يَستعرض الكتاب كيفية هيمنة الخطاب التوراتي على حقائق التاريخ؛ إذ إن هذه الهيمنة اختلقت وولدت كيانًا صهيونيًّا أسمته «إسرائيل»، دون أيّ دليل تاريخي حقيقي، والاكتفاء بنسبة تلك المزاعم إلى التوراة ككتاب مقدّس لتدعم ادعاءاتها، وتحشد النصرة والتأييد لقيام الصه
أصدرت سلسلة «عالم المعرفة»، عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت، واحدًا من أهم الكتب، واعتنت بترجمته؛ إيمانًا من دولة الكويت بنُصْرة الحق الفلسطيني في أرضه المغتصَبة، وتفنيد الادعاءات الصهيونية حول القدس والمسجد الأقصى؛ ألا وهو كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة... إسكات التاريخ الفلسطيني»؛ تأليف: «كيث وايتلام»، وقامت بترجمته «سحر الهنيدي».
يَستعرض الكتاب كيفية هيمنة الخطاب التوراتي على حقائق التاريخ؛ إذ إن هذه الهيمنة اختلقت وولدت كيانًا صهيونيًّا أسمته «إسرائيل»، دون أيّ دليل تاريخي حقيقي، والاكتفاء بنسبة تلك المزاعم إلى التوراة ككتاب مقدّس لتدعم ادعاءاتها، وتحشد النصرة والتأييد لقيام الصهيونية.
د. سحر هنيدي (مترجمة الكتاب)، أكَّدت أن العودة للماضي -كما يرى مؤلف هذا الكتاب-، مرتبطة تمامًا بما جَنَته الهوية السياسية والاجتماعية في الحاضر من مكاسب، كما أن خطاب الدراسات التوراتية حرص على المطالبة، ولا يزال يطالب، بهذا الماضي لمصلحة وجود وبقاء «إسرائيل». أما الفكرة الجوهرية التي تركز عليها الدراسات التوراتية فهي اعتبار «مملكة إسرائيل القديمة» حقيقة تاريخية لا جدال فيها.
مُؤلّف الكتب يتصدّى بجرأة شديدة لعلماء التوراة ممّن يحاولون إيجاد حقوق تاريخية لإثبات حق اليهود بالأرض الفلسطينية. وينكر المؤلف -جملةً وتفصيلًا- صحّة المُبرّرات الأساسية لإيجاد دولة «إسرائيل»، خصوصًا تلك الدراسات التي تتكئ على مزاعم تاريخية مستقاة من التوراة، ويدعمها اللاهوتيون، وتصرّ على وجود اليهود على أرض فلسطين قبل ما يزيد على ألفَي عام... وهي مزاعم أثبت المؤلف بطلانها، بعد أن دعّم دراسته بالعديد من الأدلة والمعلومات الأثرية الجديدة التي تُظهر الصوت الفلسطيني الراسخ في المنطقة، مستعرضًا المعلومات الأثرية من مصادرها من البقايا المادية للإنسان والحضارات.
ولأن الشعب الفلسطيني كان موجودًا على أرض فلسطين منذ أقدم العصور؛ فلا بد أن تكشف التقنيات الأثرية عن مثل هذه الآثار المادية، وقد أسفرت هذه الكشوف بالفعل عن جوانب متعددة من التراث الثقافي والروحي الضخم الذي خلَّفته الشعوب العربية القديمة (السامية)، وبخاصة الكنعانية التي استقرت في فلسطين مع مطلع العصر التاريخي، ولكنَّ السلطات اليهودية المهيمنة الآن على الكشف الأثري، تعمل على طمس معالم الحضارة الكنعانية.
يحتوي كتاب «اختلاق إسرائيل القديمة... إسكات التاريخ الفلسطيني»، على ستة فصول، بالإضافة إلى مقدّمة للمؤلف وأخرى للمترجمة.
ويُحذّر المؤلف بشدة من خطورة الدراسات التي ترعاها مؤسسات توراتية ولاهوتية تحاول تجاوز التاريخ الفلسطيني، ويقول: «إن تهميش تاريخ فلسطين القديم يمكن التدليل عليه من خلال البيبلوغرافيا الممتازة للتواريخ المهمة لـ«إسرائيل» ويهودا، كما ظهرت في بداية كتاب «ميلر وهير»، وحيث توجد قائمة تتضمن خمسة وستين مرجعًا تعود إلى الفترة الواقعة من القرن الثامن عشر حتى أواخر القرن العشرين، بينما يوجد عنوانان فقط يُعالجان تاريخ سوريا وفلسطين، فعلينا أن نَعي أن سيطرة اللاهوت هذه، -وما لذلك من مضامين وأبعاد سياسية وثقافية واجتماعية-؛ يجب أن تكون في أذهاننا لكي نفهم كيف تمكّنت الأوساط العلمية الغربية من اختراع «إسرائيل» القديمة وإسكات التاريخ الفلسطيني.
