نفاق يتململ!

توالت أحداثٌ وتصرفاتٌ أبانت عن إفك الغرب ومكره ونفاقه، ومن ثَمَّ لم يعد يثق بهم إلَّا مَن له مصلحة مباشرة معهم من المرتزقة أو الحاقدين على الأمة ودينها وأناسها.

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

فمن طبيعة الحقائق أنها لا تخفى مهما اجتهد أصحابها وحَرَصوا في محاولات سترها، والظهور أمام الناس بما لا يفضح خفايا تلك الحقائق أو يبيِّنها لكل مبصر، وأما ذووا البصائر فلربما قد أدركوها في مبتدأ أمرها قبل أن يبدو الخبر للعيان، ويظهر الفاعل والمفعول به بعد أن حجبهما نائب الفاعل دهراً غير قليل، وحينها تغدو المعرفة عامة يستوي فيها الذكي ومَن دونه.

ولأجل ذلك فإن النفاق بمعناه الواسع في إخفاء شيء والتعمية عنه وإظهار آخر يناقضه، يربك المراقب فضلاً عن الناظر العابر، من باب الغش والخديعة، أو التزيُّن والادعاء، أو الاستتار والتواري، ولا يستمر مفعوله ناجحاً وأثره باقياً مهما أحسن المنافقون في نسج الخيوط التي تخفي الحق، فالحقيقة مثل شمس ستطلع حتى وإن تلبدت السماء بالغيوم، أو تجمعت دونها ذرات غبار كثيف، فلا مناص من الجلاء في يوم قادم، وزمن آتٍ لا محالة.

ومنذ انخفضت رايات أمتنا الإسلامية في الأرض، وغاضت قوَّتها، وذهبت أمجادها، وحلَّت مكانَها الأمم الغربية بمن فيها من يهود ونصارى وملحدين، والقوم يجيدون الصنعة في حبك ما يكذبون به علينا وعلى العالم، لا خوفاً من ضعفنا؛ وإنما لزيادتِنا ضعفاً وخمولاً واستكانة، والاستقواءِ علينا وسلبِ خيراتنا أو إجبارِنا على ما نكره، وتزيين الباطل وتجميله، والتنفير من الحق وتقبيحه، بناءً على ما صنعوه من نفاق أو شيدوه من أوهام، أو وَفْقَ ما أثبتوه في الواقع من شعارات وأسماء لا ينقصها البريق واللمعان، وتصلح غطاءً لجرائمهم، وتسويغاً لما سيقترفونه.

فظلَّت الأوضاع كما هي، وخُدِع فئام لهم أو تخادعوا بهم، ويأبى الله إلَّا أن يقيم الحجة من خلال أهل البصيرة من العلماء والكتَّاب والساسة والقادة والمجاهدين وغيرهم من أهل العناية بالشأن العام، الذين بادروا لإنارة العقول، ورفع الحجب عن العيون، وتنبيه الألباب إلى الخداع والكذب والكيل بعدة مكاييل، ودفع الصائل بفكره ومفاهيمه، أو بعسكره وأدواته، وقوبلت جهود أولئك الكرام من أقوامهم بالتصديق تارة، وبالتكذيب أخرى أو بالتشكيك والإهمال.

ثمَّ توالت أحداثٌ وتصرفاتٌ أبانت عن إفك الغرب ومكره ونفاقه، ومن ثَمَّ لم يعد يثق بهم إلَّا مَن له مصلحة مباشرة معهم من المرتزقة أو الحاقدين على الأمة ودينها وأناسها. فمن تلك التصرفات مثلاً أن الغرب الكافر وصف دفاع المسلمين عن حدودهم البحرية بالقرصنة وألصق بهم هذه الألقاب الباطلة وهم منها براء، ودفاعهم عن مصالحهم شرعي في جميع الموازين؛ وإنما القراصنة حقاً هم المعتدون عبر سفن الكفار وأساطيلهم، وهي تهمة تذكرنا بنسختها المحدثة حينما يصيحون ذعراً من الإرهاب وهم أكثر الخلق دموية ووحشية.

