• - الموافق2024/05/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المرتزقة الجدد.. الدور والخلفيات

امتدَّت التساؤلات.. هل فاغنر أنموذج تفرَّدت به روسيا أم توجد مثيلات لها في دول أخرى؟ خاصة أنه منذ سنوات قليلة ماضية كانت فضائح نظيرتها الأمريكية بلاك ووتر تملأ السمع والبصر؟


أثار تمرُّد قوات فاغنر ضد الدولة الراعية لها، وهي روسيا، التساؤلات حول طبيعة تلك القوات ودورها داخليًّا وخارجيًّا، وعلاقتها بالجيش الروسي، خاصةً أن الحديث يدور عن قوات تتبع لشركة خاصة يملكها أحد المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وامتدَّت التساؤلات.. هل فاغنر أنموذج تفرَّدت به روسيا أم توجد مثيلات لها في دول أخرى؟ خاصة أنه منذ سنوات قليلة ماضية كانت فضائح نظيرتها الأمريكية بلاك ووتر تملأ السمع والبصر؟ وما هو الدور التي تلعبه أمثال تلك القوات العسكرية، والتي يجري الحديث عن أنها تأتمر بإذن شركات تديرها؟ ولماذا لجأت هذه الدول للتصريح بالشركات الخاصة لإنشاء هذا النموذج العسكري؟

خاصة أن هذا النموذج يستقلّ في إدارته عن الجيوش العسكرية والقوات النظامية، والتي ارتبطت بالدولة القومية الحديثة، والتي يقول عنها عالم الاجتماع السياسي الألماني الشهير ماكس فيبر «الدولة، دون سواها، تبقى صاحبة الحق الحصري، والمطلق، في احتكار شرعية استخدام القوة، ومباشرة الإرغام، وممارسة العنف المُقنَّن».

للإجابة عن هذه التساؤلات؛ يلزمنا أولاً البحث عن طبيعة تلك القوات العسكرية، وتاريخها، ثم الأدوار التي تلعبها داخل استراتيجيات الدول التي تُحرّكها، سواء كان ذلك التحريك علنيًّا، أو من وراء الستار.

المرتزقة.. بين المصطلح والتاريخ

يُعرِّف الدكتور مروان العطية في كتابه «معجم المعاني الجامع» المرتزق بأنه الجندي الذي يتَّخذ من الحرب وسيلةً للارتزاق. بينما فصَّل الدكتور نزار العنبكي في كتابه «القانون الدولي الإنساني»، فجاء تعريفه أكثر شمولًا؛ فالمرتزق هو الشخص الذي لا يحمل جنسية أطراف النزاع، وهو الذي لا يكون تجنيده إلزاميًّا مِن قِبَل أيّ طرف، فهو يتَّخذ من القتال مهنة يَجْني بها المال.

ولذلك، وفق هذه التعريفات، ينبغي التفريق بين المرتزق والمتطـوع؛ فـالمرتزق يشترك في الأعمال العدائية إلى جانب أحد أطراف النزاع؛ رغبةً في الحصول على المال، فهو يتَّخذ من هذا العمل القتالي إلى جانب أحد أطراف النزاع مهنةً تعـود عليه بالكسب والنفع، أما المتطوع فهو يقاتل إلى جانب أحد أطراف النزاع دفاعًا أو انطلاقًا من مبدأ يُدافع عنه.

والمرتزقة أو الذين يقاتلون من أجل المال موجودون في الحروب والمعارك على مدار التاريخ، وتشير دراسة عنوانها «المرتزقة والحرب: فهم الجيوش الخاصة اليوم» لأستاذ العلاقات الدولية «شون مكفيت» -والمنشورة في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية في عام 2019م- إلى أن براهين تأجير مقاتلين متوافرة منذ أصبحت هناك وثائق، ولو حتى محفورة على الصخور.

أما بداية تأسيس الشركات العسكرية والأمنية الخاصة فيعود لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد تأسيس شركة «داين كورب» على أيدي جماعة من المحاربين القدامى في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1946م، بينما يُرجعها آخرون إلى أنها تعود لفترة منتصف الستينيات من القرن الماضي، حين أنشأ الكولونيل الإنكليزي الأسكتلندي السير ديفيد سترليتغ «شركة ووتش غارد إنترناشيونال» والتــي قدَّمــت خدماتهــا لبعــض دول المنطقة.