ويكشف المؤلف -عبر فصول الكتاب- كيف تم اختراع «إسرائيل» القديمة في مقابل تهميش التاريخ الفلسطيني، وأن تصوُّر الماضي وتمثُّله أمر تكتنفه الصعوبات، ليس لمجرد غموض المعلومات التاريخية وقتلها، ولكن لأن إعادة بناء التاريخ -الماضي أو الحاضر- سواء كان مكتوبًا أو شفهيًّا، هو عمل سياسي بالدرجة الأولى، فالجدل قديم العهد حول إمكانية كتابة التاريخ القديم لـ«إسرائيل»، التي قامت بمحاولات عديدة لاكتشاف جذورها وكيفية نشوئها، قد دأب -بطبيعة الحال- على التركيز على الصعوبات التي جابهت تفسير الشواهد التاريخية، وضمنها السؤال الجوهري حول طبيعة ما يمكن أن نُسمّيه دليلًا أو شاهدًا، غير أن هذا النقاش المحتدم له مضامين سياسة عميقة قلما كانت تظهر على السطح.
أما السبب الدقيق لاحتدام هذا النقاش فهو يتعلق بالعناصر السياسية والثقافية والدينية المتضمنة في إعادة بناء تاريخ «إسرائيل» القديمة.
إن البحث المزمن عن «إسرائيل» القديمة، وتحديد موقعها في الفترة الانتقالية الواقعة بين أواخر العصر البرونزي وأوائل العصر الحديدي؛ لا يمدّنا في النهاية إلا بإحدى اللحظات الحاسمة في تاريخ فلسطين، وكأن إنشاء «دولة يهودية» الذي نسبه تراث الدراسات التوراتية في بداية الأمر إلى «شاؤول»، ثم بشكل خاص إلى داوود وسليمان -عليهما السلام-، هو اللحظة الحاسمة في تاريخ المنطقة بالنسبة للدراسات التوراتية، وهي تكسب أهمية خاصة تعود إلى فترة ما يُعرَف بنشوء «إسرائيل» في فترة الانتقال من العصر البرونزي المتأخّر إلى العصر الحديدي، ولكنها في نهاية المطاف تطغى على هذه الفترة.
إن إنشاء تلك الدولة لا يدل فقط على تحقق أعلى درجات التطور السياسي، ولكنه يُميِّز «إسرائيل» عن غيرها باعتبارها دولة مستقلة وذات سيادة لا تخضع للسيطرة الاستعمارية. هذه العناصر تكون دائمًا غير ظاهرة في الجدل القائم، وقلّما تطفو على السطح شأنها شأن معظم المُسلَّمات الأساسية في هذا الميدان.
إن مشكلة تاريخ فلسطين القديم هو أنه ما يزال غير مصرَّح به، محتجبًا في الخطاب السائد في الدراسات التوراتية؛ تلك الدراسات التي تهتم أساسًا بالبحث عن تاريخ «إسرائيل» القديم على أساس أنه هو الميدان الذي يُعين على فَهْم تراث التوراة العبرية، وهو في نهاية المطاف، المنبع الأول للحضارة الغربية والأوروبية.
خطابات استشرافية
مفهوم المكان في المجال التاريخي ليس أكثر جمودًا أو ثباتًا من مفهوم الزمان الذي يُعدّ في صميم البحث التاريخي. فقد أصبح من المُسلَّمات أن تعريف المكان والسيطرة عليه كانا من العوامل الأساسية في تحديد أوروبا لذاتها وللآخر، وهو الوجه المضادّ لما تراه أوروبا في نفسها من عقلانية وقوة وثبات، فاستعمال تعبير فلسطين هو بالضرورة مسألة ذات علاقة وطيدة بالخطاب الاستشراقي نفسه وتكوينه لصور الماضي. أما الدراسات التوراتية فلم تبقَ في معزل عن هذه الأفكار الاستشراقية وتكوينها للشرق، بما فيها فلسطين على أنها «الآخر» الضروري لأوروبا، ويمكننا تتبُّع هذه الافتراضات الاستشراقية من خلال عدد من الأعمال المهمة في مجال الدراسات التوراتية في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ فالتاريخ التوراتي التقليدي الخاص بـ«إسرائيل» دائمًا يبدأ بفصل مخصَّص للجغرافيا وتعريف المكان، زاعمًا أن عرضه هو عرض موضوعي للمعلومات الجغرافية، يهدف إلى تزويد القارئ بالمعلومات العامة بلا حساسية حول الموضوع.
ومفهوم الزمان، مثله مثل المكان، هو مفهوم سياسي، وهو أداة القوة التي تستخدمها الأيديولوجيا، (فابيان 1983م: 144)، وقد تم استغلاله مِن قِبَل الدراسات التوراتية لإنكار أيّ حقيقة زمنية للتاريخ الفلسطيني.
