وأيكم ليست له ليلى

وأيكم ليست له ليلى


عجباً - والله - لأمر أوروبـا ظلت أعوامـاً وهي تتجـادل مع نفسهـا في شأن المرأة: أشيطانة هي أم إنسية؟ ثم نجدها تقفز لأقصى الطرف الآخر وتجعل منها رمزاً للشهوة والنـزوة، فهي من طرف إلى طرف أنكدَ منه، وكِلا  طرفي الأمور ذميم، والوسط دائماً يحتاج لأمة وسط ومنهج وسط، وهذا ما تفتقده أوروبا.

فهل المرأة شيطان؟

لا وألف لا.

وهل هي رمز البغاء وكأس الخمر؟

أيضاً لا وألف لا.

إذن! فمن هـي المــرأة؟

أقول لك: هل نظرت إلى القمر ليلة البدر؟

هل شممت الورد بعد المطر؟ 

هل مسست حريراً أو سندساً خضراً؟

هل رأيت جمال غروب الشمس وهي تختفي خلف البحر؟

ستقول - قطعاً -: نعم!

أقول لك: تلك هي المرأة.

ولا تلمني إن قلت: أنا معجب بالمرأة.

وأيضاً لا تلمني إن قلت: أنا محب للمرأة حتى الثمالة.

وأيُّنا – يا أخي - ليست له ليلى؟

تقول لي: لماذا هذه الإفراط في المشاعر؟

فأقول لك:

هي الشمس مسكنها السماء

فعزِّ الفؤادَ عزاءً جميـلا

 فلن تستطيع إليهـا صعـوداً

ولن تستطيع إليك نزولا

فهل يظهر جمال الحديقة إلا بوردها وزهرها؟

وهل يظهر جمال البحر عند الغروب إلا بلمعانه وسكونه؟

وهل تظهر روعة الحياة إلا بشريكة تقاسمك حلوَها ومرَّها؟

أقول: لا تعجل عليَّ في الحكم يا أخي، فأنا لست ماجناً ولا عابثاً ولا فاسقاً، ولكني محب ومجل ومعظم.

وحتى تعرف مقصد قولي، وكُنْهَ حديثي، أقول لك:

اقرأ كتاب ربي لتعلم صدق قولي.

فعندما قرأتُ في كتاب ربي - عز وجل -: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 27]، تدبرت هذا الموقف العظيم المهيب وقلت لنفسي: أي ثبات وطمأنينة كانت تمتلكها تلك المرأة العظيمة وهي تأتي بوليدها بين ذراعيها وتقدمه إلى قومها وهي تعلم أن (إتيان المرأة بولد من دون زوج ودعواها أنه من غير أحد من أكبر الدعاوى التي لو أقيم عدة من الشهود لم تصدق بذلك)[1]، ومع هذا ثبتت ثبوت الجبال العوالي ولم تتوارى بوليدها.

وعندما قرأت أيضاً في كتاب ربي - جل في علاه -: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: 11]، تفكرت في هذا المقطع الفريد الوحيد الذي لم يتكرر في القرآن فقلت لنفسي: أبَعْدَ هذه الشجاعة شجاعة؟ امرأة وحاكم، ضعف وقوة، قلة وكثرة، (وصفها الله بالإيمان والتضرع لربها وسؤالها لربها أجَلَّ المطالب)[2]، لم يتزعزع إيمانها، ولم يهتز ثباتها، وهي تعلم حتماً مصيرها، وآثرت جنة الخلد وقصورها، على جنة الدنيا وقصورها التي كانت فيها.

وعندما قرأت أيضاً في كتاب ربي - تقدست أسماؤه -: {قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقفت وقفة عند هذا الإقدام العظيم، والإقبال على الله، والشجاعة في اتخاذ الموقف، وعدم الخضوع للبيئة الفاسدة التي كانت سبب كفرها وصدها {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43].

وعندما قرأت أيضا في كتاب - ربي عز وجل -: {إذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران: 35]؛ (أي جعلت ما في بطني خالصاً لوجهك محرَّراً لخدمتك وخدمة بيتك)[3]، رأيت هذا الحب العظيم لله - تعالى - وتقديم فلذة الكبد لله - تعالى - وإعلان التخلي عن الملكية.

وجدت - يا أخي العزيز- في كتاب الله - عز وجل -: (سورة النساء، وسورة مريم، وسورة المجادلة، وسورة الممتحنة).