وتطوَّر الأمر إلى أن تقوم بعض الدول بنفسها بتدشين هذه الشركات؛ بحيث تبدو وكأنها ظاهريًّا شركات خاصة لها ميزانيتها المستقلة، والتي لا تندرج في ميزانية الدولة، ولكنها في الواقع تُحقِّق أهداف واستراتيجيات تلك الدول والحكومات.

فهذه ثلاثة أطوار مرَّت بهما ظاهرة المرتزقة؛ المرحلة الفردية، والتي يلتحق فيها فرد أو مجموعة بأحد الجيوش ليتلقى مالًا نَظير قتاله معهم، ومرحلة الشركات العسكرية الخاصة والتي تُصدِّر المرتزقة وتَعرض خدماتهم على أيّ دولة، ثم أخيرًا مرحلة أن تنشئ الدولة نفسها شركة خاصة عسكرية بعيدة عن الجيش لتكون ذراعًا من بين أذرعها الخارجية، وتسير وفق استراتيجية دولة المنشأ.

وقد تكثَّف استخدام هذا النمط في العقود الأخيرة، ودشَّن النظام الدولي باستخدامه حقبة جديدة، تتمثل في إقدام القوى الكبرى المتنافسة داخل هيكل النظام الدولي على تأسيس قوات عسكرية مستقلة عن الجيوش النظامية، ولا تندرج في منظومتها، وتتبع شركات خاصة وتُدَار من خلالها بواسطة ضباط سابقين.

وقد درجت القليل من وسائل الإعلام ومراكز الدراسات على تسمية هذه القوات بالمرتزقة؛ لأنهم يقاتلون من أجل المال، ولا يقاتلون من أجل عقيدة أو مبدأ، أو حتى مرغمين مثل الجنود الذين يقاتلون في بعض الجيوش التي يكون فيها التجنيد إجباريًّا. ولكن القسم الأكبر من الدول وما يتبعها من إمبراطوريات الإعلام استبدلت مصطلح المرتزقة بمصطلح «الشركات الأمنية الخاصة»، أو مصطلح «المقاولون العسكريون».

جدير بالذكر أنَّ بعض الهيئات الدولية أصبحت تُجرِّم المرتزقة وتَعتبرهم مجرمي حرب؛ فمنظمة الوحدة الإفريقية أعلنت عن اتفاقية (ليفربيل) عام 1977م بهدف القضاء على الارتزاق في إفريقيا، ودخلت حيّز النفاذ عام 1985م؛ نظرًا للأضرار التي لحقت الدول الإفريقية المستقلة حديثًا، من توظيف المرتزقة كأدوات حرب أثناء فترة تفكيك الاستعمار في إفريقيا.

كما أصدر مجلس الأمن عدة قرارات أدان فيها استخدام المرتزقة، وآخرها كان القرار رقم 1467 لعام 2003م، والذي أعرب عن بالغ قلقه إزاء انتشار أنشطة المرتزقة، وأدان هذه الممارسات.

ولكن هناك ثغرة تسلَّلت منها الدول التي تَستخدم هذه الشركات، وهي أنَّ المواثيق والاتفاقيات الدولية سواء في نطاق الأمم المتحدة وباقي المنظمات الدولية لا تُحمِّل الدول التي تُجنِّد المرتزقة المسؤولية.

ولكن، ما الخدمات التي يؤديها المرتزقة الجدد؟ أو بالتعبير المعاصر «الشركات العسكرية والأمنية الخاصة»؟

تتنوع الخدمات التي تقوم بها شركات المرتزقة؛ سواء المستقلة أو التي تتبع حكومات ودولًا، فهناك الشركات التي تقدم عناصر المرتزقة التي تنفِّذ العمليات العسكرية

بينما يُصنِّف البعض تلك المهام التي تقوم بها شركات المرتزقة إلى: مهام عسكرية تتعلق بالقتال أو التدريب، ومهام أمنية تختصّ بالمخابرات وتقديم خدمات التجسُّس والحرب السيبرانية (الإلكترونية)، أو أعمال الحراسة والتأمين.

وبالرغم من هذا التمييز؛ فإن هذا لا ينفي إمكانية التداخل بين النماذج والمهام؛ بحيث تكون الشركة منخرطة في كافة هذه المهام

ويتبقى سؤال مُهمّ، هل تتفق دول العالم في نظرتها إلى الشركات الخاصة العسكرية؟

بالنسبة لنظرة دول العالم إلى تلك النوعية من الشركات؛ نجدها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: دول تُولي أهميةً بالغةً لمبدأ سيادة الدول، وبالأخص لشرعية امتلاكها المنفرد للقوة، فهذه الدول بتصورها الكلاسيكي للدفاع وللقوات العسكرية، تتبع منطق تعزيز القوات العسكرية الوطنية، وليس منطق اللجوء إلى خدمات شركات عسكرية خاصة.