اختلاق «إسرائيل» القديمة
لقد استخدم الدارسون التوراتيون موارد عقلية ومالية كبيرة أثناء بحثهم عن تاريخ «إسرائيل» القديم، أما «إسرائيل» الماثلة في الدراسات التوراتية، فلم تظهر في فترة ما يُعرَف بعصر الآباء والهجرة، بل في الفترة المتأخرة من العصر البرونزي-الحديدي، وتلك هي الفترة التي يُطلق عليها عادة فترة «النشوء» أو «أصول إسرائيل»، وهي الفترة التي يُفترض أن تكون «إسرائيل» تلك قد سيطرت فيها على فلسطين، فعملية طرد التاريخ الفلسطيني من الوعي قد تم استكمالها في وصف فترة حكم الملكين داود وسليمان -عليهما السلام- في العصر الحديدي؛ حيث تعرض علينا صورة دولة صغيرة ناشئة، وكأنها قوة عسكرية عظمى في المنطقة في فترة زمنية قصيرة جدًّا، وهاتان الفترتان -أي: فترة نشوء «إسرائيل» في فلسطين، وتطوُّر مملكتي داود وسليمان- لهما من الأهمية البالغة بالنسبة للدراسات التوراتية، ما يسمح بوصفهما بأنهما تمثلان اللحظتين الحاسمتين في تاريخ «إسرائيل»، وكذلك تاريخ فلسطين بشكل عام.
ومما يدعو إلى السخرية أن عمليات إعادة التقييم الراهنة من المرجّح أن تقود إلى النظرة القائلة: إن فترة الانتقال بين العصر البرونزي المتأخر وأوائل العصر الحديدي هي التي سيتضح أنها اللحظة الحاسمة في نشوء التاريخ الفلسطيني.
«إسرائيل» المُتَخيَّلة
ساعد التحوُّل في إستراتيجيات البحث نحو تركيز أكبر على أعمال المسح المحلية المركزة في وقت فضحت فيه العلوم الاجتماعية واتجاهات مختلفة في الإنسانيات الدراسات التوراتية، وقوَّضت مفاهيمها عن النص، مما أسهم في التقليل من شأن بعض التصورات التقليدية لتاريخ «إسرائيل» المتخيَّل، إلا أن البحث عن «إسرائيل» القديمة استمر بلا هوادة.
ومع أن نَقْد أوجه من خطاب الدراسات التوراتية المهيمن -كما جاء عند الستروم وليمكة وكوت ووايتلام وديفيز وطومسون وغيرهم-، أسهم في تصديع هذه النماذج؛ إلا أن هذه الدراسات ذاتها تنطوي أيضًا على خَلْط واضطراب متأصّل فيها، فبينما تُركّز هذه الأعمال النقدية على التحديد الزمني لـ«إسرائيل» القديمة، سواء أكان ذلك في بداية العصر الحديدي أو آخره، أو على الفترة الفارسية أو الهلنستية؛ فإن المحاولات التمهيدية لترويج فكرة الحاجة الماسَّة إلى فصل الدراسات التاريخية للمنطقة عن الدراسات التوراتية لم تحلّ معضلتها بعدُ، وهذا الإرباك يُسهم في إسكات التاريخ الفلسطيني، ولذلك فإن تلك الأعمال النقدية ذاتها متورطة في البحث (الجديد) عن «إسرائيل» القديمة.
كان إنتاج رواية «أصل» لـ«إسرائيل» القديمة جزءًا من المشروع اللاهوتي الذي تم الأخذ به أساسًا في كليات العلوم الدينية واللاهوت في الجامعات الغربية.
ويثير «إدوارد سعيد» نقطة جوهرية تتعلق بجمهرة قراء هذا الفرع من المعرفة؛ إذ يقول: «لم يتوجَّه أيّ من المستشرقين الذين أكتب عنهم على ما يبدو بكتاباته إلى إنسان شرقي كقارئ. إن خطاب الاستشراق وتجانسه الداخلي وإجراءاته الصارمة، كلها كانت مُصمّمة مُوجّهة لقراء ومستهلكين في عواصم المدن الغربية»، وهذا ينطبق أيضًا على الجمهور المستهدَف أو الفِعْلي للأعمال المتدفّقة التي تُعالج تاريخ «إسرائيل» القديم.
وتبقى مسألة مهمة؛ أين يمكن تعيين موقع لتاريخ فلسطين القديم، ومعه تواريخ «إسرائيل» ويهودا؛ إذا لم يكن من الممكن بعد الآن عزل التاريخ الفلسطيني عن الخطاب التاريخي؟ وإذا كان التاريخ الفلسطيني سيشكل جزءًا من روايات الماضي المتنازع عليها؛ فيجب أن يكون له موقع خاص به يمكن أن ننطلق منه.