأنه معطيات إحصائية، وكل ما هنالك بعض أسماء العلماء والصالحين، الذين هلكوا من جرائه.

إذاً، يمكننا القول: إنَّ المعلومات الواردة لدى أصحاب مصادرنا، هي معلومات جزئية، وغير مضبوطة، وغامضة، لا تسمح للباحث بمعالجة هذه الإشكالية بالشكل المطلوب، بل تُعقِّد مهمته، وتجعلها أكثر صعوبة. ومن هنا، نسجل سبب عزوف كثير من الباحثين عن تناول مثل هذا الموضوع. لذا، سنعمل قصارى جهدنا لتذليل هذه العقبات، والتغلب عليها، من خلال اتباعنا للمنهج التحليلي، الذي سيمكننا من تحليل ومناقشة الأفكار والمعلومات الواردة في هذه المصادر، ومن ثَمَّ تركيبها ضمن سلسلة حلقات متكاملة ومترابطة، نستطيع من خلالها رسم الخطوط العريضة للإشكالية المطروحة. 

الجفاف وفيضان نهر النيجر

شكَّلت المجاري النهرية عبر العصور التاريخية، جسوراً متحركة ربطت في إطار الوحدة السياسية بين مختلف جهات ممالك إفريقيا الغربية، من هذا الجانب أو ذاك، وعبر النهر جعل أباطرة هذه الممالك  من اقتصاد شعبهم، اقتصاداً متحركاً منفتحاً على إنتاج الممالك المجاورة، والبعيدة، وضمنوا لشعبهم الوحدة والأمن والاستقرار[2].

ولكن، ليس من قبيل الصدفة أن تربط الروايات الشفوية خلاء إقليم أوكار؛ حيث ازدهرت مملكة غانة زهاء عدة قرون بموت الإله الثعبان، ضامن الخصب والرخاء لشعوب السوننكي، الذين يُعدُّون مؤسسي مملكة غانة. إن الهجرات المكثفة التي شهدها الإقليم، والتي استمرت - حسب تصريح البكري - عدة قرون انطلاقاً من القرن الخامس الهجري (11م)، وكانت مرتبطة بظروف التصحر التدريجي الذي شهدته مناطق التاجنت، وأوكار، وغيرهما من الأقاليم الصحراوية التي تتعذر فيها الحياة حالياً.

 وتخبرنا بعض المصادر التاريخية بأن هذه الأقاليم شهدت مُدناً مزدهرةً ومزارع ورعياً مكثَّفاً كمملكة غانة، التي عرفت ازدهاراً كبيراً، فكانت قبلة للتجار، وعاصمة للإمبراطورية السوننكية، ومن المسلَّم به، أن قيامها لم يكن مرتبطاً فقط بموقعها بالنسبة لطرق القوافل التجارية، ومناطق إنتاج الذهب والملح؛ وإنما أيضاً بوجود عنصر الماء، الذي هو أساس الحياة، انطلاقاً من الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْـمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]

يفيد البكري أن غانة كان يوجد حولها آبار عذبة منها يشربون، وعليها يزرعون الخضروات، وتحيط بها غابات من كل الجوانب[3]، وربما اختلف الشريف الإدريسي ومن أخذوا عنه كابن سعيد المغربي، عن صاحب (المسالك والممالك) في تحديد موقع غانة على ضفاف نهر النيجر، أو أحد فروعه.  

حقيقةً، لا يهمنا كثيراً هذه الاختلافات في تحديد موقع مملكة غانة، بقدر ما يهمنا التأكيد على أن هجرات شعوب مملكة غانة من مواقعهم الأصلية في أوكار نحو الجنوب والغرب، كانت مرتبطة بظاهرة التصحر، والجفاف التي تعرضت لها المنطقة، وما تحميل شعوب الصحراء من ملثمين وطوارق مسؤولية طرد الشعوب السوننكية، والشعوب ذات البشرة السوداء عامة من أقاليم الساحل، ما هي إلا ضرب من المجازفة؛ بدليل أن معظم المدن الإفريقية الساحلية مغمورة حالياً بالكثبان الرملية، وتنعدم بها الحياة لانعدام عنصر الماء، كما يتضمن كلام البكري حقيقة أخرى تقلص من حظوظ غانة، لكي تكون مدينة أزلية وعالمية، يقول صاحبنا الجغرافي في هذا الصدد: لا يكاد يسلم الداخِل فيها من المرض عند امتلاء زرعهم، ويقع الموت في غربائها عند موسم الحصاد[4]

