عندها.. نسترد القدس ونحرر الأقصى

عندها.. نسترد القدس ونحرر الأقصى

 

بعد مرور مئة عام على احتلال نصارى الإنجليز لفلسطين عام 1917م، ومضي نحو سبعين عاماً على تسليمهم إياها لليهود عام 1947م، وانقضاء خمسين عاماً على سقوط القدس عام 1967م؛ لم يعد تحرير الأرض المقدسة ولا تخليص المسجد الأقصى بحاجة إلى فورات وتظاهرات وقتية عارضة سرعان ما تنطفئ جذوتها وتنتهي صلاحيتها، ولم يعد لبيانات الشجب والاستنكار كبير احترام بعد أن أصبح العوام يشجبونها ويستنكرون صدورها؛ ممن لا يقدر على التأثير في مجريات الأحداث بها. نعم، لم يعد هذا ولا ذاك كافياً للخلاص ولا شافياً للصدور، ما لم يصحح المسلمون بصورة جذرية مسار المسيرة المتجه نحو النصر المنشود؛ بأن يضبطوا خطاهم على منهاج الحق المنزل، ويربطوا خططهم بوثاق الاعتصام بحبل الله المتين.

والنصر الذي وعَد الله به مَنْ نَصَره؛ له أهلٌ هم للنصر أهل، وقد عُرفوا في شريعتنا بـ«الطائفة المنصورة»، فاشتُق لهم من النصر اسم، لأنهم يمثلون طائفة من الأمة وُعدت بالنصر لحملها لمؤهلات ذلك النصر، وقد دلت نصوص السنة على أن تلك الطائفة تتجمع كلما أفسد اليهود وعلوا علواً كبيراً ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وكذلك ما حوله من أرض النبوات والنبوءات الممتدة من النيل إلى الفرات.

ومؤهلات تلك الطائفة هي أمور من أخذ الدين بقوة؛ تُمتثل شرعاً، ولا يُنتظر ظهورها دون بذل الأسباب لاستجلاب آثارها، وتحري السمات التي تميز أهلها، فهناك خطوط وخطوات شرعية لخلاصات تصحيح المسار المؤهِل لتحقيق النصر والعزة للمسلمين، في أي صراع يدب بينهم وبين أي عدو من أعدائهم المعتدين.

ونتناول في هذا المقال أبرز هذه الخطوط وأهم تلك الخطوات، التي إذا توافرت في فئة أو جماعة أو حركة أو حزب أو قطاع من شعب؛ كان لا بد من دخوله في مصاف الطائفة المنصورة التي تواترت بشأنها الأحاديث، فتناولت أخبار بطولاتها كتب السِّير، وتناوبت ذكر فتوحاتها صفحات التاريخ. كيف لا! وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم بما أوحى الله إليه صفات تلك الطائفة وأبرز سماتها عندما قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس[1].

ولا يعني نص الحديث على تحديد مكانهم ببيت المقدس خلو بقية الأرض من وجودهم في زمان تجمع جمهورهم فيه، فقد قال ابن تيمية رحمه الله: «دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام مع ما علم بالحس والعقل وكشوفات العارفين: أن الخلق والأمر ابتدآ من مكة أم القرى، فهي أم الخلق وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وهي جعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم. فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة بالشام والحشر إليها. فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر. وهناك يحشر الخلق. والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام. وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها. وكما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فخيار أهل الأرض في آخر الزمان ألزمهم مهاجر إبراهيم - عليه السلام - وهو بالشام»[2].

والظهور هنا ليس مرادفاً للوجود، بل مرادف للقوة والغلبة، وكون قوتها وغلبتها في الشام في آخر الزمان أظهر لا ينفي وجود بعضها في غيره من بلاد الإسلام، وهذا كان واقع ظهورها المتنقل عبر الزمان، كما قال الإمام النووي: «ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض»[3]، وظهور الطائفة المنصورة بالحق شامل لظهور الحجة والبيان، مع ظهور السيف والسنان، فأهلها «على الحق ظاهرين» و«لعدوهم قاهرين» لأنهم «يقاتلون على الحق»، كما دلت الروايات الصحيحة. فهم دعاة للحق ودعائم له، يتحرونه ويقولون به ويدافعون عنه ويقاتلون عليه. ويبدو من الأحاديث أن محور الصراع بين المسلمين وأعدائهم سيكون كلما اقترب الزمان في بيت المقدس وما حوله، وفي دمشق وما حولها.

