• - الموافق2025/07/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أصحّ ما في الباب

ومن أعاجيب هذا الزمان: ما رأيناه من تحقير البعض لجهود دعاةٍ للإسلام، انطلقوا في ميدان دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، مُخَلِّفين وراءهم مَنْ مَنَّ الله عليهم بالدخول في نور الإسلام ليتلقّفهم مَنْ بعدهم ممن تخصص في تعليمهم والارتقاء بهم، مدعيًا أن عليهم أن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم أجمعين، وبعد:

(أصحّ ما في الباب)؛ كلمة يتوصّل بها العلماء إلى العمل بما لا يوجد سواه في الباب -على ضَعْفه- (أي: المتاح). ومن دلالاتها: عدم إغفال الباب من عمل -مهما كان ضعيفَ الدليل-، وتأتي هذه الكلمة ضمن الدلالة الأوسع للآية الكريمة؛ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «إذَا أمَرتكم بأمرٍ فأْتُوا منه ما استطعتم»[1].

فالكمال البشري في كل باب لم يصل إليه سوى المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وحسب الأتباع أن يركض أحدهم في مضمارٍ، يَبذل فيه جهده، ويُفني فيه عمره، ليقطع به شوطًا، وينال به نَوطًا، مع ضعف في المضامير الأخرى.

فأوغَلَ بعضٌ في الزهد فغرقوا فيه، وضاق بهم العطن عن التوازن مع متطلبات الدنيا والاستمتاع بالقَدْر المعقول من المباح منها؛ فانعزلوا وترهبنوا.

وأوغل آخرون في الشجاعة، فلم يَبلغوا مبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا قاربوه، ومع ذلك لم تَستوعب طباعُهم الجَمْع بينها وبين الرحمة.

وقدَّسَت فئةٌ العقلَ، وأعلت مكانته، حتى طغى عندها على النقل، فلم تستوعب الجمع بين صحيح العقل وصريح النقل، فقدَّم كلُّ فرد منهم عقله على النقل، فارتطمت عقول بعضهم ببعض -بعيدًا عن النقل-؛ إذ ليس عقل أحدهم بأَوْلَى بالتقديم والاعتبار من عقول الآخرين، فتشرذموا، وأصبحوا في شكٍّ من الليل مظلم.

وحاول فئام التحلي بالصبر، فطغى عليهم التجلُّد حتى أخرجهم عن سَمْت الحزن البشري الفِطْري، فالبكاء على الميت مثلاً على وجه الرحمة أمر فطري، حَسَن مستحبّ، حصل من النبي صلى الله عليه وسلم  على عددٍ من الموتى، كما صح في عدة أحاديث، منها حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السلام[2]، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم  إبراهيم فقَبَّلَه وشَمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: وأنت يا رسول الله؟! فقال: (يا ابن عوف، إنها رحمة). ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم : (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)[3]. وهذا لا يُنافي الرضا بقضاء الله -سبحانه-، بخلاف ما حصل من العالِم الزاهد الفضيل بن عياض -رحمه الله-، فإنه ضحك لما مات ابنه عليّ، وقال: رأيت أن الله قد قضى، فأحببت أن أرضى بما قضى الله به، فحاله أحسن من حال أهل الجزع، إلا أن الأكمل هو الجمع بين رحمة الميت، والرضا بالقضاء، وحمد الله -تعالى-؛ كحال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله -تعالى-: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ [البلد: ١٧]؛ فذكر -سبحانه- التواصي بالصبر والمرحمة.

والناس في هذا أربعة أقسام:

منهم مَن يكون فيه صبر بقسوة.

ومنهم مَن يكون فيه رحمة بجزع.

ومنهم مَن يكون فيه قسوة وجزع.

ومنهم مَن يجمع بين الصبر والرحمة. وهذه حال المؤمن[4]؛ فإن القلب قد يجتمع عليه وَارِدَان؛ وارد الصبر والرضا، ووارد الرأفة والرحمة، فتزدحم في القلب، والقليل مِن الناس مَن يُوفَّق للتوازن بينهما.

