{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} الجماعة الأم... وفريضة الوقت

الجماعة الأم... وفريضة الوقت

لم يسبق لأمة الإسلام في العصر الراهن؛ أن مرَّت عليها متغيرات فاعلة وفاصلة كالتي تمرُّ بها اليوم، فنحن في مرحلة تبرز فيها ظواهر محيرة، حيث يبدو الأمر الواحد مزدوج الوجه: شق مشرق مضيء، والآخر مظلم معتم.

- فبينما يعيش الإسلاميون - والمسلمون وراءهم - في بلدان كثيرة، مرحلة اقتراب من دخول عصر القوة والتحرر والتمكين، نجدهم في الوقت نفسه يحيون أكثر المراحل خطورة ووعورة بسبب التحديات الجسيمة المجتمعة عليهم؛ لإرجاعهم إلى الوراء دهوراً، بعد استدراجهم ثم التفرد بهم.

- وبينما تتميز المرحلة بأن الأعداء المتربصين - داخلياً وخارجياً - في أضعف أحوالهم،وأكثرها انكشافاً وانفضاحاً، مقارنة بما كانوا عليه في العقود الطويلة الماضية؛ فإن الشواهد تظهرأنهم سيكونون أكثر مكراً و شراً وشراسة، لاستيلاء المخاوف عليهم من نهوض ثم صعود العملاق الإسلامي المتطلع إلى استرجاع حقوقه، واسترداد كرامته.

- وبينما نرى الشعوب العربية والإسلامية في أقرب أحوالها دنواً من الإجماع على اختيار المشروع الإسلامي وممثليه؛ نجد الممثلين لذلك المشروع في الفصائل والتيارات؛ على أبواب مرحلة من الاستغراق في الخلافات والنزاعات والتنافسات على غنائم ماقبل النصر، بما قد يؤخر هذا النصر، ويهدد نجاح ذلك المشروع. وهذا أخطر ظواهر المشهد إثارة للمخاوف والقلق!

 لهذا؛ فلا خيار أن يتداعى العقلاء والحكماء في كل اتجاه سريعاً إلى الاستعصام بالله، والالتحام بالأمة، والائتلاف فيما بينهم على كلمة سواء.

الجماعة الأم: واقع منظور وأمل منتظر:

وأعني بالجماعة الأم هنا؛ ذلك الكيان الرحب، الجامع في ساحاته وفضاءاته كل ملتزم بالإسلام الصحيح وعامل له، سواء أكان عربياً أم أعجمياً، عالماً أم عامياً، منتمياً أم مستقلاً من المنضوين تحت اللواء الجامع؛ لواء أهل السنة والجماعة.

لاشك أن الأصل هو الانتماء للإسلام، لولا أن مسمى الإسلام قد زوحم منذ وقت مبكر من التاريخ الإسلامي، بالاشتراك فيه من الفرق المنحرفة عنه، التي أخبرالنبي صلى الله عليه وسلم، عن افتراقها عن الأمة في قوله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) قالوا يا رسول الله! من الفرقة الناجية؟ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي رواية: (هي الجماعة يد الله على الجماعة)[1].

 إن تلك (الجماعة) هي حقاً الجماعة الأم لكل الجماعات التي مثلت الإسلام الصحيح عبر التاريخ الإسلامي، ف (الأم) هنا مرادفة لـ (الأمة) التي جاء القرآن بمدحها، وإعلاء شأنها، في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . فلايمكن أن تكون هذه الأمة الممدوحة شيئاً آخر غير السواد الأعظم، الذي ينهج منهاج النبوة، على طريق الصحابة.

 لا أريد هنا أن أنزع وصف (الجماعة الأم) عن جماعة الإخوان المسلمين التي اشتهرت بذلك الوصف، فهذا وصف نسبي لها، باعتبارها الجماعة المعاصرة الأولى التي أسست للحركة الإسلامية السُنية، ذات الطابع السياسي والعالمي، ثم تفرعت منها معظم الجماعات الحركية، فتلك الجماعة - بهذا الاعتبار التاريخي، جديرة بذلك الاسم على ذلك المستوى، فهو حق لها ولائق بها، مهما كان الاتفاق أو الاختلاف معها، لكنها في الوقت نفسه إحدى فصائل أو تيارات الجماعة الأم الكبرى

