وجاء رمضان

قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: «السعيد مَن اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات؛ فعسى أن تُصيبه نفحة من تلك النفحات».


للعبادة في الإسلام أغراض منها:

الأول: تقوية ضمير المسلم عن طريق اتّصاله بربّه وقيامه بحقه .

والثاني: إيجاد مجتمع فاضل يتواصل أبناؤه ويتحابون، ويتراحمون فيما بينهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهو ما نجده واضحًا وجليًّا في شعيرة الصيام؛ حيث ترى الضمير الإنساني في أعلى كمالاته وأرقى درجاته من التواصل والتباذل والتعاون، حتى إذا انتهت دورة الزمان، وبلغ الكتاب أجله، وانتهت مرحلة الحياة التي نحياها إلى مرحلة جديدة من الدار الآخرة؛ وجد المؤمنون في الصحائف ما يُسْعِد النفس، ويَجبر الخاطر، ويبعث الأمل في موعود الله تعالى؛ كما قال الشاعر:

إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى

وآتاهم موعود ما في المصاحف

وها قد جاء رمضان بعد شوقٍ ورغبةٍ، جاء وقد ثقل البدن وجفَّت الروح، وتدابَر القوم، جاء شهر رمضان لتبدأ الفرحة من جديد تراها في عيون الصغير والكبير؛ فهو موسم وفرصة لا بد من اغتنامها، وليست الهمة التي تملأ النفس والآفاق دفئًا وسرورًا إلا أثرًا من آثاره وثمرة من ثماره؛ إنه الفيض الرباني والفتح والعطاء الإلهي.

رمضان واغتنام الفرصة

قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: «السعيد مَن اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات؛ فعسى أن تُصيبه نفحة من تلك النفحات».

ويقول: «لما كانت هذه النفحات لا تستمر طول الوقت من العام كان الحرص عليها وعدم فواتها واجبًا شرعيًّا يحرص عليه العقلاء» (لطائف المعارف: ص40).

فليس من عجب إذًا أن يدعو المؤمنون: «اللهم بَلِّغنا رمضان»؛ لعلمهم أنهم ببلوغهم إيَّاه يدركون حظّهم من الظفر والكسب ووفرة الحسنات، فضلاً عن المِنَح والهبات والأعطيات. قال معلى بن الفضل: «كانوا يدعون الله -تعالى- ستة أشهر أن يُبلِّغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سَلِّمني إلى رمضان، وسَلِّم لي رمضان وتَسلَّمه مني متقبلاً» (لطائف المعارف: ص148).

وقد يقول قائل: كم من رمضان أدركناه ولم نُدرك شيئًا مما ذكرتموه؟

والجواب: إن العيب في المريض لا في الدواء؛ فالمريض لم يستجب لتوجيهات الطبيب والحكيم، ولم يسارع لأخذ الدواء الموصوف له؛ فزادت العلة وتأخر الشفاء ...وهذا واقع حالما أدّينا العبادة شكلاً فُرِّغ عن مضمونه، وظاهرًا افتقر إلى الباطن، وعادةً في صورة عبادة؛ فترتب على ذلك أن خلت حياتنا من اللون والطعم والرائحة والمعنى والأثر... ولنعلم أن القرآن الكريم ما نزل ليُشقينا أو يهلكنا بتكاليفه وأوامره {طه 1 مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: ١، ٢]، بل نزل رحمةً وهدايةً وتوفيقًا لنا لسلوك طريق الهداية والرشاد.

ونحن الذين أردنا السير في طريق الخذلان فخُذلنا، وتتبعنا جُحر الضب فدخلناه، وسبرنا سبل الغواية فغوينا، وقد سألت زينت بنت جحش -رضي الله عنها- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  فقالت: أنَهْلِكُ وفينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ: «نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ» (صحيح البخاري: 3346).

  إن القيام بالشعائر الدينية، بغاياتها الموضوعة من أجلها؛ يصوغ الشخصية المسلمة صياغة جيدة فيتحقق على يديها النصر والفتح. قال هرقل الروم لأبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه-: «وسَأَلْتُكَ بما يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عن عِبَادَةِ الأوْثَانِ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ والصِّدْقِ والعَفَافِ، فإنْ كانَ ما تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ» (صحيح البخاري: 7).

لقد تم في الولايات المتحدة الأمريكية مناقشة مشروع تقدَّم به بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي يطالبون فيه بتخصيص يوم للصلاة والصوم والتوبة بعد سلسلة حوادث العنف بعد الحادي عشر من سبتمبر.. فما بالنا نحن وبين أيدينا خزائن النصر والفتح؟!

مفارقة أن تكون الطويل

وكل أياديك تشكو القِصَر!

مفارقة أنك المبتدأ

وأن جميع الرزايا خبر!