وعندما تحوز امرأة كخديجة على أغلى وسامين عظيمين يتمناهما فحول الرجال:

أولهما: قول جبريل للنبي  - صلى الله عليه وسلم - «فاقرأ عليها السلام من ربها ومني»[4].

وثانيهما قوله  - صلى الله عليه وسلم - عنها «إني قد رزقت حبها...»[5]؛ فهل تظن أنها قد تحصلت عليهما دون عناءٍ وتضحية؟ أو مجاملة من زوجها النبي  - صلى الله عليه وسلم -؟ حاشاه بأبي هو وأمي.

إذن يا عزيزي! فهل توافقني القول أم تريدني أن أقول لك كما قال الشاعر:

وحدثتني يا سعد عنهم فهجت لي  

شجوني فزدني من حديثك يا سعدُ

حسناً! إليك هذا البيان الرائع: يقول - تعالى -: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ...} [البقرة: 187]، ألا تلاحظ كيف قدم ذكرها عليك؟ وفي هذا التعبير من الدلالة ما يوحي لك بمدى حاجتك لها وعدم الاستغناء عنها.

وأزيدك من الشعر بيتاً، ذكر الله في كتابه الكريم كيف تتعامل معها بحسن أدب ولو كنت مفارقاً لها طالما أن هناك رابطاً لا زال بينكما، فقال:  {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. فهذه خطوط حمراء (أوامر ونواهٍ) إياك أن تجتازها أو تتعداها مع هذه العفيفة الكريمة! فمكانتها عندنا عظيمة.

ونفسي - يا أخي - لا تشبع من كلام ربي، واستمع إليـه وهو يتصدى لمقولة المنافقين في الصِّديقـة بنت الصديـق منتصراً لها ومدافعاً عنها ومزكياً لها، وجعله قرآنا يتلى إلى يوم الدين، وهذا ليس لأنها زوجة الرسول فحسب، بل لأنها أيضاً مؤمنة ظُلمَت وافتُريَ عليها، فقال - تعالى -: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] ولا يزكي الله - سبحانه - أحداً عبثاً.

ألا زلت مصرّاً على نقدي وإفراطي في إعجابي؟

فاسمع أيضـاً إلـى حديث القـرآن وهـو يدافـع عن امـرأة لا تملك من الدنيا غير ما يستر جسدها، خلَّد اللـه ذكرها واسـتمع لشكواها وانتصر لها، فقال: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، إنها امرأة ضعيفة سمع الله شكواها، ألا تستحق الحب والتقدير.

ألا تلاحظ مدى الهالة التي أحاطها القرآن العظيم بالمرأة، ولم يشترط في إكرامها طبقتَها الاجتماعية؟ أكرمها وهي ملكة، وأكرمها وهي زوج ملك، وأكرمها وهي من عامة الناس فقيرة.

وهذا نبينا  - صلى الله عليه وسلم - الذي قوله أسكت قول كل فصيح يقول فيهن «حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب...»[6].

فكيف لا تريدني بعد هذا أن أحب المرأة؟

لا زال في جُعْبتي شيء كثير:

لا تُخْفِ مـا صنعت بك الأشواق

واشرح هواك فكلنا عشاقُ

لقد حفل أدبنا الإسلامي قديماً وحديثاً بإبداع المرأة، وحفظ لنا أشعارها وأدبها وحِكَمها ورجاحة عقلها، وهو ما يعكس نظرة الإسلام للمرأة ومدى أهمية دورها في تنمية العقل والفكر الإسلامي، فأخرج لنا الفقيهة والشاعرة والأديبة والنسابة.

فهذه الخنساء أميرة الرثاء - رضي الله عنها - صاحبة أروع مرثية قيلت، ترثي أخيها صخراً، حتى أُعجب عمر بفصاحتها وبلاغتها وقال بشار بن برد فيها غلبت فحول الشعراء، وقال جرير: إنها من أشعر الناس. تقول في مطلعها:

قذى بعينكَ أم  بالعين  عوَّارُ؟

 أم ذرفتَ إذ خلتْ من أهلها الدارُ؟

كأن عيني لذكراه إذ خطرتْ

فيضٌ يسيل على  الخدين  مدرارُ 

وانظر لهذا النموذج الرائع والطريف في حب المرأة، إنه أحد خريجي المدرسة النبـوية - علـى صـاحبهـا الصلاة والسلام - وهو يبوح بمشاعره ويظهر مكنون صدره، في مداعبةٍ مليحة ومغازلةٍ لطيفة تجاه من امتلأ قلبه بحبها، إنه صهره وزوج ريحانته ومن تربَّى في حجره، فاستقى منه تلك المشاعر الجياشة، إنه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو يغازل زوجه الطاهرة فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - في صورة رائعة تحكي جمال الحب الطاهر للمرأة: 