التي لها اليوم فروع وفصائل وتيارات عديدة في أنحاء العالم ذلك، كان من واجبها أن تتقارب وتتعاون على البر والتقوى، تحت مظلة المشروع الواحد: (المشروع السني)، خاصة وأن تلك التيارات؛ تتبادل فيما بينهما أدوار التخصصات المختلفة في ميادين العمل الإسلامي، وهذا من شأنه أن يجعلها تتكامل في طور النهوض الذي تعيشه الأمة اليوم. لكن الواقع المعاش على الأرض؛ أن أمة الإسلام التي افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، بحيث لم تبق فيها إلا فرقة واحدة على النهج الصحيح- وهي طائفة السنة والجماعة - هذه الطائفة يجري تقسيمها هي الأخرى منذ زمان، لتُنصب بداخلها معاقد ولاء وبراء، وحُب وبغض، على أسس حزبية مفرقة، بدلاً من الأسس المنهجية الجامعة.

هذه (الجماعة / الأمة) مدعوة اليوم قبل الغد؛ أن تتداعى فصائلها إلى كلمة سواء، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتلبية دعوة؛ لم تطلقها جماعة ولا هيئة ولا شخص، بل هي دعوة نادى بها الوحي في عبارات فصيحة صريحة من فوق سبع سموات، وقبل أكثر من ألف وأربعمئة عام، دعوة تقول:

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}

وكلمة (جميعاً) هذه.. تنظم كل عامل للإسلام الحق، لأن هؤلاء (جميعاً) على اختلاف تجمعاتهم، يعيشون اليوم مرحلة فاصلة بين عصرين، عصر العودة والتمكين والانتعاش، أو عصر التراجع والضمور والانكماش، هم مخيرون اليوم بين أن يكونوا أو لا يكونوا، لأنهم (جميعاً) مستهدفون، و (جميعاً) مرصودون محسودون.

إن الاعتصام المطلوب، ليس خياراً «تكتيكياً» كذلك الخيار المؤقت الذي تقوم عليه التحالفات والصفقات السياسية أو العسكرية، بل هو ليس خياراً (إستراتيجياً) بحيث يخضع لمعايير التغيير مستقبلاً بحسب نجاح الخطط أو إخفاقها، ولكنه ينبغي أن يكون قراراً مصيرياً، وليس خياراً مرحلياً؛ لأنه فريضة يعدُّ التفريط فيها تضييعاً لأصل من أصول دعوة الإسلام.

إن هذه الدعوة: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} توجيه رباني تربى عليه الجيل الأول الذي خوطب به أول مرة، والدعوة إلى الاعتصام في تلك الآية جاءت في سياق عدد من التوجيهات القرآنية، الهادفة إلى ترشيد المسار العملي والوظيفي للحاملين لراية الدعوة الإسلامية في عصر النبوة، ومَنْ بعدهم مِنْ أجيال العاملين.

وقد سُبقت تلك الآية من سورة آل عمران، بتوجيه واضح، بالحذر واليقظة من عاقبة الغفلة عن المكر الكبار للمتربصين بالدعوة من الكفار، وخاصة كفار أهل الكتاب الذين يكفرون بآيات الله وهم يشهدون، ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم شهداء، ويدخل معهم - بآيات أخرى - أولياؤهم من المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]. فالضرر الحاصل من الغفلة عنهم أو إحسان الظن بهم والاستجابة لهم في تفريق الصف؛ لا يهدد فحسب كيان المسلمين في الدنيا، بل يهدد أصل تمكسهم بالدين، {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}.

ثم يُردَف الكلام بمدخل لفريضة الاعتصام، التي يمثل القيام بها إقامة لأكثر الواجبات، وحلاً لأكثر المعضلات: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 102].

ثم تتابع سلاسل الحل الذهبية لكبرى الأمراض والمشكلات التي عانت وتعاني منها الأمة الإسلامية، في سياق راق رائق، يتضمن بيان الأسس التي يجب أن يبني عليها المسلمون صروحهم، وذلك بالنداء الموجه لكل مسلم، في خاصة نفسه ثم فيمن ولَّاه الله أمره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 202]، وذلك بطاعته حق الطاعة، بدلاً من طاعة الكافرين التي لا يزداد من خضع لها إلا خبالاً وضلالاً.