وزاد الغرب فأسرف في بهتانه مدعياً أنه يقاوم تجارة الرقيق في الوقت الذي كانت سفنه تخطف الأحرار من إفريقيا وتسترقهم في قصة من القبح والظلم لا يماثلها إلَّا ما فعله الفريق الآخر من القوم عبر المحيطات والبحار مع السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا، ويكفيك شاهد من أهلها بتصفُّح ثمانين صفحة خطها قلم القس برتلومي دي لاس كازاس في كتابه «المسيحية والسيف»، أو ما وثقه الدكتور منير العكش في عدة كتب، وتلك مذابح مليونية كفيلة بجعل ذلكم الجنس من البشر يصمتون ألف عام عن دعاواهم خزياً وحياءً، ويلتفتون في محاولة لإصلاح ما ارتكبوه قبل أن ينبس أحدهم بكلمة واحدة ناعمة عن العدل والحقوق وأمثالها.

ولم تردع تلك القبائح الدول الكبرى عن عريض الدعوى، ومن المؤكد أن نتائجها راقت لهم، فأصدرت منظماتهم مواثيق واتفاقيات لرعاية حقوق الإنسان والمرأة والأسرى واللاجئين، وتنظيم العلاقات بين الدول في سِلمها وحربها، وغير ذلك مما يدركه المتابع لنشاط الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وما ينجم عن المؤتمرات الدولية التي لا تكف بين فينة وأخرى عن إصدار شيء أو تبنِّي مشروع أو قرار سواء في شأن رياضي أو ثقافي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غير ذلك مما يتخذ وسيلة للنفاق وعسف الضعفاء.

بَيْد أن الكاذب لا يستطيع مواصلة كذبه وفجوره مهما فعل، ولذا أصبح العالم الإسلامي يتساءل: هل الإنسان صاحب الحقوق هو وصف يشمل كلَّ أحد، أم يخص شعوباً وأعراقاً ومِللاً بعينها؟ وماذا عن حقوق المرأة المسلمة في أن تعيش وَفْقَ دينها ومعتقدها بلا مضايقة أو إكراه؟ وهل للمرأة المسلمة المعتدى على أهلها وأرضها وأمنها حقوقٌ إذا كانت في فلسطين والصين والهند وآسيا الوسطى وإفريقيا، أم أن حقوق المسلمة لا تُكفَل إلَّا إن تمردت وخرجت عن شرع ربها وحكمه وطوع رجالها وأعراف مجتمعها المقبولة؟

ثمَّ جاءت أحداث أخرى زادت الشك عند من كان نصيبه منه قليلاً، وأوجدت بقعة شك لدى آخرين من السادرين في الغياية الشبيهة بزوال العقل، وتمثلت في تعامل الغرب مع المهاجرين واللاجئين، والنظر إليهم بدونية واحتقار حتى لو نالوا الجنسية وتكلموا اللغة وخدموا البلاد، بل أصبح التذمر منهم منهجاً سياسياً تنادي له وترفع راياته أحزابٌ تحظى بأصوات مرتفعة في الانتخابات، وحضور لافت في المجال العام النخبوي منه والشعبي.

ولهذا المسار الإقصائي الأثيم تطبيقات على المآذن وحجاب النساء وأسماء المواليد والمدارس والمساجد وغيرها، مما يعني أن الغرب ربما ينزع عن وجهه الكريه آخر قشرة تجميلية كان يرتديها في أقرب فرصة، على اختلافٍ في تسارع الدول لمثل هذا الأمر، ففرنسا مثلاً لم تحتمل الحجاب، ولم تقتنع بموقف لاعب مسلم رفض ارتداء شعار الشواذ، ولربما أنها من سيقود بقية دول القارة إلى تمزيق غطاء النفاق الرقيق الذي ترتديه.

وبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية سقطت الحجج، واندحضت الشبه، واستبان الحق للأعمش والأعمى، وزاد اليقين لدى البصير الحاذق، وخلاصة ذلك ما اتخذته الدول الغربية والمنظمات الدائرة في فلكها من إجراءات ضدَّ روسيا، وما صنعته بالهاربين من جحيم الحرب، وما قدمته لأوكرانيا من عون ومساندة، إضافة إلى تغيُّر اللغة من الكلام المملوء بالمفرقعات الفارغة إلى الفعال الواقعة على الأرض، والتحركات الظاهرة لكل أحد.

فأصبحت روسيا مجرمة مَقصيَّة حتى في الشأن الرياضي الذي كان الغرب يأبى الزج به في السياسة حين يرفع لاعب قميصه لمساندة إخوانه المظلومين، أو الدفاع عن مقدساته، وتعرضت موسكو لخطر الاستبعاد الرياضي من جميع المنافسات بعد أن كان هذا الإجراء حراماً وبغيضاً يشوه وجه الصناعة الرياضية الجميلة! واستقبلت دول أوروبا المهاجرين بالترحاب والإكرام دون إهانة بقول أو فعل، وبلا معاملة سيئة ومقلقة كما هي عادتهم مع المهاجرين المغلوبين على أمرهم من بلاد المسلمين.

وتوالت الأسلحة تباعاً نحو كييف علانية، وتدفق المتطوعون إلى جيش أوكرانيا، ولم يعد هذا المنحى من الجرائم العابرة للحدود، أو من التدخل بشؤون الدول الأخرى، وغاب عنه وصف الإرهاب والتجنيد، ومن المؤكد أن مؤسسات العمل الخيري النصرانية قد شاركت في دعم المجهود الحربي بطريقة غير مباشرة على الأقل دون أن ينالها إغلاق أو تلحقها مساءلة أو يشار إليها بأصابع الاتهام.

ليس هذا فحسب؛ إذ إن المستقبل القريب - وليس البعيد - ينذر بخطر قادم من هذه الدول التي لم تقنع بمساندة أنظمة طاغية باغية على شعوبها ودينهم في بلاد المسلمين، ولم تكتفِ بموقف الفُرجة على المآسي والمذابح والانتهاكات التي تحل بديار المسلمين من أثر أسلحتهم وأتباعهم الوالغين في كثير من الحقوق ظلماً وعدواناً، بل لربما تحض الوكلاء والأتباع والأذناب حضّاً على تجاوز مراحل النفاق السابقة، والانتقال من استغفال الناس إلى إعلان صريح الرِّدة وتبديل الديانة دون الاكتفاء بتحريف أو تأويل، والمسارعة المكشوفة لموالاة الكفار ومعاداة المؤمنين، وإبراز الضلالات العقدية والسلوكية حتى تغدو هي الأساس، مع السعي الرسمي الواضح لنقض الدين وأركانه وعُرَاه عروة عروة في التعليم والإعلام وعامة الأنظمة والشؤون.

ويسوقهم إلى هذا المسلك ضجرُهم من بقاء الدين في النفوس، وزيادة أعداد المسلمين، ووفرة خيراتهم، والخوف من يقظتهم المرتقبة، والمبادرة اللاهثة إلى استثمار أحوال الذهول والغفلة والشرود عن الأَولى، مع الانكفاء على الذات والانغماس في خاصة الشأن اليومي المعيشي. وإن هذا الأمر ليدل دلالة أكيدة على مستوى الرسوخ والثبات السابق، ولربما يكون سبباً في بعث عودة رشيدة، واستيقاظٍ من رقدة طويلة، ووخز عملاق يغفو لعله أن يهبَّ هبَّة واحدة؛ فمن يدري ما في القدر واللوح المحفوظ؛ بَيْد أننا نثق بمولانا الذي قال وصدق وهو أحكم القائلين:

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

 

 

أعلى