يقول المؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان: «إن اللغة العربية تتألَّق لنا بكلّ كمالها، ومرونتها، وثروتها التي لا تنتهي، فهذه اللغة وُلِدَت منذ بدايتها على درجة من الكمال».
اللغة وعاء الثقافة، والحضارة، والعلوم، والمعارف، والتاريخ، والجغرافيا، والتكنولوجيا، وكل ما له علاقة بحياة الإنسان، فاللغة أساس الهوية، وفيها تختزن الملامح المميزة للشخصية الإنسانية، وللمجتمع ككل.
ويحاول هذا المقال -عبر السطور الآتية- عرض خصائص اللغة العربية وتفرُّدها، والواقع الراهن، وأسبابه، وطرح الحلول للانطلاق إلى المستقبل.
تفرُّد اللغة العربية
تعتزّ غالبية دول العالم بلُغتها، وتعتمدها لغةً رسميةً أُولَى في بلادها؛ للحفاظ على ثقافتها وهويتها في مواجهة تأثير اللغات الأخرى، حتى لا تضعف أو تندثر كما حدث للغات أخرى، فهناك (25) لغة تموت وتندثر سنويًّا -كما تشير الأبحاث العلمية-، من مجموع اللغات التي تُقدَّر بحوالي (6000) لغة.
واللغة من ثوابت الهوية القومية والحضارية لأُمّتنا العربية، وكانت الحرب مُعلَنة عليها منذ بَدْء الاستعمار الأوروبي الحديث حتى الساعة، فتغريب اللغة واللسان من العوامل المُفْضية إلى التبعية، والذوبان في النموذج الحضاري الغربي.
يقول المؤرخ والكاتب الفرنسي إرنست رينان: «إن اللغة العربية تتألَّق لنا بكلّ كمالها، ومرونتها، وثروتها التي لا تنتهي، فهذه اللغة وُلِدَت منذ بدايتها على درجة من الكمال».
وتتميز اللغة العربية بخصائص لا تُضاهيها فيها أيّ لغة؛ فقد شرَّفها الله -عز وجل- باختيارها لغة القرآن الكريم، وهذا يدلّ على تفوُّقها على غيرها؛ إذ تمتاز اللغة العربية بالمحاسن، والتحسينات اللفظية والكلامية، كالاستعارات والتشبيهات والكنايات والتجانس والتضاد والتآلف، مما لا تمتلكه أيّ لغة أخرى، ومنها استمدت اللغات التركية، والفارسية والأوردو، كثيرًا من جذورها، وباب الاشتقاق والقياس في اللغة العربية واسع أكثر من أيّ لغة حية أخرى، لتميُّز اللغة العربية بعنصر الثراء اللفظي[1].
وتمتلك اللغة العربية نظامًا اشتقاقيًّا فريدًا يُتيح لها توليد ملايين الكلمات الجديدة، فقد أحصى سيبويه 1300 وزن، وأحصى ابن القطاع 1200 وزن، واتضح من عصر الخليل بن الأحمد الذي ابتكر نظام التقليبات أن عدد الكلمات الممكنة التي يمكن أن تتألف من حروف الهجاء العربي يتجاوز المليون كلمة، بل تُقدِّر إحصائية تقريبية أنّ عدد الكلمات العربية ممكنة الوجود بأكثر من 6.5 مليون كلمة[2].
وتتميز اللغة العربية بقدرتها على استيعاب مفردات خارجها، دون أن يُؤثّر ذلك في نظامها الصرفي أو التركيبي؛ لوجود مقاييس صارمة وضَعها السلف لتحديد المُستعمَل والمُهمَل، وتمييز القياس، والسماع، فأيّ لفظة وافدة على العربية تخضع لتلك المقاييس لتنتقل من دائرة الدخيل إلى دائرة المُعرّب، وإلا بقيت ناشزة، ولكنّ كثيرًا من المعاصرين لم يأخذوا بتلك المقاييس مما أدَّى إلى طغيان الوافد الدخيل.
واللغة العربية لغة متعددة العلوم كالنحو، والصرف، والبلاغة، والعروض، والاشتقاق، إضافةً إلى امتيازها بمؤهلات صوتية، وبلاغية، ودلالية كثيرة، فهي واحدة من أقوى ست لغات في العالم، وهي: الإنجليزية، والصينية، والهندية والإسبانية، والفرنسية[3].
واقع اللغة العربية الراهن
إن واقع العربية في الخضم الحضاري المعاصر مخيف؛ إذ تسود عقلية الانهزام لدى كثير من المفكرين العرب، فيتَّبعون القاعدة الخلدونية «المغلوب مُولَع بتقليد الغالب»، والقول بأن هذه اللغة شاخت وهرمت، ولم تَعُد صالحة للعصر، وأنها تقف عائقًا أمام حركة التقدم العلمي، والمطالبة بتوطين اللغة الإنجليزية لغةً للعِلْم والتعليم؛ فاستعملوا اللغة الأجنبية حينًا، وهجَّنوا اللغة العربية حينًا آخر، وفتحوا الباب واسعًا للكلمات والمصطلحات الدخيلة، وعطَّلوا الآليات الاصطلاحية العربية[4].
لقد شهدت اللغة العربية في الآونة الأخيرة حالةً من التردّي وضَعْف التمسك بها، فاعتمدت لغة التعليم في المدارس على العامية؛ ظنًّا بأن استخدام الفصحى قاصِر على مُعلّمي اللغة العربية، واعتمدت برامج الإعلام اليوم على العامية، عكس ما كان في الماضي.