 ثم قال الله: {وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} والثبات على الإسلام حتى الممات؛ ليس مجرد قدر يُنتظر، بقدر ماهو نعمة تُسأل، وتوفيق يُرجى، وتكليف له أسباب. أما أسبابه على مستوى الفرد؛ فهي أن يُتقى الله حق تقاته - كما في الآية - وأما الأسباب على مستوى المجموع فإنها مجموعة في التكليفين العظيمين الآتيين في الآية بعدها، فأحد هذين التكليفين أمر، وهو {وَاعْتَصِمُوا} والثاني نهي، وهو {وَلا تَفَرَّقُوا}. فهما تكليفان يأخذان بمجامع الطاعات المأمور بها في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ويُبعدان عن عظائم المخالفات المحذورة بقوله تعالى: {إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]. فالتكليف الأول {وَاعْتَصِمُوا} يُوصل إليه بأكثر شعب الإيمان، والثاني {وَلا تَفَرَّقُوا}؛ تنشأ عن مخالفته أكثر شعب العصيان.

كيف نعتصم وبِمَ نعتصم؟

الاعتصام في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} هو - كما قال القرطبي - من العصمة، وهي المنعة، فالمعنى: امتنعوا، أو خذوا بسبب المنعة وهو (حبل الله) الذي ينجو من استمسك به من كل خطر، فبِهِ - كما قال الطبري - يُوصَل إلى البغية والحاجة. ومعنى الحبل في اللغة - كما عرَّفه ابن عاشور - «ما يشدُّ به للارتقاء أو التدلي، وأصل استعماله في الأجرام المحسوسة، واستعماله في المعاني من باب المجاز أو الاستعارة، فالحسي يُنجي من التردي والسقوط، والمعنوي يُنقذ من الردى والضلال.

وقد تنوعت عبارات المفسرين في تعيين المراد من الحبل هنا على ستة أقوال، كلها متقاربة، فذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن حبل الله في الآية هو (القرآن)، وفي قول آخر له، هو: (الجماعة) وقال أبو العالية: هو (الإخلاص لله وحده) وقال الحسن: هو (طاعة الله). وذهب قتادة إلى أنه: (عهد الله وأمره)، وقال ابن زيد: (الإسلام). (راجع تفسير الطبري للآية 103 من آل عمران).

والمتأمل في هذه التفسيرات؛ يجد أنها من باب اختلاف التنوع لا التضاد، فهي غير متعارضة، بل متعاضدة. فـ (القرآن) هو محتوى (الإسلام) الذي يقوم على (الطاعة لله) وفاء وقياماً ب (عهد الله وأمره) وهذان لا يقومان إلا بأمرين: (الإخلاص) المقترن بالاتباع، الذي لايتحقق إلا على منهاج (الجماعة) أو منهاج السنة، الذي ليس وراءه إلا مناهج الابتداع.

وقد ربط الطبري - رحمه الله - بين المعاني التي ذهب إليها المفسرون من السلف فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}: «يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به وعهده الذي عهده إليكم في كتابه، من الاجتماع على الحق، والتسليم لأمر الله».

تأملات في معنى (الجماعة):

باستقراء أقوال أهل العلم من المفسرين وغيرهم في ربط (الاعتصام بحبل الله) بالجماعة؛ سنجد أن هذه الجماعة لا يمكن أن يكون المقصود بها إلا المنهج الذي يجب الاجتماع حوله، فهي ليست مجرد تجمع عضوي - مع أهمية ذلك - لأن ذلك التجمع إذا وُجد فإنه لا يستمد قيمته إلا من الاجتماع على المنهج المقبول، الذي لا يمكن أن يكون إلا منهج (أهل السنة والجماعة) الواضح المعالم، المحكم الأركان والموثق في الدواوين، والمأمور باتباعه في كل آن ومكان، على خلاف غيره من مناهج الاختلاف والتفرق، حيث لا يتصور - مثلاً - أن يكون حبل الله العاصم هو منهج التشيع الضال، أو يكون الحبل المأمور بالاعتصام به هو منهج التجهم أو الاعتزال، أو منهج الخوارج أو القدرية أو الصوفية أو غير ذلك من المناهج القديمة المنحرفة أو المعاصرة المضللة، التي يحاول بعضهم خلطها بمنهج الإسلام الصافي الوافي - منهج أهل السنة والجماعة - فكل المناهج المناقضة أو المناهضة له؛ إنما توصل إلى الفرقة بقدر ما فيها من كدر، ولذلك فإن من رجَّح أن المراد بالحبل المأموربالاعتصام به هو (الجماعة)؛ دلل على ذلك - كما قال ابن عادل الحنبلي- بأنه أعقبه النهي عن التفرق.

