كليات الدين في القرآن الكريم

جاءت (كليات الدين) في القرآن الحكيم كي تحدد القيم والمبادئ والـمُثُل، وتنشئ تصوراً عامّاً للكون والحياة والإنسان يشمل الدنيا والآخرة، ولتبين الغايات والمقاصد العامة التي يسعى التشريع الرباني لتحقيقها في حياة الناس


يُراد بمصطلح الكُليَّات: الأصول والقواعد العامة المجردة التي تشكل أساساً لما ينبثق منها، وما ينبني عليها من الجزئيات. وعليه، فإن مصطلح (الكليات) هو المصطلح المقابل لمصطلح (الجزئيات).

إن تعريف القرآن الكريم بأصول الدين وأحكام الشريعة أكثره كُلِّيٌّ لا جُزئي؛ لأنه كتاب جامع. ولا يكون جامعاً إلا والمجموع فيه أصول ومعانٍ وقواعد كليَّة؛ ذلك أن الشريعة تُمِّمت بتمام نزوله، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣]، وقوله جلَّ ذكره: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقوله جلَّ ثناؤه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. ذلك أن القضايا والأحكام جاءت فيه في صيغة أصول عامة وقواعد كلية يندرج تحتها ما لا يحصى من الجزئيات.

ومصطلح كليات الدين في القرآن العظيم مستنبَط من آيتين كريمتين: الأولى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: ٧]. والثانية: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: ١].

فالآية الكريمة الأولى بيَّنت أن آيات القرآن الحكيم المحْكَمَات هن أصولٌ وأمهاتٌ لغيرها، وأن مجمل الدين وشريعته قائم على هذه المحْكَمَات.

قال القرطبي في هذا السياق: «المحكم أبداً أصلٌ تَرِد إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع»[1]

وقال ابن عاشور: «صنف الآيات المحكمات يتنزل من الكتاب منزلة أمِّه، أي: أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده»[2]. وقال أيضاً: «فالمحكمات هي أصول الاعتقاد، والتشريع، والآداب، والمواعظ»[3].

أما الآية الكريمة الثانية، فإن فحواها يدل على أن آيَ القرآن المجيد محكمةٌ في لفظها، مفصلة في معناها، كاملة مبنىً ومعنىً، إذ بينت بياناً في أعلى أنواع البيان، لا تناقض فيها ولا خلل[4].

ومن خلال ما سبق ذكره، يمكن القول بأن القرآن الكريم باعتباره الأصل الأول والمرجع الأساس لدين الإسلام، فهو مستودع كليات الدين ومصدرها. فالحكيم العليم جلَّت عظمته أرشدنا في كتابه إلى الأصول والقواعد الكلية وترك لنا التفصيلات للبحث فيها والتعامل معها بحسب ظروف الزمان والمكان، رحمة منه سبحانه غير نسيان: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

على أن نزول القرآن بدأ بالآيات الكليات التي كانت سابقة على آيات الأحكام التفصيلية. إذ اهتم القرآن المكي بادئ ذي بَدء بالكليات الأساسية والمبادئ العامة للدين عقيدة وشريعة، ثم نزل بَعْدُ في المدينة النبوية تفصيل أحكام الشريعة.

ففي الفترة الأولى التي قضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مكة منذ بعثته إلى أن هاجر إلى المدينة، عُنِي القرآن العظيم أولاً بإصلاح العقيدة وتخليصها من شوائب الوثنية، وتهذيب النفوس بتجريدها من رذائل الصفات، حتى تجتمع القلوب على الدين الحق، وتوحيد الله تعالى، وتنمحي من النفوس آثار الجاهلية.

وكان من رحمة الله تعالى أن جعل لترسيخ أصول الدين - على أهميتها وخطورتها - المدة الكافية وهي الفترة المكية؛ إذ ظل الوحي المبارك ينزل بمكة ثلاثة عشر عاماً يوضح معاني الدين الكلية ومقاصده، ضمن التطبيق العملي للحياة.

قال الإمام الشاطبي: «اعلم أن القواعد الكلية هي الموضوعة أولاً، والتي نزل بها القرآن على النبي  بمكة، ثم تبعها أشياء بالمدينة، كملت بها تلك القواعد التي وضع أصلها بمكة، وكان أوَّلها الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم  واليوم الآخر، ثم تبعه ما هو من الأصول العامة: كالصلاة، وإنفاق المال، وغير ذلك... وإنما كانت الجزئيات المشروعات بمكة قليلة، والأصول الكلية كانت في النزول والتشريع أكثر. ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة، واتسعت خطة الإسلام، كملت هناك الأصول الكلية على التدريج»[5].