وهكذا.. يركض فئام في مضمار، ولا يطيقون الركض في غيره، ويركض آخرون في آخر، لا يُحسنون الركض في غيره.. ولا يبلغ أحد منهم -رغم اقتصاره على مضماره- معشار مبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيه؛ فالكمال في الناس عزيز.

فتَطَلُّبُ الكمال طلبٌ للمُحال، وهو -فوق هذا- مؤذٍ للنفس، مُكدِّر للحياة، وقاضٍ على المتعة الدنيوية، حتى على مستوى الحياة الشخصية اليومية المعيشية، قال بشار بن بُرْد:

إذَا كُنْت فِي كُلِّ الْأُمُورِ مُعَاتِبًا

صَدِيقَك لَمْ تَلْقَ الَّذِي لَا تُعَاتِبُهْ

وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَارًا عَلَى الْقَذَى

ظَمِئْتَ، وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟

فَعِشْ وَاحِدًا أَوْ صِلْ أَخَاك فَإِنَّهُ

مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرَّةً وَمُجَانِبُهْ

ومن ذا الذي تُرضَى سجاياه كلها


كفى المرء ُنُبلاً أنْ تُعَدّ معايبه[5]

وقال الذهبي -رحمه الله-: «ولو أن كلّ مَن أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه، وتوخّيه لاتّباع الحق- أَهْدرناه، وبَدَّعناه؛ لَقَلَّ مَن يَسْلم مِن الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنّه وكرمه»[6].

وقال أيضًا: «ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له؛ قُمْنا عليه، وبدَّعناه، وهَجَرناه، لما سَلِم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة»[7].

نماذج فريدة

لقد قامت في الأُمَّة قامات يَنْدُر تكرارها، وذلك فَضْل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فاشتهر قوم بالعِلم، وآخرون بالفهم، وسواهم بالرواية، وبرز عدد في القضاء، وآخرون في الزهد والورع، وقلة في القوة والصبر والثبات على المنهج والدفاع عن العقيدة! ونُدْرة في الجمع بين نصوص النقل ومعطيات العقل والعلوم الحديثة.

هكذا ينبغي للبناة أن يُشيِّدوا صَرْحهم بأصحّ ما في الباب من المواد المتاحة بأيديهم، ولا ينتظروا الجودة الغائبة، فإن بناءهم لن يقوم، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما وقع فيه طائفة من علماء الأشاعرة وأئمتهم وعلمائهم من الأصول المبتدعة المخالِفة لطريقة السلف الصالح، فذكر الباقلاني والجويني والهروي والغزالي وابن العربي وغيرهم، ثم قال عنهم: «ثم إنه ما مِن هؤلاء إلا مَن له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يَخفى على مَن عرف أحوالهم، وتكلَّم فيهم بعِلْم وصدق وعدل وإنصاف... وهم فضلاء عقلاء... وصار الناس بسبب ذلك: منهم مَن يُعظّمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم مَن يذمّهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين»[8].

لقد كان هؤلاء -في ظرفهم- أصحّ ما في باب الرد على المعتزلة، والفلاسفة، وأهل الإلحاد، والبدع الأشنع من بِدَعِهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد ذهب كثيرٌ مِن مبتدعة المسلمين؛ من الرافضة والجهمية وغيرهم، إلى بلاد الكفار، فأسلَم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خيرٌ من أن يكونوا كُفّارًا»[9].

فكان هؤلاء المبتدعون أصحّ ما في باب الدعوة إلى الله تعالى -في ذلك الظرف- بين الكفار البعيدين، ما دام ما يجري على أيديهم من الخير الراجح لا يُتوصَّل إليه إلا عَبْر ما فيهم من مخالفة مرجوحة.

وقال عن الكُلابيّة: «وهم يُعَدُّون من أهل السُّنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم»[10].

وقال عن توجيه الإمام أحمد لأهل السنة في خراسان في موقفهم من الجهمية المتمكنين هناك: «وهذا الجواب منه، مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة من الدفع بالتي هي أحسن، ومخاطبتهم بالحجج. وكذلك لما كثر القَدَر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذَّر إقامة الواجبات، من العلم والجهاد، وغير ذلك، إلا بمن فيه بدعة مضرّتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل»[11].

