• - الموافق2024/05/07م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
باكستان.. مُسبِّبات الصراع ومخاطرة اللعب مع الكبار

لذلك فحضور عمران خان بخطابه الشعبوي أصبح مصدر إزعاج، ليس لنزاهة الرجل أو إنجازاته التي قدَّمها خلال فترة حكمه، بل لكونه تبنَّى خطابًا شعبويًّا يقوده إلى الانقلاب على الجيش، ويُشكِّل ظاهرةً فريدةً في السياسة الباكستانية


نجح رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، في تأجيج الخطاب الشعبوي داخل طبقات المجتمع الباكستاني بطريقة كانت صادمةً للجيش الذي يُحْكِم سيطرته على البلاد لأكثر من 75 عامًا، ويُعدّ هو صاحب السلطة النافذة في هندسة وصناعة القرار في مسائل الأمن والدفاع والسياسة الخارجية.

مع تولّي خان لرئاسة الوزراء، بدأت العلاقة تتوتر مع قائد الجيش الجنرال قمر جاويد باجوا، وبالتوازي مع ظهور الكثير من السيناريوهات حول أسباب الإطاحة بخان مِن قِبَل الجيش من خلال سَحْب الثقة من حكومته؛ إلا أن شرارة الغضب التي تفجَّرت في وجه خان كانت عقب رَفْضه التوقيع على أمرٍ بإعفاء رئيس الاستخبارات الباكستانية؛ اللواء فايز حميد، الذي كان يُنْظَر إليه على أنه خليفة مُرتَقب للجنرال باجوا، إلا أن خان استجاب لضغوط قائد الجيش، وصادق على تعيين الجنرال نديم أنجوم، لكنَّ هذه الأزمة كانت بداية لحراك من الجيش للتخلُّص من الرجل.

بالتزامن مع تلك الأزمة، أرسلت المؤسسة العسكرية الباكستانية إشارات إلى نواز شريف -الذي هرب إلى منفاه في لندن- تُفيد بأن المتغيرات القادمة ستكون في صالح عائلته، عقب فضيحة وثائق «بنما»، وصدور حكم بسجنه لمدة 10 سنوات في يوليو 2018م، بينما صدرت أحكام على ابنته مريم نواز وزوجها بالسجن سبع سنوات بتُهَم فساد وسرقات للمال العام؛ إلا أن نواز شريف خرج بكفالة عام 2019م لأسباب «إنسانية تتعلق بحاجته للعلاج في لندن»، فوفقًا لوثائق «بنما» تمتلك عائلة شريف عقارات بمئات الملايين من الدولارات في الخليج والمملكة المتحدة، لذلك يمكن تبرير العلاقة بين المؤسسة العسكرية وعائلة شريف في سياق تحالف سياسي واقتصادي يُدير باكستان وَفْق منظومة مصالحة مشتركة بين الطرفين. فشهباز شريف الذي يتولى رئاسة وزراء باكستان حاليًا، اعتُقِلَ في سبتمبر 2020م في قضية غسيل أموال بقيمة 25 مليار روبية، لكنَّه خرج من السجن بكفالة في أبريل 2021م، رغم رَفْض وكالة التحقيقات الفيدرالية الباكستانية طلب الإفراج عنه.

ليس سرًّا أن تكون عائلة شريف إحدى أهم العائلات التجارية التي تُدير اقتصاد البلاد بالشراكة مع المؤسسة العسكرية التي تُدير أكثر من 50 كيانًا تجاريًّا قيمتها تزيد عن 20 مليار دولار، وَفْق بياناتٍ كشفها في يوليو 2016م مجلس الشيوخ الباكستاني، ولا تقتصر فقط على محطات البنزين والبنوك والمصانع والمخابز والجامعات والمجمعات السكنية، وحتى مزارع الخيول ومصانع الألبان والجوارب؛ بل إن شركات الجيش وحدها هي التي تقوم ببناء الشقق السكنية وتوزيعها على العسكريين بأسعار مدعومة من الدولة. وأنشأ الجيش الباكستاني كذلك مؤسسات ظاهرها مساعدة المتقاعدين، لكنها تغلغلت في جميع القطاعات الاقتصادية في الدولة.. إن تفاصيل عسكرة اقتصاد الدولة في باكستان فسَّرته عالمة الاجتماع الدكتورة عائشة صديقة في كتاب «الشركة العسكرية»، وأشارت بوضوح إلى تأثير «رأس المال» العسكري الذي يتم استخدامه لتشكيل مجتمع عسكري يتمتع بالنفوذ والامتيازات على حساب ميزانية وزارة الدفاع.

