تفصيل الشريعة بعد فصلها!

تفصيل الشريعة بعد فصلها!



الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فقد تعرَّضت الشريعة الإسلامية – وما زالت - لموجات عاتية من محاولات الهجوم عليها والقضاء على وجودها في حياة الناس وشؤونهم، وكانت «العلمانية» من أواخر ما استجلبه أعداء الإسلام لإقصاء الشريعة عن الحياة والشؤون العامة، وحصرها في زاوية حادة جداً لا يكاد يشعر بها أحد ألبتة.

وقد انتفض علماء الإسلام وحماة الشريعة وهبّوا لمقاومة هذه الدعوات الآثمة، ونالهم في سبيل ذلك من النصب والعنت ما لا يخفى على المتتبّع لجهادهم، الذي تنوع فشمل: العلم والبيان، والمقاومة والاحتساب، فضلاً عما كابدوه من عقوبات أوقعها عليهم سدنة النفاق وزبانية فصل الدين عن السياسة والحياة، وعند الله تلتقي الخصوم، ومن أحسن من الله حكماً، إذ لا يضيع عمل المحسنين، ولا يصلح عمل المفسدين؟

وقد كانت هذه الجهود محل حفاوة وإجلال من غالب المسلمين، وتمثلت تلك الأعمال في كثرة التأليف والكتابة والمحاضرة عن ظاهرة فصل الدين وإبعاده من حياة الناس، حتى ارتفع الوعي العام نحو هذه القضية، وازدادت الحساسية تجاه من يتولى كبرها وما ينتج عنه من قرارات وبرامج لا تتفق وثقافة الأمة، وأصبح المسلم العامي يخشى من العلمانية وهو مقيم في قرية نائية لم تدهمها وسائل التغريب بعد، ويتوجس الناس خيفة على دينهم وأخلاقهم من غائلة هذا الوافد الغريب المستنسخ من بيئة لا تشابه واقعنا.

ولذا؛ رفضت القوانين والتحاكم إلى غير شرع الله، ونال القتل والتشريد والسجن عدداً من العلماء والدعاة الذين لم يعطوا الدنية في دينهم، وخاضت الأمة حروباً فكرية في سبيل مقاومة فرض القانون البشري عليها أو إلزامها بمدونات واتفاقيات تناقض دينها. وقد حاول الطغاة البغاة على الحكم الشرعي والسياسي أن يجعلوا هذه القوانين واقعاً إجبارياً بالقوة الغاشمة، والتنكيل الفظيع؛ لأنهم يعرفون أن الأمة حين تجد عبير الحرية الشرعية لن ترضى بغير شريعة الله حكماً وحاكماً.

لكن العجيب أن كثيراً من هؤلاء العلماء والدعاة لم ينحوا ذات التوجه، ولم يبذلوا نفس الجهد الذي أبلوه لمقاومة فصل الدين عن السياسة والحياة تجاه طامة أخرى سرت في المجتمعات المسلمة، بل تغلغلت حتى صارت تمثل الفتوى الرسمية في عدد من أقطار المسلمين وبلدانهم؛ ألا وهي ظاهرة تفصيل الشريعة وفق المقاس السياسي الذي يضيق حيناً ويتسع حيناً آخر، وقد يتوسع فيما حصره سابقاً، وقد يضيق على ما كان عنده واسعاً حلالاً! حتى غدا بعض «المشايخ» كالدمية على أرجوحة السلطان يحركها بإبهام قدمه اليسرى كيفما سوّلت له شياطينه أو أزّه هواه!

وأكبر خطر يكتنف ظاهرة تفصيل الدين على المقاس السياسي، أن الذين يتولون كبرها يتزيون بزي العلماء والمشايخ، ويزينون إفكهم وما يفترون بالنصوص الشرعية المقدسة بعد حرف معانيها أو بتر سياقها أو إغفال مقتضياتها، أو غير ذلك من فنون التلبيس والتحريف التي يُحسنها الشيطان الرجيم وكل من تنكّب صراط الله وأخلد إلى الأرض سالخاً ما وهبه الله من علم وفهم في سبيل دنيا غيره، ولأجل عرض مهما طال سيزول، ومهما طاب فإلى فناء سيؤول! ثم إنها تجعل العامة في حيرة وبلبلة من التناقض الذين يرونه ولا يجدون له تفسيراً ترتاح إليه فطرهم النقية.

وقد حكى الله في كتابه العزيز مثلاً لهؤلاء المفسدين بقوله سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176 سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ 177 مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْـمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـخَاسِرُونَ 178 وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِـجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: ١٧٥ - ١٧٩].