حظيتَ يا عودَ الأراكِ بثغرها

أما خفتَ يا عودَ  الأراكِ أراكَ

 لو كنتَ من أهل القتال  قتلتُكَ

مـا فاز  مني  يا سواكُ  سواكَ

يقول الأديب المرهف الرافعي في وصفها: (كالغدير الصافي: لا يعرف ماؤه إلا وجه السماء وضوء القمرين وأخيلة النجوم وظلال الشجر)[7]. ويقول أيضاً: (فهي في معنى الكمال الأصل؛ لأنها الأمومة، وهي في العفة الأصل؛ لأنها الزوجة، وهي في الحياة الأصل؛ لأنها العِرض، وكذلك هي الأصل في المعركة الجنسية؛ لأنها المقاوِمة والمدافِعة للرجل، والأصل في الفضيلة الإنسانية؛ لأنها المنشأ والمربي للطفل، والأصل في الشرف الاجتماعي؛ لأنها المثال الأدبي للجميع)[8]. ويقول مصطفى المنفلوطي: (ما المرأة إلا الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته، والبريد الذي يحمل على يده نعمة الخالق إلى المخلوق المتردد، والهواء الذي يَهَب الإنسان حياته وقوَّته، والمعراج الذي تعرج عليه النفوس من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى، والرسول الإلهي الذي يطالع المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله)[9].

ويقول شاعر الإنسانية المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري[10]:

عرفان جميلٌ

وسـموٌّ بالعاطفة الإنسانيَّة

وممارسة فــي  الأرض

لأخلاقِ الجنَّات العلويَّة

الأم... وفي الإنشاد لها

تغدو الأنغامُ  سماويَّة

ينبوعُ الحبِ، عطاءُ  الربِّ

سنا وجنى كلِّ مزيَّة

مَنْ  برَّ الأمَّ يَبَـرُّ

الخيرَ... يَبَـرُّ جميع البشرية

وأخيراً: يا أخي! إن المرأة التي أحبها وأُجلُّها، هي تلك المرأة التي تقتفي أثر من ذكرتُ بدايةً.

فحطَّ يدك في يدي، وكن رفيقي على الطريق، وَلْنمضِ بالمرأة معاً نحوطها بعنايتنا وحبنا وتقديرنا، فهي التاج المرصع بالدرر؛ فمن الغباء تركه مع نفاسته لأراذل القوم ممن يحبُّ فيها جسدها فقط، وهم الذين وصفهم الله لنا بقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَـحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30].  يقول الرافعي في هؤلاء وأضرابهم: (وكان من هؤلاء الفتيان الذين إذا تعلموا في أوروبا نَفَوْا جهلهم بالعلم، ثم نفوا علمهم بجهل آخر... ثم جاؤونا كحرفَي النفي: ما، ولا؛ فليس منهم إلا التكذيب والإنكار والشك. وتراهـم أظـرف وأجمـل وأزهـى من فراشـة الربيـع، لا يريدون الحياة إلا أزهاراً؛ وعلى أزهارهم وربيعهم فليس لنا منهم إلا نقط من الألوان وأصوات من الطين... وأجسام ليس فيها رجالها)[11]، فلا تغتر بطيب حديثهم، ولا ببراعة لفظهم، فالسرج المذهَّب لا يجعل الحمار حصاناً.

أمَا ترى البَحرَ  تعلو  فوقه

جِيَفٌ  وتسْـتقِـرُّ بأقصى قاعِهِ الدُّرَرُ

وفي السماءِ نُجومٌ لا عِدادَ لهــا

وليسَ يُكسَفُ إلا الشمسُ والقمرُ



[1] تفسير السعدي. 

[2] تفسير السعدي. 

[3] تفسير السعدي. 

[4] رواه البخاري ومسلم. 

[5] رواه مسلم. 

[6] رواه أحمد والنسائي. 

[7]السحاب الأحمر، ص49.

[8] السحاب الأحمر، ص48 - 49. 

[9] رواية ماجدولين. 

[10] ديوان (أمي). 

[11] السحاب الأحمر، ص39.

أعلى