ولا يجادل أحد في أن الإنسان خُلِقَ من عنصرين أساسيين: (مادة وروح)؛ أي قبضة قبضها الله -تعالى- من طين الأرض، ثم نفخ فيها من روحه؛ فإذا غلَّب الإنسان جانب المادة على جانب الروح، وتثاقل إلى الأرض؛ بهتت معاني الفضيلة لديه، وخفَت صوت الضمير عنده، وأما إذا غلَّب جانب الروح على حياة المادة أُصيب بالرهق والتعب، فأتعب جسمه وقوَّض بنيانه؛ فما هكذا تُورد الإبل!

بيد أن التوسط والاعتدال يَضبط المسار، ويسير بالنفس سيرها الطبيعي في أحسن كمالات الفطرة الإنسانية {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

ولو تُرِكَ الإنسان وشأنه في الحياة يَعُبّ من ملذاتها وينال من أطايبها؛ لكلَّت جوارحه وتبلَّد عقله، وصار إلى الحيوان أقرب منه للإنسان، ومِن ثَم كانت التربية القرآنية للمسلم بالحرمان جزءًا من الوقت يترك فيه طعامه وشرابه وشهوته؛ استعلاءً منه على رغبة النفس وجموحها، وترفعًا عن الأهواء، وتدريبًا على قوة الإرادة، ولولا ذلك لصرعه الشيطان عند أول التقاء؛ حيث إنه لم يقدر عليه في يوم من الأيام إلا من طريقين:

الأول: شهوة بطنه وفرجه.

الثاني: شبهة تملأ عقله.

فأراحتنا الشريعة من هذا العنت بالصيام شهرًا من الزمان، يقترب فيه المسلم بجمعية قلبه إلى ربه فيحيا من جديد فتُردّ إليه عافيته.

من ثمرات الصيام

 إن من أعظم ثمرات الصيام: تحرير الإنسان من الرِّق والأَسْر؛ لأن شهوتي البطن والفرج تأسران الإنسان فيُستذَل بهما ويُهان بسببهما، يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: «إن أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن بها خرج آدم -عليه السلام- وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار، والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأمراض والآفات».

وإنها لمن حسنات الصيام أن يتخلّص المسلم من أَسْر الشهوة وذُلّ المعصية وإِلْف العادة؛ حيث إن التيار الشهواني لا يعالجه إلا التيار الروحاني سواء بسواء.

تهذيب النفس المسلمة وضبطها والوصول بها إلى مرتبة التقوى

وسر ذلك أن تناول الطعام والشراب يدفع بالحيوية في الجسد فتنشط الغرائز وتشتد؛ فيكون في المقابل أن من يمتنع عن الطعام والشراب مدة من الوقت يتولد عنه ضعف الحركة، وفتور النشاط، وهو جزء من مقصود الصوم. وقد أفرد الإمام البخاري بابًا لمن خاف عن نفسه العزوبة من الشباب؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- شبابًا لا نجد شيئًا، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الشباب! مَن استطاع منكم الباءَة فلْيتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء».

نورانية النفس وإشراقاتها

من الطبيعي جدًّا أن يكون الصائم القائم الذي حمل نفسه على طاعة الله فأحياها بالعبادة وهذَّبها بالطاعة ونوَّرها بالقرآن أن يكون في غاية القرب ينعم بلُطف الله به وتأييده له: {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]؛ يقول الكاندهلوي: «إن الانوار الصمدية متجلية أبدًا يمتنع عليها الاختفاء والاحتجاب، إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية، والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية» (حجة الله البالغة: 2/75).

ولما كان الصفاء النفسي والرُّقي الروحي من غايات الصيام النبيلة؛ كان الاعتكاف في نهاية الشوط في العشر الأواخر مؤكدًا لهذا المعنى من حضور القلب وصفائه ورقّته متبتلاً منقطعًا إلى الله، صارفًا نفسه عن كل ما يتعلق بجواذب الأرض؛ فيكون أقرب إلى الملائكية.

ولما كان شهر رمضان هو الشهر الذي نزل فيه القرآن كانت خصوصية الشهر تَستلزم النّهم في قراءة القرآن وتدبُّره، وختمه مرات ومرات، حتى قيل: إن الإمام مالك -رحمه الله- كان إذا دخل رمضان يترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويُقْبِل على تلاوة القرآن من المصحف، وكذلك كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان يُقبِل على قراءة القرآن .

ثم إن أعمار هذه الأُمة القليلة تكاد تنمو وتستطيل وتكبر فيُبَارَك فيها عن طريق ليلة واحدة يصيبها المسلم؛ وهي خير من ألف شهر، وإذا كان الرجل لينقطع إلى بعض ملوك الدنيا فترى أثر النعمة عليه، فكيف بمن ينقطع إلى الله في رمضان من صيام وقيام واعتكاف؟! نسأل الله من واسع فضله وجوده.

في النهاية إنها عزائم الرجال حين تقوى، وسواعد الجد حين تشتد، وكرائم النفوس حين تصفو؛ فتحملها على خطط المكارم وطرائق المجد ونيل المقاصد وسمو الغايات؛ فيتحقق مرادها عفوًا وصفوًا.

أعلى