هذه مواقف أئمة الإسلام -رحمهم الله- في أهل البدع الظاهرة! فكيف لو رأوا من ينتسب للحق وهدي السلف، حين ينصب شباكه لإخوانه، ويُسدِّد سهامه لنحورهم، ويجرّد خنجره لطعنهم في ظهورهم!

قال الشيخ ابن عثيمين في معرض كلامه عن الحافظين النووي وابن حجر: «فهذان الرجلان بالذات، ما أعلم اليوم أن أحدًا قدم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدَّماه، ويدلّك على أن الله -سبحانه وتعالى، بحوله وقوته، ولا أتألى على الله- قد قَبِلها؛ ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس؛ لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب رياض الصالحين يُقْرَأ في كل مجلس، ويُقْرَأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعًا عظيمًا، وأتمنى أن يجعل الله لي كتابًا مثل هذا الكتاب، كلّ ينتفع به في بيته وفي مسجده»[12].

وقال ابن القيم: «من قواعد الشرع، والحكمة أيضًا: أن مَن كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير طاهر فإنه يُحْتَمل له ما لا يُحْتَمل لغيره، ويُعفَى عنه ما لا يُعفَى عن غيره، فإن المعصية خبث؛ والماء إذا بلغ قُلَّتَيْنِ لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه يحمل أدنى خبث يقع فيه»[13].

إننا حين نُقوِّض بُنيان إخواننا، لقُصورهم في جانبٍ لا يحسنونه، فإنما نسعى في هدم ما يُحسنه أولئك الآخرون، والتقليل من شأنه، وتأخير مسيرتنا جميعًا نحو المستقبل، قال صالح بن عبد القدوس:

وَإِنَّ عَنَاءً أَنْ تُفَهِّمَ جَاهِلاً

فَيَحْسَبُ جَهْلاً أَنَّهُ مِنْكَ أَفْهَمُ


مَتَى يَبْلُغُ الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ

إِذَا كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ؟

مَتَى يَنْتَهِي عَنْ سَيِّئٍ مَنْ أَتَى بِهِ

إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَيْهِ تَنَدُّمُ؟[14]

وأُشَبِّه هذا ببُنَاة العمارة.. يجتمع فيها المهندس والمقاول والسباك والنجار والكهربائي والحداد والمبلط والبنّاء، وغيرهم، وكلّ منهم يُحْسِن أمرًا لا يُحْسِنه غيره ولا يُحْسِن هو غيره.. فمتى تعاضد البناة وتعاونوا، وأكمل بعضهم جهود بعض، وبنى اللاحق على إنجاز السابق، قام الصرح واكتمل البناء، ومتى تشانعوا تأخر الإنجاز، وفسد الأداء.

إننا لو تحاسبنا على كل زلة، واختصمنا عند كل خَلّة؛ ما برحنا مكاننا!! فما من إمام إلا وله زلة يمكن التشنيع بها عليه عند مَن ليس له إلا عين واحدة يفتحها على الخطأ فقط. فليست العصمة لأحد غير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

ومن أعاجيب هذا الزمان: ما رأيناه من تحقير البعض لجهود دعاةٍ للإسلام، انطلقوا في ميدان دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، مُخَلِّفين وراءهم مَنْ مَنَّ الله عليهم بالدخول في نور الإسلام ليتلقّفهم مَنْ بعدهم ممن تخصص في تعليمهم والارتقاء بهم، مدعيًا أن عليهم أن يواصلوا المسيرة من الصفر إلى المئة!! فعليهم -إذ أدخلوهم الإسلام- أن يظلوا معهم إلى أن يختموا حياتهم بتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ومواراتهم في قبورهم!! جاهلاً أو متجاهلاً إمكانَ تقسيم المسيرة إلى مراحل.. لكل مرحلة أبطالها ورجالها.. ما دام الجميع ضمن الإطار العام، ولا توجد نتوءات ولا زوايا حادة.