واللافت في هذه الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يصف هذه الطائفة بأنها ذات شجاعة في القتال، وصفها بأنها ذات ثبات على الحق، وعندما يصف صلى الله عليه وسلم طائفة بأنها على الحق فلا بد أن يكون منهجها نقياً من كل ما يناقض ذلك الحق، ولهذا فإن تلك الطائفة المنصورة في الدنيا؛ هي بعينها من الفئة أو الفرقة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها «الفرقة الناجية» في الآخرة. فما أسعدها حظاً، وما أكرمها حقاً.. منصورة في الدنيا وناجية في الآخرة، وذلك مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عنه عوف بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار» قيل: يا رسول الله! من هم؟ قال: «الجماعة»[4]. وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاص قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»[5].

فالمنهج هنا واضح لتلك الطائفة المنصورة من هذه الفرقة الناجية: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»، فهي لم تكن منصورة، ولن تكون ناجية؛ لولا استجابتها لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بهما وعضوا عليهما بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، ولهذا سُمي أهل السنة والجماعة بهذا الاسم، لتجمعهم حول الأصول الاعتقادية الصحيحة التي جاء بها الوحي طريقاً للنجاة، فالسنة التي ترادف «الطريقة» لغة؛ هي طريق نجاة الفرقة الناجية.

 إن الفرقة الناجية تشمل عموم أهل السنة الحاملين لأصولها الاعتقادية، أما أصحاب الطائفة المنصورة فهم خواص أهل السنة والجماعة وخلاصتهم، وخواص هؤلاء؛ هم العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء»[6].

وأهل الطائفة المنصورة لهم خصوصية بين أهل السنة والجماعة؛ لأنهم لا يكتفون بإقامة أصول القرآن والسنة والدعوة إليها؛ بل يجتهدون في سبيل إقامتها، ويجاهدون لأجل نصرتها، ووصفهم بأنهم «يقاتلون على الحق» يقصد به الحق بمعناه الشرعي الديني، وليس مجرد الحق التاريخي» أو الحق الوطني أو الحق القومي أو الحق الإنساني، فما كان حقاً من هذا فهو يأتي بالتبع وليس بالأصالة، فالحق الذي تشرع المقاتلة لأجله، هو الموصل لأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن قاتل في سبيل هذا، فقتاله في سبيل الله، لورود الحديث بذلك، فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (متفق عليه).

والحق الشرعي الذي يقاتل عليه المجاهدون على طريق الله أو «في سبيل الله»؛ ليس شيئاً آخر غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مع تحري سنة خلفائه الراشدين المهديين في فهمهما وطريقة العمل بهما.

 يُفهم من هذا أن لأهل السنة أصولاً وقواعد؛ لا بد للساعين لتمثل طريق الطائفة المنصورة أن يربوا عليها العاملين والداعين والمجاهدين، وهذه الأصول موجودة في مظانها ومواضع شرحها من تآليف أئمة الدين وعلماء أهل السنة، وقد أجمل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله جوهر هذه الأصول في قوله: «أصول أهل السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة»[7]، وهذه العبارة على وجازتها وقصرها؛ تختصر تحتها أبرز معالم الطريق، لمن أراد ألا يضل الطريق، فالحقيقة أن قدراً كبيراً مما أصاب المسلمين من الاستضعاف والمذلة كان بسبب الابتداع الذي أغرى الشيطان به طوائف عديدة فيهم، أو بسبب متابعتهم أو مشايعتهم للخارجين على الأصول التي اجتمع عليها السلف الكريم من الصحابة والتابعين. وأشد أنواع البدع الموقعة في الذل والمؤخرة للنصر هي البدع الاعتقادية، فقد قال الله تعالى عن المبتدعة الأوائل من بني إسرائيل: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُفْتَرِين} [الأعراف: 152]، قال أبو قلابة في تفسير هذه الآية: «هي والله، لكل مفتر إلى يوم القيامة»، وقال سفيان بن عيينة: «كل صاحب بدعة ذليل»[8].

إن طريق العز والشرف هو طريق الكتاب العزيز، الذي بينته وفصلته السنة الشريفة، ولهذا قال الله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير {فِيهِ ذِكْرُكُمْ}: «فيه شرفكم»[9].