لذلك فحضور عمران خان بخطابه الشعبوي أصبح مصدر إزعاج، ليس لنزاهة الرجل أو إنجازاته التي قدَّمها خلال فترة حكمه، بل لكونه تبنَّى خطابًا شعبويًّا يقوده إلى الانقلاب على الجيش، ويُشكِّل ظاهرةً فريدةً في السياسة الباكستانية؛ لذلك تمارس الحكومة الحالية والمؤسسة العسكرية ضغوطًا مختلفة بكلّ قوتها لحرمان «خان» من الحصول على فرصة للوصول إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات المبكرة المقبلة. فقد أظهر حزبه في الأشهر القليلة الماضية قدرةً هائلةً على حَشْد الجماهير في المظاهرات، وقد حقق نتائج مذهلة في انتخابات المقاطعات. لقد كان يُنْظَر لخان على أنه الفتى الذهبي للجيش الباكستاني، معتبرين إيَّاه بديلًا «نظيفًا» عن سلالة بوتو وشريف السياسية «الفاسدة»، لكنْ في تجمعات جماهيرية حاشدة وصف خان الجيش بعد الإطاحة به، بأنه «عصابة محتالين»، تبع ذلك اتهامات قضائية لخان بـــ«التحريض على الإرهاب والإساءة للمؤسسة العسكرية».

وفي إطار الخلافات والضغوط التي تُمارَس مِن قِبَل الطرفين؛ صرح رئيس حركة «تحريك إنصاف» بأن الحكومة الحالية التي يقودها شهباز شريف هي المسؤولة عن تصاعد «حوادث الإرهاب في وادي سوات»، وقال مخاطبًا مؤتمر العمال في شرسادا: «إن الإرهاب بدأ في التصاعد منذ وصول الحكومة الحالية إلى السلطة». واتهم أعضاء من حركة إنصاف الحكومة بتهديد نشطائها وقمع وسائل الإعلام التي تتعامل معها. وقال نائب رئيس الحركة، فؤاد شودري، في تصريحات من أمام المحكمة العليا في إسلام أباد عقب صدور حكم ببراءة مريم نواز شريف وزوجها في قضية وثائق بنما: «من المستحيل معاقبة المافيا الفاسدة في باكستان»، وأضاف: «إن النظام القضائي في البلاد انهار بعد تغيير الحكومة»

تقول وسائل الإعلام الباكستانية: إن خطاب خان يشبه خطاب رئيس الوزراء الراحل ذو الفقار علي بوتو الذي قاد الحكومة في السبعينيات خلال فترة حكم الجنرال أيوب خان، ثم رئيسًا للحكومة، لينتهي به المطاف محكومًا بالإعدام في عهد الجنرال محمد ضياء الحق عام 1979م.

قبل أسابيع قام أحد جنرالات الجيش الباكستاني بنشر مقطع فيديو لبوتو ينفي فيه كونه معاديًا لأمريكا، وسعيه لصُنْع علاقات جيّدة مع جميع القوى العظمى؛ في إشارةٍ فُسِّرَت على أن باكستان تكافح من أجل تحقيق توازن في علاقتها مع الصين والولايات المتحدة.

بالتزامن مع الإطاحة به في البرلمان؛ كان خان قد صرَّح بأن هناك مؤامرة أجنبية خلف ما يَجْري له، وخرجت إشارات منه تؤكد تورُّط واشنطن في هذا الأمر.. لقد نجح في الترويج بصورة شعبوية لهذا الأمر، وكان تبرير حدوث مؤامرة أمريكية على خان تتعلق بموقفه من روسيا والصين وتبنّيه سياسات خارجية أكثر قربًا من الكتلة الشرقية التي تحاول تفتيت سيطرة الهيمنة الأمريكية على القرار العالمي.

إن واشنطن تحافظ على سرية تامة في طبيعة علاقتها العسكرية مع باكستان؛ إلا أن عملية اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري بطائرة بدون طيار، أثارت الكثير من التساؤلات بشأن دور الجيش الباكستاني في هذا الأمر، فقد أكدت مجلة الفورين بوليسي أن واشنطن لن تستطيع تنفيذ مثل هذه العملية بدون الحصول على موافقة الجيش الباكستاني للتحليق في الأجواء الباكستانية.

تضيف المجلة أن واشنطن متورّطة بصورة كبيرة في الصراع على السلطة داخل باكستان، فقد ضغطت على البلاد التي تعاني من معدلات تضخم مرتفعة لكي لا تستورد الطاقة من روسيا، بينما غضَّت الطرف عن الهند التي لا تزال أحد أهم حلفاء روسيا، وزادت وارداتها النفطية من موسكو. لقد عبَّر الصينيون عن انزعاجهم من سماح باكستان لطائرة أمريكية بدون طيار بالتحليق في مجالها الجوي، لكن فُسِّرت هذه الخطوة على أنها قُربان يقدّمه الجنرال باجوا ورئيس الحكومة شهباز شريف لواشنطن من أجل دعم إسلام آباد للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، وإشارة إلى حدوث تغيير حقيقي في البلاد. فقد اتصل قائد الجيش الباكستاني بنائبة وزيرة الخارجية الأمريكية ويندي شيرمان، وطالبها بإقناع صندوق النقد الدولي بإنقاذ الاقتصاد الباكستاني.