أما القسم الثاني، فمنه القوى الدولية، وبالذات الغربية والبلدان الصناعية الغنية التي يشهد فيها قطاع الدفاع تضاؤلًا، نجد أنها تهتم وأكثر اعتمادًا على الشركات الخاصة العسكرية والأمنية؛ لتحقيق طموحاتها وأهدافها الدولية بأقل تكلفة سواء مالية أو قانونية أو حتى أخلاقية أمام شعوبها.

وهناك القسم الثالث، وهي البلدان السائرة في طريق النمو، أو التي تعتمد الأنظمة التي تحكمها على الدعم الخارجي؛ فتلجأ -بمساندة من الدول الكبرى أو الغنية- إلى تلك النوعية من القوات الخاصة؛ لتعزيز هيمنتها وسيطرتها على البلاد في حالة وجود حرب أهلية أو انقسام مجتمعي، خاصةً إذا كان على أرضها ثروات بترولية؛ كما في الحالة الليبية، أو مناجم ذهب كما في السودان.

شركات المرتزقة والصراع الدولي

تُقدّر وزارة الخارجية الفرنسية قيمة عائدات شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة بحوالي 400 مليار دولار، وبحسب دراسة للباحث الأردني وليد عبد الحي، ذكر فيها أن مجموع أرباح هذه الشركات في الوطن العربي هو 45 مليار دولار ما بين 2011 و2014م.

وكمثال على موقعها في الميزانية العسكرية الأمريكية، وهي أكبر ميزانية عسكرية في العالم؛ نجد أنه خلال السنة المالية 2017م، وجَّه البنتاجون 71% من موازنة العقود الفيدرالية للشركات العسكرية الخاصة.

وسنأخذ ثلاثة أمثلة فقط لأكبر شركات المرتزقة العالمية؛ ليتبيّن لنا حجم الدور الذي تلعبه في الصراع الدولي:

شركة داين كورب

هي شركة عسكرية خاصة. تأسست في عام 1946م. يقع مقرها في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة. وتقول الشركة في موقعها على الإنترنت: إنها تستقبل أكثر من 96٪ من إيراداتها السنوية والبالغة أكثر من 3 مليارات دولارات من الحكومة الفيدرالية الأمريكية.

في عام 2003م، اختارت دولة في غرب إفريقيا وهي ليبيريا، شركة داين كورب وكان هذا القرار بمثابة أول مرة تستأجر فيها دولة ذات سيادة شركة مقاولات خاصة لتكوين القوات المسلحة لدولة أخرى ذات سيادة

ويعتبر الباحث في مركز أتلانتيك كونسيل شون ماكفيت، أن ما قامت به الشركة الخاصة الأمريكية في ليبيريا قد أثبت نجاحه بدرجة كبيرة في تكوين جيش يحافظ على السلام والاستقرار الداخلي. ويفصل الباحث الأمريكي في بيان هذا النجاح الذي يتمثل في الإجراءات التي اتخذتها الشركة، ومن ضمنها الضغط على الحكومة الليبيرية لإصدار أمر تنفيذي بتسريح الجيش القديم، والتأكد من عدم اشتراك المجندين الجدد في أي انتهاكات لحقوق الإنسان في الماضي، بالإضافة إلى إدراج التربية المدنية بجانب التدريب الأساسي في البرنامج.

ويعتبر الباحث في مركز أتلانتيك كونسيل شون ماكفيت، أن ما قامت به الشركة الخاصة الأمريكية في ليبيريا قد أثبت نجاحه بدرجة كبيرة في تكوين جيش يحافظ على السلام والاستقرار الداخلي. ويفصل الباحث الأمريكي في بيان هذا النجاح الذي يتمثل في الإجراءات التي اتخذتها الشركة، ومن ضمنها الضغط على الحكومة الليبيرية لإصدار أمر تنفيذي بتسريح الجيش القديم، والتأكد من عدم اشتراك المجندين الجدد في أي انتهاكات لحقوق الإنسان في الماضي، بالإضافة إلى إدراج التربية المدنية بجانب التدريب الأساسي في البرنامج.