لا داعي إذن أن يدعي المبتدعة ما يُسمى «شرف المقاومة»، ولا مجال لمزايدتهم على الذائدين عن الدين من المجاهدين المستمسكين بالسنة، فالأحداث أثبتت قديماً وستثبت أن أهل الأهواء لا يقاومون ولا يقاتلون إلا لحسابات خاصة، ولنصرة بدعهم المتوارثة عن أسلافهم، لا عن السنة الموروثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم.

ولا بد هنا من تقرير حقيقة مهمة، وهي أنه من الحق والسنة التعريف بأعداء السنة أهلاً ومنهجاً، فكما أن من هدي الكتاب المشروح بالسنة تبيين سبيل المؤمنين وتفصيلها، فكذلك من مقاصد القرآن استبانة سبيل المجرمين وكشفها، فقد قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ} [الأنعام: ٥٥]، وعندما تُكشف سُبل المجرمين، ومن ضمنهم طوائف المبتدعين، القدامى منهم والمحدَثين؛ فإن جهاد أهل السنة لنصرة الكتاب والسنة سيظل هو الأتقى والأنقى والأبقى، وقد وصف الله الجهاد وفق محكم التنزيل بالجهاد الكبير، كما قال سبحانه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].

  وإذا كان شأن المنتمين إلى الطائفة المنصورة هو الوضوح التام في المواقف من الحائدين عن صحيح الدين؛ فمن باب أولى أن يكونوا أكثر وضوحاً من المحادين لأصل الدين، لأن ولاية الله لا تُنال إلا بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه. والطائفة المنصورة لا تستحق أن تكون منصورة إلا بعد أن يتبين جندها وأنصارها من يوالون ومن يعادون، ومن ثَمَّ يجعلون من هذا الولاء وذاك البراء ميثاقاً يحفظون به إيمانهم أمام ربهم، فالموالاة للمؤمنين على حسب إيمانهم، والمعاداة للكافرين بقدر عدائهم وعدوانهم؛ هما عهد الإيمان ورباط الإسلام، فهما يمثلان العروة الوثقى له، بل أوثق عرى الإيمان، كما قال نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبُغض في الله»[10].

والإيمان الذي تعهد الله تعالى بنُصرة أهله في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] لا يتحقق على الوجه المَرْضي إلا بأن يبرهن المؤمنون على صدق إيمانهم بتحقيق معنى الولاء والبراء، عن طريق تصديق القول للعمل في محبة المؤمنين ونصحهم ووصلهم ونصرهم، مع بُغض أعداء الدين وإبعادهم ومجاهدتهم، فبهذا يتحقق معنى عظيم من معاني الإيمان، بل لا يُذاق له طعم بدونه، كما قال حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته وصومه - حتى يكون كذلك»[11].

فأمر الولاء والبراء إذن من معاقد الإيمان في القلب، وهو وإن كان شأناً قلبياً؛ فإن مدار إثبات الصدق فيه هو التعامل مع الناس به. فإبراهيم عليه السلام أثبت كمال توحيده هو ومن معه؛ بما حكاه الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [الممتحنة: ٤]، فقد أبدوا العداوة وأظهروها بشرطها الظاهر، وهو رجوع الضالين عن ضلالهم، من شرك أو كفر أو بدعة مغلظة.

على أن غير الكفار الظاهرين من عصاة الموحدين، لهم معاملة فيها تفصيل في الموالاة والمعاداة، يجملها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في قوله: «على المؤمن أن يعادي في الله ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن؛ فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: {وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الحجرات: ٩]، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبُغض، وأمر بالإصلاح بينهم، فليتدبر المؤمن أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فالله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه، والإهانة والعقاب لأعدائه، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص تُقطع يده لسرقته؛ ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة»[12].

ولكن هناك طائفة تدخل ضمن من تجب مفاصلتهم وعداوتهم والبراءة منهم؛ وهم: المنافقون الظاهرو النفاق، وآية ظهور نفاقهم؛ هي استعلانهم واستعلاؤهم بموالاة الكفار ونصرتهم، مع عدم إخفاء عداوتهم للمؤمنين ومحاربتهم، فهذا في الحقيقة يدل على كراهية هؤلاء المنافقين لشرع الله ودينه، في أشخاص من يحملون هذا الشرع ويحمون هذا الدين، وقد قرن الله تعالى بين كراهية الدين وكراهية المؤمنين في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ 28 أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 28، 29].