ولم تقف قرابين الحكومة الباكستانية عند هذا الحد في محاولة تبرئة موقفها من الجنوح إلى الكتلة الشرقية، بل أيضًا قامت بدعم أوكرانيا سياسيًّا وعسكريًّا في وجه الهجوم الروسي؛ فقد رُصِدَت طائرات شحن تنقل معدات من مطار روالبندي إلى رومانيا إحدى بلدان حلف الناتو، وهي على خط المواجهة بين روسيا وأوكرانيا.

إن باكستان دولة إسلامية ذات كثافة سكانية عالية، وقوة نووية لا يُستهَان بها، لذلك تحاول الحصول على دور متميز على الساحة الدولية، دون التطرف في خصومتها مع الولايات المتحدة؛ فالمؤسسة العسكرية الباكستانية تسعى لكي يكون لها دور فاعل في تسهيل التقارب بين الولايات المتحدة والصين، وهي تجربة قامت بها باكستان في عهد نيكسون، لكن يُصادم طموحات المؤسسة العسكرية الباكستانية في هذا الملف عدم رغبة واشنطن في منح باكستان دور لاعب إقليميّ يمكن أن يؤثر على صدامها مع الصين وروسيا، ويلغي دور الحليف الاستراتيجي للغرب وهي الهند.

 لذلك كان عمران خان يعارض الجيش في طريقة تطبيع العلاقات مع واشنطن، مكتفيًا بمحاولة إيجاد بيئة سياسية خارجية تمنح باكستان أرضًا صلبة لإصلاح دورها واقتصادها عبر جلب الاستثمارات الصينية، وتعزيز علاقاتها ببلدان العالم الإسلامي.

إن التنافس بين الصين والولايات المتحدة يفرض الكثير من التعقيدات على الداخل الباكستاني، لا سيما أن الولايات المتحدة -التي يحاول الجيش الباكستاني عدم خسارة التحالف معها- تُعزّز علاقتها بالهند في منطقة المحيطين الهندي والهادي؛ للحد من النفوذ الصيني، بينما تلتقي الصين وباكستان في صدام مع الهند بسبب النزاعات الحدودية. فقد أعلنت واشنطن في فبراير 2020م أنها بصدد مشاركة الاستخبارات الجغرافية وتكنولوجيا الصواريخ مع الهند، وهو أمرٌ أثار بصورة كبيرة حفيظة باكستان. لذلك تسعى باكستان إلى إيجاد بيئة منافسة للهند في أفغانستان، وحوّلت المعطيات السياسية هناك من خلال دعم طالبان إلى نقطة توافق مع الصين؛ من خلال تعزيز منطق المصالح المشتركة بين الجانبين وضخّ استثمارات في أفغانستان تُحقّق المزيد من الاستقرار في البلاد. 

في الواقع؛ إن الأزمة السياسية في باكستان لا تتعلق بالصراع بين أقطاب العمل السياسي التقليديين في البلاد، بل إنها انعكاس للصراعات الإقليمية والدولية المحيطة بالبلاد، وقدرة هذه الصراعات على سلب السيادة الوطنية لباكستان، فقد كان انقلاب باجو على عمران خان مرتبطًا إلى حد كبير بمحاولة الجيش إحياء العلاقة مع الولايات المتحدة، وإعادة تنظيم السياسة الخارجية لباكستان، بعيدًا عن الاصطفاف مع الصين. لكنَّ هذا لا ينفي وجود عوامل شخصية انعكست على تحرُّكات باجو الذي تم تكريمه في بريطانيا، وحرص على زيارة الولايات المتحدة، وتنشيط علاقاته مع الكتلة الغربية قبيل تقاعده المقرر في نوفمبر المقبل، وربما يُفسَّر ذلك على أنه محاولة للحصول على تمديد لفترة ثانية في رئاسة الجيش. فقد فسَّر البعض اجتماعاته المتكررة مع الأمريكيين على أنها تأييد واضح لنهج غير ديمقراطي؛ بهدف إبعاد خان عن العملية السياسية وقمع الحراك الشعبوي الذي تشهده البلاد.

إن الاستنتاج لما يجري يؤكد أن باكستان لن تجد قدرةً أو تأثيرًا على تحقيق توازن في علاقتها مع الصين والولايات المتحدة؛ فهي بحاجة لاستثمارات بقيمة 62 مليار دولار ضخَّتها الصين في مشاريع البنية التحتية الباكستانية، بينما لا يزال الجيش الباكستاني يعتمد بصورة كبيرة على المعدات العسكرية الأمريكية، لذلك ستُجْبَر إسلام آباد -إن لم تتَّبِع النهج التركي في الحفاظ على سيادتها الوطنية وصناعة القرار السياسي المحلي- على الانصياع للواقع الجيوسياسي الذي يَفرضه الكبار.

 


أعلى