وقد جعل ابن القيم - رحمه الله - (الاعتصام) منزلة عظيمة من منازل السائرين إلى رب العالمين وعرَّفه بقوله: «الاعتصام: افتعال من العصمة، وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف. فالعصمة الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سُميت القلاع: العواصم لمنعها وحمايتها». وجعل - رحمه الله - الاعتصامَ قسمين:

الأول: اعتصام بالله، دلَّ عليه قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج: 78]. وهو يعصم من الضلالة، فهو كالدليل يهدي إلى الطريق.

والثاني: اعتصام بحبل الله، وهو المدلول عليه بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}. وهويعصم من الهلكة، فهو كالعدة والسلاح والقوة التي بها تحصل السلامة من آفات الطريق. وقال عنهما: «ومدارالسعادة في الدنيا والآخرة على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولانجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين. (مدارج السالكين 1/460).

 وقسَّم ابن القيم الاعتصام بحبل الله إلى نوعين:

الأول: اعتصام توكل واستعانة، وتفويض ولجوء وعياذ بالله وإسلام نفس.

والثاني: اعتصام بوحيه وتحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ومعقولاتهم وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم.(مدارج السالكين 3/323).

ثم قال: «فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله علماً وعملاً وإخلاصاً واستعانه ومتابعة. واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة». (مدارج السالكين 3/323).

والاعتصام بحبل الله - على هذا النحو الذي حكاه ابن القيم - هو الاسلام المحض والدين الخالص، الذي لايمثله إلا منهج (الجماعة) وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا بالسير عليه والدعاء به، والثبات على نهجه، قال ابن تيمية - رحمه الله - «فأمَرَ الله سبحانه في (أم الكتاب) التي لم ينزل في التوراة ولا في الانجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، والتي أعطيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش، والتي لا تجزئ صلاة إلا بها، أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم كاليهود ولا الضالين كالنصارى، وهذا الصراط المستقيم هو الإسلام المحض، وهو ما في كتاب الله، وهو السنة والجماعة، فإن السنة المحضة هي دين الإسلام المحض» (مجموع الفتاوى 3/369).

وإذا كان الاعتصام بكتاب الله على منهاج السنة والجماعة، بهذه المنزلة من الدين؛ فإن ثماره لا يكاد يحصيها العادُّون، أو يؤدي شكرها الشاكرون، قال ابن القيم: «إن ثمرة الاعتصام به: هي الدفع عن العبد، والله يدافع عن الذين آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب، ويحميه منه، فيدفع عنه الشبهات والشهوات، وكيد عدوه الظاهر والباطن، وشر نفسه، ويدفع عنه موجبات أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فقد تنعقد في حقه أسباب العطب، فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها، ويدفع عنه قدره بقدره، وإرادته بإرادته، ويعيذه به منه» (مدارج السالكين (462/1).

 التفسير الوظيفي للآية:

بمزيد من التأمل في قوله سياق تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، نرى الآية تسوق - عملياً - إلى الدلالة على أسس النجاة ودعائم الحماية لمن يريد التعلق بحبل الإنقاذ الإلهي، وهو ما امتن الله به على الجيل الأول من هذه الأمة عندما قال لهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: 103] .

ذلك أن الله تعالى بعد أن حذر المؤمنين من موالاة وطاعة الكافرين في الآية قبلها في قوله: {إن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].

شرع يبين لهم معالم النجاة على مستوى الفرد، في المجال القلبي، وعلى مستوى الجماعات، في المجال المنهجي، وعلى مستوى الأمة كلها، في المجال العملي والعضوي، وذلك على الأسس التالية:

الأساس الأول: وهو سبيل للنجاة على المستوى الفردي في الصورة القلبية، وذلك بطاعة الله وحده امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} فاتقاء المحظورات؛ طريق للنجاة من الخطر الأكبر الذي لا خيار في اتقائه، وهو عذاب الله في الدار الآخرة، لأن من خالف طريق التقوى لا يؤُمن عليه أن يموت على غير ملة أهلها، ولهذا قال بعدها {وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، يعني اثبتوا على طريق التقوى وزنوا أعمالكم بميزانها طوال عمركم، فإن من عاش على شيء مات عليه، ولهذا كان النهي عن الموت على غير الإسلام تكليفاً بالمستطاع، إذ في استطاعة كل إنسان أن يثبت بحسب وُسعه على طاعة الله طوال عمره، حتى إذا انتهى عمره أتته منيته وهو مسلم.