ضمن الطريق ستجد رَجُلَ مرحلةٍ ما.. لا يُحْسِن ما قبلها، ولا يُجِيد ما بعدها.. فاستَثْمِرْه في مرحلته، واكتفِ بعطائه فيها، وابْنِ على ما شيَّده فيها، وامضِ إلى الأمام، لتُسَلِّم أنتَ المرحلة لمن بعدك.. إن لم تكن مرحلتك هي نهايةَ المطاف.

وهذه قاعدة مريحة في تعاملات الحياة: وَازِنْ بين المصالح والمفاسد، بين المقبول والمرفوض، وابْنِ حُكمك على نتيجتها، محتملاً بعض الهنّات التي لا تَرتضيها، في سبيل تحصيل المصلحة العليا، دون خضوع لردّ فِعْل فجّ، ولا لموقف تُوجّهه عاطفة.

لقد أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم  القواعد المتينة لهذا المنهج بحديث واحد؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَا يَفْرَكْ[15] مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً. إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أَوَ قَالَ «غَيْرَهُ»[16].

يريد البعض أن تجتمع كل الصفات والمهارات والقدرات في شخص واحد أو جيل واحد وإلا فلن يرضى!!

مراحل بناء الدين

بعض ذوي النظرة القاصرة يريد مِمَّن وصل منصبًا أن يقفز قفزة يُصْلِح بها كل شيء، ويصنع في أثنائها كل شيء، ويمنع كل شيء، في لحظة.. مما لم يتأتَّ حتى للرسول صلى الله عليه وسلم  خلال ثلاثة وعشرين عامًا، هي مدة بناء هذا الدين العظيم، بكل عناء ومشقة؛ بسهر الليل، وجوع النهار، وظمأ الهواجر، وتعب البدن، وفراق الراحة، وتجشُّم الصعاب، وتقحُّم المخاوف، تحت نظر الله -تبارك وتعالى-: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48]، والله قادر على إنزاله كاملاً في لمحة بصر، ولكنّها التربية على التدرُّج في الممْكنات درجة بعد درجة؛ فقد شيَّد الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الدين -تحت نظر النبي صلى الله عليه وسلم- تَلقِّيًا وروايةً، وامتثالاً عمليًّا، حتى استوى بنزول قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، وانطلق مَن بعدهم نشرًا وتعليمًا وجهادًا وفتحًا، واجتهادًا في النوازل وتفريعًا في الأحكام، كلٌّ في بابه الذي يُحسنه، ولم يَعِبْ أحد منهم على أحد؛ (فكُلٌّ مُيسَّر لما خُلِقَ له)[17].

ففي حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأفرضُهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)[18].

وهذا المنهج هو الذي فهمه ساسة الدعوة والحكم في الإسلام، فقد قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لوالده أمير المؤمنين: «يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل لربك غدًا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تُمِتْها، أو سُنَّة لم تُحْيِها؟ فقال له: يا بني أشيءٌ حَمَّلَتْكَهُ الرعيةُ إليَّ، أم رأيٌ رأيته مِن قِبَل نفسك؟ قال: لا والله، ولكن رأي رأيته مِن قِبَل نفسي، وعرفتُ أنك مسؤول، فما أنت قائل؟ فقال له أبوه: رحمك الله، وجزاك من ولد خيرًا، فو الله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بني إن قومك قد شدُّوا هذا الأمر عقدةً عقدةً، وعروةً عروةً، ومتى ما أُريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لَم آمَن أن يَفْتقُوا عليَّ فتقًا تكثر فيه الدماء، والله لَزوال الدنيا أهون عليَّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم، أَوَ ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يُميت فيه بدعة ويُحيي فيه سُنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين»[19].

وكأنما كان يُلِحّ على أبيه، فقد قال له يومًا: «يا أبتِ ما منعك أن تمضي لما تريد من العدل، فو الله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك؟ قال: يا بني، إنما أنا أُرَوِّضُ الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أُخْرِج معه طمعًا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه»[20].