وفي نفس التوقيت تعاقدت شركات أمريكية أمنية خاصة أخرى، مع الكانتونات التي انقسمت إليها الصومال؛ مثل إقليمي صوماليلاند وبونتلاند؛ للمساعدة في مواجهة عمليات القرصنة

بلاك ووتر

وهي الشركة الأمريكية الأشهر في استئجار المرتزقة، والتي جرى تأسيسها عام 1997م وفقًا للقوانين الأمريكية على يد إريك برنس، الضابط السابق في مشاة البحرية (المارينز).

وتعتمد الشركة على مرتزقة من المتقاعدين والقوات الخاصة من مختلف أنحاء العالم مقابل مكافآت مالية مجزية، وتقدّم خدماتها العسكرية والأمنية للحكومات والأفراد بعد موافقة الإدارة الأمريكية.

وبسبب الفضائح التي لاحقتها إبَّان احتلال العراق، وفي عام 2009م، غيَّرت بلاك ووتر اسمها إلى «إكس آيه سرفيس»، ثم «أكاديمي» في عام 2011م، بعد أن استحوذت عليها شركات منافسة، وأصبحت تحت لواء مجموعة «كونستليس» القابضة، التي تنشط في 20 بلدًا، وتُوظِّف أكثر من 16 ألف شخص؛ بحسب بيانات الشركة.

وبلغ عدد مَن جنَّدتهم هذه الشركة في عام 2015م، نحو 1500 مرتزق من كولومبيا وجنوب إفريقيا والمكسيك وبنما والسلفادور وتشيلي؛ حيث ورد اسمها في القتال في عدة دول عربية في ذلك العام.

وكدليل على ارتباطها بالإدارة الأمريكية؛ فقد أصدر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2020م، عفوًا عن عناصر بلاك ووتر الأربعة الذين تمت إدانتهم لقتلهم 14 مدنيًّا عراقيًّا، بينهم طفلان، في بغداد عام 2007م، في مجزرة أثارت غضبًا دوليًّا، وحُكِمَ عليهم في المحاكم الأمريكية بالسجن بين المؤبد و30 سنة.

مجموعة فاغنر

لا يُعرَف تاريخ محدد لإنشاء شركة فاغنر، ولكنَّ نشاطات تلك المجموعة بدأ يتردَّد في الإعلام لأول مرة أثناء ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014م؛ كما تقول تريسي جيرمان، أستاذة الصراعات والأمن في جامعة كينغز كوليدج بلندن، في حديث لها تمَّ نَشْره في موقع البي بي سي باللغة العربية.

ويُعتقد أن ضابط الجيش الروسي السابق، دميتري أوتكين، البالغ من العمر 53 عامًا، هو الذي أسَّس شركة فاغنر وأعطاها اسمها تيمُّنًا بلقبه أو اسمه الحركي السابق حين كان ضابطًا، وأوتكين من قدامى المحاربين في حروب الشيشان، وضابط سابق في القوات الخاصة، وكذلك في المخابرات العسكرية الروسية، وتردَّد اسمه عندما تمرَّدت فاغنر على روسيا، وقاد أوتكين قواته في زحفها صوب موسكو.

أما يفغيني بريغوجين فهو مالكها أو مُموّلها، أو هو بالأحرى همزة الوصل بين تلك القوات وبوتين. بدأت المجموعة العسكرية بعدد ألف مقاتل، ثم تصاعد العدد ووصل إلى 20 ألف مقاتل في أوكرانيا وحدها وفق مسؤولين بريطانيين، وهو ما يعادل 10% من القوات الروسية على الأرض، وهذا العدد لا يشمل بالطبع قوات فاغنر في سوريا وليبيا والسودان، وغيرها من دول إفريقية عديدة.

وفي مقال استقصائيّ في موقع الجزيرة، ذكر أن قوات فاغنر تعمل على تجنيد المقاتلين القدامى بشكل أساسي، لا سيما الذين تتراكم عليهم الديون، ويحتاجون إلى سدادها وتغطية مصاريف حياتهم، وعادةً ما يأتي هؤلاء المقاتلون من مناطق ريفية، وتتراوح أعمارهم بين 25 و55 عامًا. بالإضافة إلى مقاتلين مواليين لروسيا من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك من حليفتها صربيا.