ويَفتقد فريقٌ من الباحثين العرب للثقة في لُغته، ويحتكم بعضهم إلى الاجتهادات الفردية والفجائية دون قياس، ودون عرض على أهل الاختصاص من علماء اللغة والمعاجم، فكانت النتيجة كلمات مُشوَّهة قاصرة عن التعبير عن المعنى المراد، وبعضها مضطرب الصياغة، وسادت إشكالات التضخم الاصطلاحي وتعدُّد المصطلحات للمفهوم الواحد، وإشكال المشترك اللفظي، وتعدُّد معاني المصطلح الواحد؛ مما أعاق التواصل بين الباحثين.
وتتلخص عوامل تدهور حال اللغة العربية[5] فيما يلي:
1- انفصام اللغة العربية عن الواقع المعيش، والاهتمام بتعلُّم اللغات الأجنبية في البلدان العربية والنظر إليها على أنها عنوان التقدُّم والحضارة، وأداة للوصول إلى عمل مرموق له وجاهة اجتماعية وجدوى اقتصادية.
2- الاغتراب الثقافي والانقسام الفكري بين اللغة وأبنائها، وشعورهم بالغربة من نحوها وقواعدها وإملائها، والنظر إليها على أنها لغة التراث والمراجع التراثية.
3- الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة العربية، وكثرة الدعوات المُطالِبة بهَجْر اللغة الفصحى واستبدالها بالعامية، أو الاعتماد على اللغات الأجنبية بدلًا منها، وكأنه لا سبيل للتطوُّر إلا بهجر اللغة العربية.
4- سياسات تعلُّم اللغة العربية ومناهجها وطرائق تدريسها التي تُركِّز على الحفظ والتلقين، وتهمل تعليم المهارات الحياتية والتطبيقية، وضعف برامج إعداد معلمي اللغة العربية.
الحلول وتطلُّعات المستقبل
إن التحديات التي تُواجه اللغة العربية كثيرة، لكنَّ الأمر يتطلَّب الإرادة، والإيمان باللغة العربية وبقيمتها، وضرورة الحفاظ عليها.
ستظل رابطةً تُؤلِّف بينن
فهي الرجاء لناطق بالضاد
وعلى الدول تبنّي فكرة الاعتزاز باللغة العربية، وتحويل هذه الفكرة إلى واقع عملي عن طريق الندوات والمؤتمرات والمشروعات البحثية المختلفة، وسنّ التشريعات للحفاظ على اللغة العربية؛ ففرنسا مثلًا فرضت قوانين تمنع كتابة لافتات الشوارع والمحلات التجارية بأيٍّ لغةٍ غير الفرنسية.
ويجب دعم مشروعات إصدار المعاجم والقواميس العربية لمختلف الفئات العمرية والتخصصات، وتطوير المعاجم الإلكترونية العربية على صفحات الإنترنت، وتطوير برامج إعداد مُعلِّم اللغة العربية بالجامعات، وتطوير المقررات بما يضمن اكتساب مُعلِّم اللغة العربية المهارات المُؤهِّلة لتدريس اللغة العربية على النحو السليم.
ويجب على وزارات التربية في البلدان العربية تطوير مناهج وطرائق تدريس اللغة العربية، والتركيز على تعلُّم مهارات اللغة واستخدامها في الحياة اليومية.
وعلى وزارات الإعلام، والتعليم، والثقافة والإعلام والشباب والسياحة، وغيرها أن تضع السياسات والخطط والمشروعات لتحفيز تعلُّم اللغة العربية والنطق بالفصحى، والاتجاه نحو التعريب كضرورة حضارية وتربوية.
وعلى وزارات الإعلام والجهات الإعلامية إيقاف أيّ مظاهر لامتهان اللغة العربية في الأعمال الفنية، وتدريب الإعلاميين على قواعد اللغة واستخدامها، وعقد الاختبارات لمقدمي البرامج؛ لقياس قدرتهم على الحديث بلغة عربية سليمة، وعلى الدول أن تدعم الأعمال الفنية التي تُرسِّخ الانتماء للغة العربية.
وعلى الأفراد والمجتمعات التمسُّك باللغة العربية، والاعتزاز بها؛ فهي الجزء المركزي لهُويتنا وشخصيتنا، وعنوان النهضة المنشودة، ولنأخذ الدرس من الشعوب الأخرى التي سبقتنا لمَّا جعلتْ من لغاتها وسيلةً للعِلْم والمعرفة.
إنّ اللغة العربية هي قلب معادلة التحدّي الحضاري الذي تَخوضه بلادنا، ولا يمكن الفوز في هذه المعادلة ما لم نعتزَّ بلُغتنا، ونجعلها فاعلةً في حياتنا على مستويات الفكر والثقافة والعلوم والمعرفة والإعلام، ولُغتنا قادرة على خوض التحدّي والفوز فيه، مثلما فعلتْ طوال القرون الماضية.
[1] طارق إبراهيم حسن، (2018)، التعريب: السبيل الحضاري للتطوير، مجلة الوعي الإسلامي، ع (642)، ص ص: 20- 21.
[2] علي القاسمي، (2008)، علم المصطلح: أُسُسه النظرية وتطبيقاته العملية، بيروت، لبنان: ناشرون، ط1، ص126.
[3] آندي حجازي، (2018)، اللغة العربية: واقع وحلول، مجلة الوعي الإسلامي، ع (642)، ص ص: 20- 21.
[4] الطيب رحماني، (2018)، اللغة العربية: لغة الاصطلاح العلمي، مجلة الوعي الإسلامي، ع (642)، ص ص: 31- 33.
[5] زينب فخري، (2018م)، اللغة العربية، جريدة الزمان، 15 يناير 2018م.