ولهذا سمى الله تعالى المنافقين أعداء، بل جعلهم في مقدمة الأعداء، لاستحقاقهم المجاهدة والمناهضة والبراء، كما قال سبحانه: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: ٤]، وجعل مجاهدتهم مقرونة بأقرانهم من الكفار الظاهرين، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ} [التوبة: 73].

خصائص الطائفة المنصورة:

تتميز الطائفة المنصورة بخصائص وظيفية منظورة، تُعرف بها وتقوم لأجلها، وهي خصائص ووظائف تعود إلى تكاليف شرعية من أعلى شُعب الإيمان، تقوم بهذه الطائفة؛ فتقيم بها الدين وتنتصر للمسلمين، وهي صفات مستفادة من مجموع الروايات لحديث الطائفة، وهي تجمع فرائض تُقام، وشرائع تُؤدى، فهي ليست آمالاً يُنتظر وقوعها قدراً، بل هي أعمال ندبت الشريعة عموم الأمة للقيام بها شرعاً، فمن أقامها فأقام الدين بها كان من خيرة خواص هذه الأمة الخيرية، الذين تكفل الله بنصرهم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم ضررهم ممن خذلهم أو خالفهم. ومن أهم خصائص هذه الطائفة:

1- قيامهم بأمر ربهم:

بمعنى أنهم ملتزمون بالشرع ومستقيمون عليه وثابتون على أوامره، فهم أصحاب دعوة يحملونها ويدعون الناس إليها، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وكل هذا داخل في معنى قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].

 ويدخل في أمر قيام الطائفة المنصورة بالدين، تجديدها لما اندرس من معالمه، وإحياؤها ما غاب من سننه، وهذا من خصوصيات هذه الطائفة التي لن يقوم بها غيرها، حيث يتجدد ظهورها المنهجي والعملي بالحق مع بدايات كل قرن من الزمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»[13]، ولفظة «مَنْ» هنا؛ تصدق على الفرد والمجموع، كما قال الحافظ ابن حجر في تعليقه على ذلك الحديث: «لا يلزم أن يكون في رأس كل مئة سنة واحد فقط، بل قد يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو مُتَجه، فإن اجتماع الصفات المُحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن تكون جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز»[14].

2- ظهورهم على أعداء الدين علمياً وعملياً:

قد وصف أهل الطائفة المنصورة بأنهم: «على الحق ظاهرين»، ومعنى ظهورهم يحتمل ثلاثة معانٍ، أولها: أنهم بارزون للناس معروفون بهويتهم المنهجية والعملية.

وثانيها: ظهور حجتهم على الناس، واتضاح أن الحق معهم، مع ثباتهم على هذا الحق وانتصارهم له وبه.

وثالثها: أن لهم مكانة من التمكين، ومقاماً من الغلبة والعلو، لأجل الحق الذين يحملونه وينصرونه.

3- قتالهم على الحق بعد إقامة الحجة عليه:

هذه الطائفة لا تكتفي بتحري الحق المنزل وبيانه والأمر به والنهي عن ضده واستفراغ البلاغ به فحسب؛ بل تقيم الحجة عليه، ثم تقاتل في سبيل نصرته وإعلاء كلمته، كما صرحت بذلك ألفاظ متعددة من روايات حديث الطائفة المنصورة، ففي رواية: «يقاتلون على أمر الله»[15]، وفي أخرى: «يقاتلون على الحق»[16]، وفي ثالثة: «يقاتلون على الدين»[17]، وفي رابعة: «يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله»[18]، وفي خامسة: «حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال». والطائفة المنصورة المرجو وجودها، والمشروع إيجادها لن تكتسب هذا الوصف إلا بأن تأخذ بكل أسباب القوة والقدرة، حتى تنصر الحق وتحقق غايات الجهاد المشروع، وأسمى غاياته أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

4- مصابرتهم للأعداء ومرابطتهم على الثغور:

قد دلت على ذلك الألفاظ المختلفة في روايات حديث الطائفة، حيث تشير إلى أن أهل تلك الطائفة يُواجَهون ويخذَلون ممن يرجى نفعهم ونصرتهم، ولكن ذلك لا يثنيهم عن طريقهم، كما في لفظ الحديث: «لا يضرهم من خذلهم»[19]، «لا يبالون من يخالفهم»[20]، فهم كان بإمكانهم أن ينصرفوا عما هم فيه من الأداء والعنت بذريعة هذا الخذلان، ولكنهم «لا يبالون» بمن خالفهم و«لا يضرهم» من خذلهم، حيث يصبرون ويصابرون ويرابطون كما أمر الله المؤمنين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