وقد كشف تحقيق لشبكة «سي إن إن» أن فاغنر تقوم بتجنيد القتلة وتُجّار المخدرات وتُخْرِجهم من السجون، وتَعدهم بأنهم في حالة نجاتهم من الحرب في أوكرانيا؛ سيتم تخفيف مدة عقوبتهم، وقد يحصلون على عفو من العقوبة.

الحاجة إلى المرتزقة!

باستعراض وقراءة تجارب استخدام الشركات الخاصة العسكرية في مختلف دول العالم؛ نجد أن الدوافع لاستخدام تلك النوعية من القوات مِن قِبَل الدول التي تُؤسِّسها، لا يخرج عن دوافع ثلاثة: اقتصادية، واستراتيجية، وقانونية ودبلوماسية.

الدافع الأول اقتصادي: حيث يتصاعد الجدل فيما يتعلق بتكلفة تلك القوات الخاصة عند مقارنتها بتكلفة القوات العسكرية النظامية أو الرسمية.

فلا شك أن هناك بعض الدول التي لجأت إلى تكوين أو استئجار شركات خاصة عسكرية تزامنًا مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة؛ حيث بدأت الدول الغربية بسرعة في تقليص جيوشها الوطنية بعد زوال الخطر الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي، كما لم يظهر في الأفق تهديد خطير يُضاهيه، ونتيجة لذلك تم فرض تخفيضات في ميزانيات الدفاع في البلدان الأوروبية.

لذلك رأت هذه الدول في الشركات العسكرية الخاصة طريقًا بديلاً مختصرًا كي لا تضطر إلى ضخّ مزيد من الأموال في بِنْيتها العسكرية أكثر من اللازم؛ لأنه في نظرها تبدو التكلفة المالية لمثل هذه الشركات منخفضة نسبيًّا.

فعلى سبيل المثال، شهدت ميزانية الدفاع في بريطانيا تخفيضات مهمة، حتى إنه أصبحت عملية التزود بالوقود أثناء التحليق جزئيًّا من مهام شركة عسكرية خاصة، ونفس الشيء ينطبق على الحروب الإلكترونية؛ إذ إن شركات خاصة هي التي تقوم بتدريب الجيش البريطاني، وتسمح له بتكوين مهارات في مجال الحروب السيبرانية، وحتى عملية الإنقاذ في أعالي البحار التي كانت تقوم بها الطائرات المروحية التابعة لقوات الجو الملكية، سيتم التخلي عنها لارتفاع نفقاتها، وستتولاها أربع شركات خاصة.

ولكنَّ الباحث «جوزيف ستيغليتس» في كتابه «حرب الثلاثة تريليونات» الصادر في عام 2008م، يذكر أن نفقات هذه الشركات أعلى بمرتين إلى أربع مرات مما تكلفه الجيوش الرسمية. وبالنسبة لبعض المهام الخاصة التي تمَّت في العراق فقد يتراوح الفارق ما بين مرة واحدة و10 مرات.

وردَّ عليه خبراء مختصون بأن العقود مع هذه الشركات الخاصة تتم لفترة قصيرة للغاية. وهو ما يصعب القيام به بالنسبة للجيوش المحترفة في بلدان مثل فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا؛ حيث يتراوح عقد التوظيف ما بين 3 و5 سنوات. يُضاف إلى ذلك الضغط السياسي المُمارَس في هذه البلدان من أجل تخفيض عدد القوات، وتقليل ميزانية الجيوش؛ فالجيوش المحترفة في البلدان الأوروبية تنفق ما بين 60 إلى 70% من ميزانية الدفاع في الأجور.

أما الدافع الثاني لاستخدام الشركات الخاصة، فهو استراتيجي، أي لسد الهوة بين الأهداف المحددة (لهذه الحروب) والواقع على الأرض.

ويرى الخبير «أليكسندر فوترافيرس» -رئيس تحرير المجلة العسكرية السويسرية- أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش قد استخدمت بشكل مفرط الشركات العسكرية الخاصة في حروب أفغانستان والعراق؛ لإنجاز مهمتها على الأرض، والتي كانت قد حدَّدتها بالقضاء على ما أطلقت عليه الجماعات الإرهابية، ولكنَّ ظروف وواقع الحرب في العراق وأفغانستان أدَّى إلى تعثر الدور الذي يقوم به مشاة البحرية الأمريكية، وهذا ما دفَع الإدارة لاستخدام الشركات العسكرية الخاصة، وعلى رأسها بلاك ووتر؛ فهم -في نظرها- أكثر خفة في التنقل ومُدرّبون على حرب العصابات.