ويتقلص تأثير الجفاف كلما اقتربنا من المناطق المحاذية أو القريبة من أماكن انصباب المجاري المائية، فتأثير الجفاف في مدن مالي، وغاو، وجني، وغيرها من المدن النهرية، لم يكن يؤدي حتماً إلى تهجير هذه المدن من ساكنتها، وإنما ينعكس على ظروفها المعاشية[5]. يذكر البكري أنَ مملكة مالي ضربها جفاف خلال القرن 11م، ربما لم تعرفه من قبل، يقول البكري في هذا الصدد: أجدبت عاماً بعد عام، وأفنى العباد، وأتى على الأخضر واليابس، دون أن تجديَ القرابين المقدَّمة إلى الآلهة نفعاً، وإبَّان ذلك تقدم الفقيه المسلم بعرض إلى الملك؛ يتضمن الدعوة إلى الإسلام مقابل تخليصه من الكارثة الطبيعية التي ضربت شعبه، فكان ما كان من إسلام الملك وذويه، وتحطيم الدكاكير (الأصنام)، وإجلاء السحرة من البلاد[6].

كما أفادت بعض الروايات الشفوية أيضاً، حدوث هجرات لبعض عشائر مملكة مالي بسبب الجفاف الذي خربت بسببه العديد من المدن نحو الجنوب؛ أي صوب الفوتا ونهر السنغال، كونها مناطق آمنة، وأكثر إيفاء للعيش، وذلك في حِقَب تاريخية يصعب تحديدها، ولكن من المرجَّح أنها حدثت زمن حُكم الملك سوندياتا؛ أي النصف الثاني من القرن 12م.

يمكننا القول: إنَ الآثار السلبية التي خلَّفها الجفاف على اقتصاد أقاليم الساحل الإفريقي، لم تكن تختلف من حيث النتائجُ عما كانت تحدثه فيضانات النيجر والسنغال وغامبيا وغيرها من الأودية المتفرعة مثل: السنكراني، والفالمي، وغيرهما على القرى والمزارع المجاورة. ومن المرجح أن تكون مدينة كوكيا العاصمة الأولى لمملكة سنغاي مغمورة حالياً بمياه النيجر؛ لعجز الباحثين عن العثور على موقعها في المناطق اليابسة، وأن ذلك حدث بعد القرن العاشر الهجري (16م)؛ بدليل ورودها في المصادر البرتغالية، ولم تكن في الحقيقة المدينة الوحيدة التي غمرتها مياه نهر النيجر، بل ثمة جزر آهلة بالسكان، وقرى كبيرة كذلك[7]

في سنة 1001هـ/ 1592م غمرت مياه نهر النيجر مدينة تنبكت مخلفة دماراً كبيراً، تزامنت هذه الكارثة مع الاحتفالات بليلة المولد النبوي الشريف للسنة نفسها. وفي هذه الحادثة يقول صاحب الفتاش: ووافق مجيئه (القائد مامي) هنالك بليلة ذكرى المولد ثاني عشر من ربيع الأول من الحادي بعد الألف، هرب في هذه السنة أهل مدينة تنبكت، ودخل البحر، وحسب الناس أن الفناء يكون في غدها، وكم من رجال خرجوا منها في تلك الليلة وتركوا أموالهم وأولادهم وأزواجهم، وما حملوا من ديارهم حتى العصي، ومضوا وما رجعوا إليها بعد ذلك، واكتسب بعض سفهاء المدينة في تلك الليلة أموالاً طائلة، وترى رجلاً يدخل على قوم في ديارهم ويرفع منها ما يشاء ويخرج به، ورب المنزل وذووه ينظرون إليه ولا يقول له أحد منهم شيئاً[8].