5- دوام وجودهم وتواصل أجيالهم:

وجود الطائفة المنصورة متواصل عبر تاريخ هذه الأمة، بل قبل مجيء هذه الأمة، فبنو إسرائيل أنفسهم عندما كانوا أمة مفضلة على العالمين، وقبل أن يُنزع منهم الاصطفاء وتحل عليهم اللعنة والغضب؛ كان من خيارهم فئة لها اختيار عند الله وامتياز، كما قال تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْـحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وكذلك الشأن في قوم عيسى عليه السلام، إذ اختار الله تعالى من المؤمنين به طائفة خصها بالتأييد وجعلها منصورة، كما قال تعالى: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، والطائفة المختارة من قوم موسى ومن قوم عيسى هي المخبر عنها في حديث الافتراق، الذي جاء فيه التصريح بوجودها في الزمان الأول، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحده، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة...»، وبقيت في هذه الأمة فرقة واحدة ناجية، هي فرقة أهل السنة والجماعة، التي تعد الطائفة المنصورة خاصتها وخلاصتها، كما سبق البيان.

ولكل ما سبق نقول:

 إن تهيئة طائفة من المسلمين في أي زمان من الأزمنة وفي أي مكان من الأمكنة، لكي تكون مستوفية لخصائص الطائفة المنصورة المذكورة في وحي السنة والكتاب، لهي أمر مشروع، بل أمر واجب؛ كيف لا؛ وكل الخصائص التي ينبغي أن يتحلى بها كل من يريد الانتساب لتلك الطائفة؛ هي في الأصل واجبات شرعية أمر بها المسلمون جميعاً، وهي من أعلى شُعب الإيمان، التي يختص الله بالتوفيق إليها الأخيار من خير أمة، أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين يسارعون في الخيرات ويعبدون ربهم خوفاً وطمعاً، ويدعونه رغباً ورهباً، ويسابقون إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض، قائلين في كل وقت وحين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [البقرة: 285].

 

 

 


 


[1] رواه أحمد برقم (22320) والطبراني في الكبير (7643)، وهو ضمن روايات حديث (الطائفة المنصورة) الذي عده جمع من أهل العلم متواتراً.

[2] مجموع فتاوى ابن تيمية ج 27 ص 44،43. 

[3] صحيح مسلم بشرح النووي (13/67).

[4] رواه ابن ماجه (3992) والطبراني في المعجم الكبير (18/ 91)، ورواه الحاكم تعليقاً باستثناء حسن وله شواهد.

[5] رواه الترمذي (2641) ورواه غيره، وحسنه الترمذي لشواهده الكثيرة كما قال شارحه في تحفة الأحوذي (3/368). 

[6] أخرجه أحمد في مسنده برقم (17142)، (17144)، (17147) وأبو داود في سننه برقم (4607) وقال حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح (43).

[7] شرح أصول اعتقاد أهل السنة، للإمام اللالكائي (1/156).

[8] تفسير ابن كثير للآية 152 من سورة الأعراف.

[9] تفسير الطبري للآية 10 من سورة الأنبياء.

[10] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (11537)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1728).

[11] أخرجه ابن المبارك في الزهد برقم (353).

[12] مجموع فتاوى ابن تيمية (28/ 208، 209).

[13] رواه أبو داود برقم (4291)، والحاكم (4/522)، وصححه ابن حجر في توالي التأسيس ص49.

[14] كما في رواية مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، برقم (1924).

[15] كما في رواية مسلم عن جابر بن عبد الله، برقم (1923)، وعن أحمد برقم (14720).

[16]  كما في الرواية السابقة لعبد الله بن الإمام أحمد.

[17] كما أخرجها أبو يعلى في مسنده برقم (6417) والطبراني في الأوسط برقم (47).

[18] كما في رواية أبو داود برقم (2484)، ومسند أحمد برقم (19920)، والحاكم (4/450) وقال صححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

[19] كما في رواية مسلم برقم (1921).

[20] كما في رواية سعيد بن منصور برقم (2376).

أعلى