ووفق هذا الخبير؛ فقد حاولت إدارة الرئيس أوباما عدة مرات، وضع حدّ لهذا التوجُّه؛ فمارست ضغوطًا كبيرة منذ عام 2010م من أجل تخفيض عدد الشركات العسكرية الخاصة المتعاقدة معها، وبالأخص في أفغانستان. وهو ما عمل على إحراج الحكومة الأفغانية التي أصبحت تلجأ بدورها إلى الاعتماد على خدمات هذه الشركات، وبالأخص في حماية الرئيس حامد كرزاي في المرحلة التي كان يتم فيها إعادة بناء الجيش والشرطة الأفغانيين.

أما الدافع الثالث فهو القانوني الدبلوماسي، ولعل الحاجة إليهم تبرز عند وجود أو احتمال بروز تكلفة سياسية كبيرة، والتي قد تحدث عند موت جنود نظاميين فوق أراضي دول أخرى، وفي مهام لا تخص الأمن القومي للدولة المعنية.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك: ما حدث أثناء معارك الفلوجة بالعراق؛ حيث كان موت أيّ جندي أمريكي بمثابة زلزال يصيب الرأي العام الأمريكي، وهذا يُكلِّف السياسيين خسائر كبيرة، لذلك لجأت الحكومة الأمريكية وقتها إلى زيادة الاعتماد على الشركات العسكرية الخاصة؛ لوقف نزيف الأصوات الانتخابية.

ولا يتعلق الإحراج القانوني فقط بالشأن الداخلي؛ فهناك شق خارجي يتمثل في تجنّب الإحراج الدبلوماسي والمساءلة القانونية، خاصةً عند وقوع جرائم حرب تسعى هذه الدول للتَّملُّص منها عبر تحميل الشركات الخاصة مسؤولية القتال المنفلت. وهذا يجرّنا إلى سلبيات الاستعانة بجيوش المرتزقة هؤلاء.

سلبيات الاستعانة بشركات المرتزقة

ينشأ عن استخدام هذه الشركات تداعيات خطيرة؛ سواءٌ على مستوى الدول التي استخدمتها ووظَّفتها في تحقيق استراتيجيتها، أو على مستوى الدول التي كان من المفترض أن تُوجَّه إليها خدمات تلك الشركات الخاصة؛ ولعل من أبرز تلك السلبيات:

السلبية الأولى: انهيار المنظومات الأمنية التي تبنيها أمثال تلك الشركات، فعندنا يأتي المُدرّبون من خارج الدولة يتضعضع العامل النفسي لدى المتدربين، وتختفي الأهداف والغايات العليا، وهذا ما ظهر جليًّا في أفغانستان، وقد حاول الرئيس الأفغاني الأسبق، حامد كرزاي، عام 2010م، تدارك الأمر، فحظر نشاط ثماني شركات أمن خاصة، من أصل 54 شركة، كانت متعاقدة مع حكومة كابول، بينها بلاك ووتر الأمريكية، ولكنَّ خلفاءه من بعده عادوا إلى استئجار القوات الخاصة، الأمر الذي نتج عنه الانهيار السريع واجتياح طالبان للبلاد بصورةٍ أذهلت العالم.

السلبية الأخرى، احتمال ارتكاب جرائم حرب، وتصيب الدول الراعية للشركات العسكرية الخاصة، فحين يتم منح تلك القوات حقّ استخدام السلاح بغير رقيب ولا حسيب، تتعاظم احتمالات ارتكابهم جرائم حرب، بل وانقلابهم على الجهة التي يقاتلون لحسابها، ويمثل تمرُّد قائد فاغنر الروسية، نموذجًا مثاليًّا لهذه السلبية، لدرجة أن تَصفهم روسيا بالمتمردين، وقد جاء وصف التَّمرُّد رسميًّا على لسان السكرتير الصحفي للرئيس الروسي؛ حيث وصف ما قامت به فاغنر بأنه محاولة تمرُّد، ثم أعقبه بيان للحكومة الروسية وصفت تلك الأفعال بأنها انتفاضة مُسلَّحة.

في الختام، ما أحوج البشرية اليوم إلى الجندية المنضبطة؛ القائمة على بذل الروح رخيصةً في سبيل القضية التي خلق الله الخلق من أجلها! ليس من أجل مال أو أيّ غرض دنيوي، بل لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، حينها تستقيم الحياة، ويأمن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.

أعلى