دولة شمال جنوب السودان

خرج الناس في السودان منذ ما يقارب السنتين رفضاً لحكم البشير واعتراضاً على ما وصلت إليه البلاد من تردي الأحوال المعيشية وسوء الخدمات، ولم يكن من مطالبهم التطبيع مع العدو الصهيوني، أو عقد اتفاقات مذلة مع المتمردين.


كردفان والنيل الأزرق ولايتان سودانيتان تقعان جغرافياً على الحدود الجنوبية لدولة السودان بالتماس مع الحدود الشمالية لدولة جنوب السودان، وأخيراً مَنَحَ المجلس السيادي والحكومة السودانية الانتقالية القائمة، تلكما الولايتين بالإضافة إلى ولاية أخرى وهي ولاية غرب كردفان حق الحكم الذاتي. وتبعاً لقراري البرهان وحمدوك فقد تم تدشين نظام جديد للحكم في السودان يتوزع بين الإقليمي والولائي والحكم الذاتي، فيطبق الحكم الإقليمي والحكم الذاتي في 8 ولايات من جملة 18 ولاية بالسودان، ويبقى النظام الولائي في 10 منها.

فقد عين رئيس مجلس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي حاكماً عامّاً لإقليم دارفور المكوَّن من 5 ولايات. بالإضافة إلى الولايات الثلاث صاحبة الحكم الذاتي، لتبقى 10 ولايات تتمتع بنظام حكم ولائي.

والحقيقة أنه منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير وحكومته؛ هناك غموض يلف دوائر الحكومة الجديدة في السودان، وما تتخذه من قرارات مصيرية من المفترض أن تحظى بموافقة شعبية، على فَرَض وجود حكومة منتخبة مفوضة شعبياً، ففي بريطانيا على سبيل المثال، لا تمتلك حكومة جاءت بانتخابات حرة أن تتخذ قراراً بالانفصال والخروج من الاتحاد الأوروبي إلا بالرجوع إلى الشعب واستفتائه في البقاء أو الخروج؛ فما بالنا بحكومة لا تحظى بأي تفويض شعبي حقيقي يمكن التعويل عليه!

خرج الناس في السودان منذ ما يقارب السنتين رفضاً لحكم البشير واعتراضاً على ما وصلت إليه البلاد من تردي الأحوال المعيشية وسوء الخدمات، ولم يكن من مطالبهم التطبيع مع العدو الصهيوني، أو عقد اتفاقات مذلة مع المتمردين.

والعجيب أنه من بين بنود الاتفاق مع زعماء الحرب تحديد فترة 39 شهراً لإنهاء عمليات دمج وتسريح القوات التابعة للحركات المسلحة ضمن إجراءات عديدة تضمنتها بنود الترتيبات الأمنية. على أن الفترة الانتقالية للحكومة الحالية التي من المفترض أن يعقبها انتخابات ديمقراطية أوشكت على الانتهاء، وهو ما يعني ضمنياً أن الحكومة الحالية تمدد لنفسها، هذا في ظل غياب مجلسٍ تشريعيٍّ أقرَّ اتفاق المرحلة الانتقالية، ورغم كونه مجلساً معيَّناً غير منتخب إلا أنه حتى الآن لم يتم تعيينه؛ وهو ما يطرح كثيراً من التساؤلات عن نية هذه الحكومة وطبيعة اتخاذ القرارات المصيرية التي تمس سيادة السودان ومستقبله.

والحقيقة أن اتفاقات بهذا الثقل السياسي تُلقِي بكثير من الظلال السلبية والتساؤلات والمخاوف المشروعة.

أولاً: في ظل هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها السياسية وغيرها، فإن اتفاقات الحكم الذاتي تُضعِف من الوضع السياسي للدولة.

ثانياً: تعيين أمراء الحرب في مناصب سياسية وسيادية مهمة في الدولة يثير مخاوف من تزايد أطماعهم بالوصول إلى مرحلة الانفصال الكامل في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية.

فعلى سبيل المثال (مني أركو مناوي) قد تولى من قبلُ منصب كبير مساعدي الرئيس السابق عمر البشير في القصر الرئاسي، ورئيساً للسلطة الانتقالية لإقليم دارفور التي نشأت وقتها ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى عاد مرة أخرى إلى ميدان القتال بحجة ضعف الصلاحيات الممنوحة له. وهو الشخص ذاته الذي جاء اليوم ليتولى المنصب نفسه بصلاحيات أكبر لا أحد يدري هل ترضي غروره أم يتطلع إلى ما هو أكبر من ذلك؟

الأمر الثالث: في ظل عدم وجود مؤسسات مستقرة في الدولة وتحكُّم المجلس السيادي التي يتحكم به القادة العسكريون، فإن وجود شخصيات ذات طبيعة عسكرية على قمة الهرم السياسي كرؤساء لمناطق نزاع عسكري سابقة، يؤشر إلى إمكانية اندلاع الصراع المسلح، لأن العسكري لا يتفاهم إلا بالسلاح، وكان من الأولى أن يتم انتخاب ممثلين سياسيين جدداً لمناطق الصراع تختارهم شعوب تلك المناطق ممثلين لهم. لا أن يفرض المتمرد رؤيته في الحرب والسلام والبقاء والانفصال على شعوب تلك المناطق.

والحقيقة أنه لا توجد دولة بالعالم تتنوع بها أنظمة الحكم بتلك العشوائية، وتعقد بها اتفاقات بتلك الأهمية في غياب كامل من الشعب ومؤسساته النيابية. ولا توجد سلطة تمدد لنفسها وإلا وفي نيتها شرعنة الاستبداد، والفساد في كافة المجالات.

وهذا ما يلمسه المواطن السوداني كلَّ يوم مع رفع الدعم عن السلع، وتعويم سعر العملة، وارتفاع الأسعار مقابل انخفاض الأجور، وضعف الخدمات، واختفاء بعض السلع.

لقد تبوأ عمر البشير الحكم بالسودان وهو موحَّد شماله وجنوبه، وورَّث السودان للطغمة الجديدة شمالاً من دون الجنوب بعد فترة حكم امتدت ما يقارب ثلاثين عاماً. أما الحكام الجدد فيبدو أنهم يصارعون الزمن في غضون فترتهم الانتقالية المحدودة بـ 39 شهراً مضى أكثر من نصفها، ليقضوا على ما تبقى من السودان ويورِّثوها كنتونات صغيرة في وصفة غير قابلة للإصلاح.

غير أن نصيحتي للشعب السوداني أن يحرص في ظل وصفة الخراب السياسي والاقتصادي الحالية أن يظل اسم السودان جزءاً من مشاريع الانفصال الحالية؛ فتصبح ولاية النيل الأزرق وكردفان، دولة شمال جنوب السودان، أما إقليم دارفور فيصبح اسمه دولة غرب شمال السودان وهكذا حتى تبقى أثراً للأجيال القادمة تذكرهم أن ثمة شعباً كان يعيش كريماً على هذه الأرض كان يسمى الشعب السوداني ثم تشتت فذهب، وشاهداً على جيل أضاع السودان مرتين مرة بخروجه ومرة بقعوده.

 


أعلى