وباء الطاعون الأسود والجراد

تطالعنا التواريخ السودانية أنَ مملكة سنغاي عرفت ما بين عامي (1535 - 1586م) سلسلة من الأوبئة الفتاكة، مخلِّفة وراءها كثيراً من الضحايا. ولكن في ظل غياب معطيات إحصائية يصعب علينا معرفة عدد الأفراد الذين ماتوا في هذا الوباء؛ غير أن صاحب (تاريخ الفتاش) يشير إلى أنه في حقبة حُكم الأسكيا محمد بنكن (1531 - 1537م) توفي الحاج أحمد بن عمر بن محمد أقيت، ليلة الجمعة غرة الربيع الآخر عام اثنين وأربعين وتسعمائة (سبتمبر 1535م) في الطاعون الـمُسمى (كف)، ومات في هذا الطاعون أناس كثر[9].

وتعدُّ حقبة حُكم أسكيا إسماعيل (1537 - 1539م) من أكثر الحقب تعرضاً للكوارث؛ فبالإضافة إلى الوباء المعروف باسم (كف) الذي استمر تأثيره إلى حدود هذه الحقبة الزمنية، عانت البلاد من القحط والجوع طوال مدة حكمه. كما عُرفت أواخر حقبة حُكم الأسكيا إسحاق الأول (1539 - 1549م) الوباء نفسه، الذي أودى بحياة عدد من الفقهاء المشهورين، كالقاضي محمود بن عمر أقين (رمضان 1549م)[10]. وفي أواخر حكم الأسكيا داوود (1582 - 1588م)، وبداية حُكم ابنه وخليفته أسكيا الحاج (1582 - 1588م)، تعرضت مدينة تنبكت إلى وباء عظيم مات فيه عدد كبير من الناس[11]. والغالب على الظن أنَّ المقصود بهذا الوباء هو الطاعون.

استناداً إلى المعطيات سالفة الذكر، يبقى السؤال المطروح هنا: هل كان لهذه الأوبئة علاقة بالكوارث الأخرى التي تعرضت لها منطقة شمال إفريقيا وأوروبا، على الأقل بالنسبة للقرن العاشر الهجري (16م)؟

حقيقةً، لا نعرف على وجه الدِّقة علاقة هذه الأوبئة، التي كانت تضرب مناطق إفريقيا الغربية بين فينة وأخرى، بتلك التي تعرضت لها بعض بلدان شمال إفريقيا وأوروبا؛ فمن الصعب علينا - في ظل غياب المادة العلمية - وضع تطابق زمني كلِّي، إلا أن التقارب التاريخي الموجود  بين الأوبئة التي ضربت مناطـق شمال إفريقيا، وخاصة منطقة المغرب الأقصى، وتلك التي تضررت منها ساكنة إفريقيا الغربية، التي في كل الأحوال لا تختلف في كونها أوبئة فتاكة ومعدية، يجعلنا نفترض أنَ تنقلات البضائع والمسافرين، من تجَّار وغيرهم عبر الصحراء، قد تكون عاملاً أساسيّاً في نقل وانتشار الأمراض، سواءٌ من هذا الجانب أم ذاك.

ثانياً : أثر الكوارث على الاقتصاد والمجتمع

أسفرت الكوارث عن تفاقم وظهور كثير من المشاكل التي أدت في النهاية إلى زعزعة الأسس المادية للنشاط الفلاحي، وأعاقت تطور الزراعة والغراسة والرعي. ويأتي في مقدمة هذه العوائق، قلَّة اليد العاملة الزراعية، وما يتبع ذلك من نقص في المحاصيل الزراعية، بفعل هلاك العديد منها بهذه الجوائح. ولم يكن الموت العامل الوحيد الذي أدى إلى نقصان اليد العاملة الزراعية، بل ساهم فيه كذلك تسليم بعض سكان المناطق المتضررة من الكوارث أنفسهم وذويهم للنصارى الموجودين في السواحل الغربية لإفريقيا مقابل الطعام، والبقاء على قيد الحياة.