وقد عرَّف طلق بن حبيب - أحد علماء التابعين - التقوى المأمور بها هنا بقوله: «هي العمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله». وهو كلام وضئ كما ترى، لو وُفق المسلم في مراقبة نفسه على أساسه؛ لظفر بحسن الخاتمة، ولم يمت إلا وهو مسلم.

ولو نجح الدعاة في أن يجعلوا ذلك التعريف منطلقاً في التربية السلوكية الفردية، لعالج تلقائياً الكثير من الآفات والأمراض التي تعج بها الساحات الاسلامية، بسبب غلبة المعايير الحزبية، والمقاييس الذاتية، التي تفسد المقاصد، وتُلبِّس الحقائق.

الأساس الثاني: وهو سبيل النجاة على المستوى الجماعي في الصورة المنهجية، وذلك باتخاذ منهاج (الجماعة) مرجعاً في الاعتقاد وأصول التشريع وأسس العلاقات، وهذا هو المدلول عليه بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} وقد تبين أن ابن مسعود - رضي الله عنه - فسر (حبل الله) بأنه القرآن، وبأنه الجماعة، يعني القرآن على منهاج فهم الجماعة.

الأساس الثالث: وهو سبيل النجاة على مستوى الأمة، في الصورة العضوية أو النظامية العملية: والمشار إليه بقوله: (جميعاً) أي «كونوا في اعتصامكم مجتمعين» كما قال ابن عطية في (المحرر الوجيز)، ذلك أنه لا يكفي أن يكون المنهج مرجعية نظرية، بل لابدَّ أن يحصل الاجتماع عليه والتعاون لنصرته في الصورة الواقعية.

 ثم جاء التأكيد على تلك الأسس الثلاثة، بالنهي عن أضدادها في قوله تعالى:

{وَلا تَفَرَّقُوا}

فالفرقة تزداد، بحسب غياب ميزان التقوى على مستوى الفرد، وغياب مقياس المنهج على مستوى الجماعات، وغياب مسلك الاجتماع والوحدة على مستوى الأمة.

وقوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} نهي عن سلوك سبل (أهل الفرقة والبدعة)، من القدماء والمعاصرين، كما أن الأمر بالاعتصام {وَاعْتَصِمُوا} تكليف بسلوك سبيل أهل السنة والجماعة، فكما أن للاعتصام والاجتماع أصولاً تتبع، في شرائع تمتثل من شعب الإيمان؛ فإن للفُرقة أسباباً من المخالفات وشعب العصيان، ولكل منهما أهل.

وشُعب العصيان التي توصل للفرقة؛ قد شنع عليها القرآن، حتى قرن سبيل التفرق في الدين بأوصاف الكافرين والمشركين، فقال سبحانه محذراً من انتهاج طريق التفريق: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ 31مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31- 32] وبرأ رسوله من ذلك فقال: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] ورهَّب من سوء المصير معهم فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 105يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 106 وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 - 107]. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - «تبيضَّ وجوه أهل السنة والجماعة، وتسوَّد وجوه أهل الفُرقة والبدعة» (انظر: تفسير ابن كثير للآية).

إن من وجوه الفرقة في الدين؛ التفريق بين المؤمنين على أُسس غير مشروعة للولاء والبراء، كتلك الحزبيات المقيتة التي تقيم علاقات القلوب على غير عُرى الإيمان، من الحب في الله والبغض في الله، فتحل بدلاً من ذلك؛ الحب لأجل الجماعة - بمعناها الضيق - أو لأجل البلد أو الحزب أو الشيخ أو الزعيم، وكذلك الشأن في البُغض، وهذا مرض عُضال، لا يجوز التعامل مع المسلمين على أساسه بحال، قال ابن تيمية: «وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا التفريق الذي حصل من علماء الأمة ومشايخها، وأمرائها وكبرائها، هوالذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب».

 


[1] رواه أصحاب السنن والمسانيد، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/345) صحيح مشهور، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1492): «صحيح».

أعلى