وعلى مَن لا يحسن شيئًا أو مرحلةً أن يجاوزها إلى ما يُحسن، ويَدَعَها لمن يحسنها،كما قال عمرو بن معد يكرب:


إذَا لَمْ تستطِعْ شَيْئا فدَعْهُ

وجاوِزْهُ إِلَى مَا تَستَطِيعُ[21]

طُرفة:

جاء أبو العيناء المكفوف لبعض سماسرة الحمير بالكناسة في الكوفة، فقال له يا عم: اشترِ لي حمارًا ليس بالصغير المحتقَر، ولا بالكبير المشتهر، وليس بالطويل اللّاحق، ولا بالقصير اللاصق، إن خلا الطريق تدفَّق، وإن كثر الزحام ترفَّق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخل بي تحت البواري، ولا يهيم في البراري، إن أشبعته شكر، وإن أجَعْته صبر، وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام!

فقال له النَّخّاس -بعد أن نظر إليه ساعة-: يا عبد الله! دعني، إذا مسخ الله القاضي حمارًا اشتريته لك![22].

وبصرف النظر عن دقة تفاصيلها، أو وقوعها أصلاً، فهي قصة رمزية، فكم في الناس من أمثال أبي العيناء، من ذوي النظرة المثالية.. الذين يَتْعَبُون، ويُتْعِبُون غيرهم، بتحصيل التفاصيل، وتفاصيل التفاصيل! ورفض كلّ ما لا يتطابق مع نظرتهم، ولو كان في جزء ضئيل!

فلنقبل أصحّ ما في كلّ باب.. ولنمخر به العباب.. ولنأخذ ببقية الأساب، فلا صفو للعيش بعد زمن النبوة، ولا سلامة من كدر يعتري الحياة.

فلم تكتمل كل الفضائل والمزايا والمواهب على مر التاريخ في غير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فإن ذهبنا نتطلبها كاملة في أحد بعدهم فسنُطِيل وَضْع الكفّ مقبوضة الأصابع على الخد منتظرين المستحيل.

وأخيرًا:

يحسن بك أن تعرف كل شيء عن شيء (التخصُّص)، وشيئًا عن كل شيء (الثقافة العامة)، أما أن تعرف كلّ شيء عن كل شيء فهذا دونه خرط القتاد، فلم يتأتَّ لأحد، وأربأ بك أن لا تعرف شيئًا عن أي شيء.

وصلى الله عليه وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 


 


[1] أخرجه البخاري: (6858)، ومسلم: (1337).

[2] الظِّئْر: هو زَوْج المُرضِعَة.

[3] أخرجه البخاري: (1241)، ومسلم: (2315).

[4] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (10/ 47).

[5] أدب الدنيا والدين للماوردي: (178)، وشعب الإيمان للبيهقي (6/326)، (8360).

[6] سير أعلام النبلاء: (14/376).

 [7] سير أعلام النبلاء: (14/40).

[8] درء تعارض العقل والنقل: (2/102).

[9] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (13/96).

[10] بيان تلبيس الجهمية: (3/536).

[11] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (28/ 210- 212).

[12] لقاء الباب المفتوح: (43).

[13] مفتاح دار السعادة: (1/504).

[14] أدب الدنيا والدين للماوردي: (69)، وجامع بيان العلم وفضله: (1/447).

[15] (يَفْرَك) أي: يُبْغِض.

[16] أخرجه مسلم: (1469).

[17] أخرجه البخاري: (4666)، ومسلم: (2647).

[18]  أخرجه الإمام أحمد: (21/ 406 ط الرسالة)، وصحَّحه محققوه، والترمذي: (3790)، وابن ماجه: (154)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (868).

[19] حلية الأولياء: (5/283).

[20] حلية الأولياء: (5/354).

[21] الشعر والشعراء: (1/362)، والأصمعيات: (175).

[22] هذه القصة الطريفة روتها كتب التاريخ والأدب بعدة ألفاظ، انظر على سبيل المثال: بهجة المجالس وأنس المجالس: (124)، وتاريخ دمشق لابن عساكر: (37/ 83)، وأخبار الظراف والمتماجنين: (126)، وأخبار الحمقى والمغفلين: (134)، ونهاية الأرب في فنون الأدب: (10/ 97)، وغيرها.

أعلى