وكما تضرر المزارعون من جراء القحط والمجاعات والطاعون؛ فإنَّ حظ الرعاة لم يكن بأحسن منهم؛ فإن القحط قد أدى إلى تقليص المجالات الرعوية، وموت كثير من رؤوس الماشية. وكانت موجات الجفاف تُزْكي أيضاً النزاع بين القبائل الرعوية حول مجالات الرعي، لتوفير المراعي لقطعانها، على حساب القبائل الأخرى.

زبدة القول، أن الكوارث لم تسمح بحدوث طفرة زراعية؛ وإنما ساهمت بقسط لا بأس به في تقليص المساحات المزروعة، وما ترتب على ذلك من نقص الإنتاجية، وانتشار الرعي على حساب الزراعة والغراسة. وإجمالاً، أسفرت هذه الكوارث في حدوث خلخلة في التوازنات الاقتصادية للمزارعين والرعاة، الذين لم يكن بوسعهم - أمام هذه المشاكل المتعددة والمتشابكة، وضعف أساليب مواجهتها - سوى الهجرة عن الأرض، أو - على الأقل - البحث عن وسائط حقيقية أو وهمية للحماية، كاللجوء إلى أولياء العصر لطلب المساعدة[12].

كانت هذه أبرز آثار الكـوارث على المجال الزراعي؛ فما هي أهم تجليات القحط والأوبئة على الحِرَف والتجارة؟

إن الضرر الذي لحق بالنشاط الزراعي من جراء هذه الكوارث ترك بصماته السلبية على النشاطين الحِرَفي والتجاري بشكل عام؛ لأن البادية كانت هي المزود الأول للنشاطين معاً بالمواد الأولية. كما انعكس النشاط التجاري على النشاط الحرفي؛ لأنه كان يشكل الرئة التي تتنفس منها المنتجات الحرفية.

لقد أسفر القحط والمجاعات والأوبئة عن موت العديد من اليد العاملة، ولا غرو أن الفقر الذي عاش فيه قسم كبير من أصحاب الأيدي العاملة، ساهم بشكل كبير في موتها؛ فقد كانت قدرتها ضعيفة في مواجهة هذه الشدائد، وإنَّ تأثُّر الحِرَف من جـراء المجاعات والأوبئة، لم ينتج عنه وفاة اليد العاملة الحرفية فقط؛ بل كذلك فرار كثير من سكان المدن، وتغيير وجهات سكناهم نحو مناطق أكثر أمناً واستقراراً.

ومن الانعكاسات الاقتصادية الأخرى لهذه الكوارث، ضعف القدرة الشرائية للسكان خلال الجوائح؛ فلا تكاد تمر مجاعة أو وباء إلا وارتفعت الأسعار فأثَّرت مِن ثَمَّ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للفرد. فيمكننا القول: إن الكوارث كانت تعرقل جهود الحِرفيين والتجار، وتخرب الشروط اللازمة لتقدم حِرَفهم وتجارتهم، والراجح أن المشاكل التي أفرزتها هذه الجوائح أدت في نهاية المطاف إلى إفلاس العديد من التجار، وخاصة الصغار منهم، ويبدو أن بعضهم تحوَّل إلى مجرد وسيط تجاري، في حين التحق بعضهم بصفوف العاطلين[13].

على ضوء التوضيحات سالفة الذكر، يمكننا القول بكل اطمئنان: إن للكوارث التي اجتاحت المنطقة تأثيراً سلبياً كبيراً وواضحاً على المجال الاقتصادي لا يمكن لأي باحث إنكاره؛ فما تعطُّل الأنشطة المختلفة للساكنة، إلا تأكيدٌ لما نذهب إليه، وهذا الانعكاس سيترك آثاراً - بطبيعة الحال - كبيرة على وجود الدولة؛ نتيجة تأزم الأوضاع السياسية فيها، وانعدام الأمن، وانتشار اللصوصية، وكثرة الظلم، ويجعلها عُرضة للطامعين والمتربصين بها، للانقضاض والسيطرة عليها في الوقت والزمان المناسبين.