وقد جاءت (كليات الدين) في القرآن الحكيم كي تحدد القيم والمبادئ والـمُثُل، وتنشئ تصوراً عامّاً للكون والحياة والإنسان يشمل الدنيا والآخرة، ولتبين الغايات والمقاصد العامة التي يسعى التشريع الرباني لتحقيقها في حياة الناس. وفي الوقت نفسه يكون ذلك تمهيداً لحياة في الآخرة سعيدة وأبدية.

وفي السياق نفسه بيَّنت كليات الدين في القرآن أمهات المفاسد، وأصول الانحرافات العقدية والفكرية والنفسية التي تهدد حياة الإنسان، فيعيش حياة ضنكى في الدنيا، ويصيبه التلف والعطب والشقاء في الآخرة في عذاب سرمدي لا ينتهي أبداً.

ومن التنبيه بمكان: أن كثيراً من كليات الدين في القرآن قد قررتها الكتب المنزلة على الأنبياء السابقة عليه. ولا غرابة في ذلك؛ إذ ما دام المصدر من مشكاة واحدة وهي الوحي، وما دام المتلقي واحد وهو الإنسان، فمن البدهي أن تكـون هـذه الكليـات من الأمور المشتركة بين الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى على رسله الكرام.

وفي هذا السياق قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً اتفاق القرآن الكريم مع الكتب السابقة في أصول الدين وقواعده الكلية: «وقرر [أي القرآن الكريم] ما في الكتب المتقدمة من أصول الدين وشرائعه الجامعة التي اتفقت عليها الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، كالوصايا المذكورة في آخر سورة الأنعام، وأول سورة الأعراف وسورة سبحان، ونحوها من السور المكية»[6].

على أنه يمكن تصنيف كليات الدين في القرآن العظيم إلى خمسة أصناف رئيسة، وهي: كليات مشتركة بين الأنبياء، وكليات عقدية، وكليات خُلُقية، وكليات تشريعية، وكليات مقاصدية. 

1- الكليات المشتركة بين الأنبياء: ويراد بها إقامة الدين، والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، والاجتماع على اتباع الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، والاتفاق على أمهات الأحكام في العبادات والمعاملات والأخلاق، وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول العقائد والشرائع.

2- الكليات العقدية: ويراد بها الأصول الاعتقادية الكبرى كالإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وتوحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأركان الإسلام الخمسة.

3- الكليات التشريعية: وهي المبادئ والقواعد المتعلقة بتفريع الأحكام العملية من تحليل وتحريم ووجوب ومنع وإباحة. ويدل عليها قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِـمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]. وقوله جل ذكره: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْـخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]. وهاتان الآيتان الكريمتان وما شابههما من آي الذكر الحكيم تُبين أنه لا حلال إلا ما أحله الله جلَّ شأنه، ولا حرام إلا ما حرمه سبحانه؛ فالتحليل والتحريم من خصائص رب العالمين.

4- الكليات المقاصدية: وهي المعاني الأساسية الجامعة التي لأجلها خلق الله - تقدست أسماؤه - الخلق، ولأجلها وُضِعت الشرائع. إذ الشرائع مبناها تحصيل المصالح للعباد وتقليل المفاسد عنهم، حتى لا يضلوا أو يشقوا في الدنيا والآخرة.

ومن الآيات الكريمة التي تقرر كليات الدين المقاصدية قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقوله عز ذكره: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى} [طه: 123] وقوله جل ثناؤه: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، وقوله جلَّت عظمته: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تفيد بيان مقاصد الدين الحنيف.

5- الكليات الخُلُقية: وهي كل ما يدل على صفة خُلُقية أو يحث عليها، كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ } [آل عمران: 50]، والتقوى هي الفضيلة المركزية في الدين. وقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112]، فالاستقامة من الأخلاق الأساسية الجامعة لمكارم الأخلاق، والموجِّهة لما لا يحصى من أحكام الإسلام وآدابه.

 


 


[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4/9.

[2] محمد الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير: 3/160.

[3] المرجع السابق: 3/155.

[4] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 4/303 (بتصرف).

[5] الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة: 3/72.

[6] ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ص3.

 

 


أعلى