ومن البلاء أن يُتخذ العلم مطيةً لتحريف دين الله وتبديل شريعته وإعادة تفصيلها نزولاً بها من سموّها وعليائها إلى أهواء السلاطين والحكام. وكم أصيب المسلمون بمحن من جراء هذا الكفر؛ حين يصير الحلال البينّ حراماً قطعياً، ويغدو الحرام المجمع على تحريمه سائغاً مقبولاً، وتحت هذا العنوان اللقيط استبيحت دماء، وخرّبت بلاد، ونهبت ثروات، وبدّلت أحكام، وعطّلت مساجد، ومنعت خيرات، وفرضت موبقات.

وإذا كان القرآن الكريم قد أغلظ على الجهّال والكفرة قولهم على الله بغير علم، كما في قول ربنا: {وَلا تَقُولُوا لِـمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ 116 مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: ١١٦، ١١٧]، وقوله سبحانه: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٣]، وقوله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِـلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ} [الأنعام: ١٤٤]؛ فكيف سيكون الحال مع من تقحّم لجج الافتراء على الله، وتبديل شرعه وتغيير دينه، وهو يعلم يقين العلم أن الحق خلاف ما يفوه به، وأن الصواب مجانب لما يفتريه تحت مسمى الفتوى؟ ولله در ابن العربي المالكي - رحمه الله - حين قال في أحكام القرآن (2/624): «إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل يوجب الكفر».

ويستند هؤلاء المبدلون إلى أدلة في غير سياقها، أو إلى أقوال شاذة أو مرجوحة، ويبنون أحكامهم المنحرفة على المقاصد الشرعية بزعمهم، وعلى مقتضيات المصلحة بحسب فهمهم، وتحت وطأة الضرورة، وعموم البلوى، إلى غيرها مما لا يستسيغونه ولا يقرونه لو كانت الفتوى لغير سلطانهم وربِّ نعمتهم الزائلة، حتى صار الدين لدى كثير منهم أهون من قطعة قماش خلقت من كثرة الخياطة والتفصيل ثم النقض وإعادة الغزل والنسيج، والله حسبهم على ما أفسدوا وأحدثوا وضلوا وأضلوا.

وإذا كانت الأمة قد بُليت بمثل هؤلاء وفُتنت في دينها، فلا تزال دور العلم ومحاضنه عامرة بمن لا يخشون في الله لومة لائم، ويقولون الحق ولو غضبت منه القصور والملأ ومن ينضوي تحت لوائهم، وبمثل هؤلاء يحمي الله حوزة دينه، ويحفظ الأحكام من التشويه الذي يبوء بإثمه سماسرة الفتوى وباعة العلم.

وإن الواجب لا يقف عند بيان الحكم الشرعي فقط مع أهميته وعظيم أثره، بل يتعداه إلى فضح هذه الظاهرة، وبيان أحكامها، وتحذير الأمة من خطرها، وتعرية أساطينها إن لزم الأمر، فبعضهم ليس له من العلم إلا جبة وعمامة وبعض لحية، وبعضهم خلا حتى من هذه الرسوم واكتفى بالمنصب والحضور الإعلامي والرسمي.

ومما يحسن التأكيد عليه أن تشتمل الدروس العلمية والمقررات الدراسية لطلاب الكليات الشرعية، على مناهج تربوية تقود هؤلاء السالكين في أعظم طريق إلى حيث يرضى ربهم، ويتحقق فيهم وصف الربانية، وتعظم عندهم أعمال القلوب، حتى لا يؤتى الواحد منهم من شهوة شرف أو شره نحو مال ومنصب، فالتجربة تعلمنا أن ضلال كثير من المنتسبين للعلم جاء من طريق شهوة دنيوية، أو خوف هالع، أو نقص في اليقين وخلل في التوكل.

وسيظل دين الله محفوظاً بحفظ الكتاب العزيز، وتدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بثني الرُّكب في حِلق المشايخ والعلماء، والاقتباس من هديهم وسمتهم، وزهدهم وصبرهم على قول الحق، ومخالفة أهواء الساسة التي لا ساحل لها ولا منتهى تقف عند حده، والتجربة تعلمنا أن من مدَّ يده إليهم، أو رمى ببصره إلى كهوفهم المظلمة؛ سيظل متخبطاً في ظلام هذه الكهوف الموحشة ولن يجد مخرجاً آمناً!

:: مجلة البيان العدد  320 ربيع الثاني 1435هـ، فبراير  2014م.

 

أعلى