فوق هذا وذاك، ساهمت الكوارث بشكل أو بآخر في تكوين مجتمعات طبقية جديدة، تقوم على ثوابت أخرى غير الأسرة، خصوصاً في الحواضر؛ فأصبح مجتمع غرب إفريقيا - نتيجة لذلك - منتظماً على شكل طبقات مغلقة، تشمل فئتي الأحرار والعبيد، وتقوم بالأساس على التقسيم الوظيفي؛ الذي أصبح يشكل مع مرور الوقت حدوداً عرقية تجعل الاختلاط الوظيفي بين العناصر المكوِّنة لهذه الطبقات المغلقة ضرباً من المستحيل.

الخاتمة:

في ختام هذه الدراسة يمكن القول: كان للكوارث دور محوري في خلخلة النظامين الاقتصادي والاجتماعي لممالك إفريقيا الغربية؛ فتدهورت أحوال الناس الاقتصادية، وتفشَّى الفقر بين نسبة كبيرة من الساكنة، وتعطلت عجلة الاقتصاد، وانتشرت البطالة، وانخفض الإنتاج. وكذلك ساهمت هذه الكوارث في زعزعة الحالة السياسية؛ فانعدم الأمن، وعمَّ الفساد، وكثر الظلم. كل ذلك كان من شأنه أن يؤثر بشكل أو بآخر في إضعاف الدولة وفقدان هيبتها أمام مواطنيها، وأمام الطامعين بها خارجياً، وهو ما يجعلها عرضة للسقوط في أي لحظة.

ولكن حتى نكون موضوعيين في معالجتنا لهذا الموضوع، يمكن القول: ليست الكوارث هي السبب الوحيد لسقوط هذه الممالك، فثمة أسباب أخرى داخلية من صراعات على العرش، وفساد بعض الأنظمة السياسية، وعوامل خارجية، متمثلة بتنامي التغلغل الأوروبي على السواحل الغربية الإفريقية. فكل هذه العوامل ساهمت مجتمِعة ومتداخلة في أفول هذه الممالك، وسقوطها.


 


[1] ابن خلدون، 1978م، المقدمة، بيروت: دار الكتب العلمية، ص42.

[2] Niane (D.H), 1960, Soundiata ou lépopée mandingue, éd. Présence Africaine, Paris, p377.

[3] البكري عبد العزيز، 1965م، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، باريس: ميزونوف، ص175.

[4] المرجع السابق، ص177.

[5] زوليخة بنرمضان، 2015م، المجتمع والدين والسلطة في إفريقيا الغربية ما بين القرنين 11 و 16، الرباط: منشورات وزارة الأوقاف، ص599.

[6] البكري عبد العزيز، مرجع سابق، ص178.

[7] زوليخة بنرمضان، مرجع سابق، ص600.

[8] محمود كعت،1981م، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وآكابر الناس وذكر وقائع التكرور وعظائم الأمور وتفريق أنساب العبيد من الأحرار، باريس، ميزونوف،  ص170.

[9] المصدر السابق، ص93.

[10] عبد الرحمن السعدي،1981م، تاريخ السودان، ترجمة من الفرنسية أوكتاف هوداس بمشاركة تلميذه السيد بنوة، باريس،  ميزونوف،  ص92.

[11] Trimingham (J.S) , 1962, A History of Islam in West Africa, Oxford, p. 93.

[12] عبد الله عيسى، 2017، الإسلام وبدايات التدخل الأوروبي في إفريقيا الغربية ما بين القرنين 15 ـ 17، القاهرة: منشورات المكتب العربي للمعارف ص. 138.

[13] عيسى، ص. 138.

 

 


أعلى