الاستدلال النحوي عند أبي الأسود الدؤلي

إنّ ما وضعه أبو الأسود الدؤلي على قلّته كان قفزة كبيرة في تقعيد لغة العرب؛ لأنه حدّث عن الرفع والنصب اللذين سمّاهما الرواة فيما بعد فاعلًا ومفعولًا في وقتٍ أدرك فيه لحن العامة، وحاجتهم إلى وضع قوانين ضابطة للغتهم،


وُلِدَ أبو الأسود الدؤلي قبل الهجرة بعام، وتُوفِّي سنة 69هـ.

هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني، وهو من أعلام الفقهاء والأعيان، والأمراء، والشعراء، والفرسان، تابعيٌّ جليل، وَواضِع عِلْم النحو، رسَم له عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، شيئًا من أصول النحو، فكتب فيه، وأخذ عنه جماعة، ولي إمارة البصرة أيام عليّ -رضي الله عنه-، وشهد صفين معه[1].

اتَّسمت بدايات الوعي النحوي عند علي بن أبي طالب، وابن عباس -رضي الله عنهما- بصبغة خاصة؛ سعيًا من خلالها إلى الولوج إلى معاني القرآن الكريم وتفسيره.

كانت البداية محاولات تقويم لَحْن يظهر هنا وهناك، وعلى الرغم من أهمية هذه المرحلة التي سلّطت فيها الأضواء على الحركات الإعرابية، واتضحت أهميتها في فهم معنى الآية، وما يؤول إليه المعنى إذا سُمح بالتساهل في صحة اللغة؛ فإنها تبقى قاصرةً ضئيلةً أمام البنيان النحوي الشامخ الذي وصل إلى حدّ الكمال في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري.

ويرى كثير من العلماء، من العرب والمستشرقين، أن البداية النحوية الصحيحة بدأت عند عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117هـ)، وأنّ ما نُسِبَ إلى أبي الأسود الدؤلي لم يكن يَمُتّ إلى الواقع بشيء، وأنّه من قبيل الوهم والمبالغة[2].

وذكرت بعض الأخبار شيئًا قليلًا عن رقعة عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وصُحُف أبي الأسود الدؤلي[3]، وأظن أنّ هذه الأخبار، وإن صحّت، فإنها لا تُشكِّل ما يُضْفِي على النحو العربي بدايات علمية، وركائز منهجية تزيل الغموض الذي يلفّ بدايات النحو العربي. إضافةً إلى أنّنا لا نملك دليلًا ملموسًا يتسم بالدقة حول البدايات النحوية بمفهومها الحالي، وما ذكرناه سابقًا لا يتعدى أن يكون بدايات تكشف الحاجة إلى خلق قواعد، وإيجاد ضوابط للغة التي أكسبها الإسلام عزةً ومَنَعةً، وأعطتها الفتوحات الإسلامية حاجة أكبر لتقعيدها.

ليس المهم في بحثنا هذا أن نصل إلى واضعي علم النحو، وبُنَاة صَرْحه، فقد سبقنا إليه كثيرون، لكنَّ الذي ننشده، ونرمي إليه هو طرائق الاستدلال عند أبي الأسود، والطريقة التي بنَى عليها قواعده النحوية، ومدى تأثره بعلماء عصره من فقهاء وغيرهم.

ولعل أقدم الأخبار التي وصلتنا عن الدؤلي تلك التي تشير إلى أنّه أسَّس علم العربية، ووضع قياسها، فقد ذكر ابن سلاّم الجمحي (ت232هـ)، أنّ أبا الأسود (كان أول من أسَّس العربية، وفتح بابها، وأنهج سلبيتها، ووضع قياسها)[4]، فوضع باب الفاعل والمفعول به، والمضاف، وحروف الرفع والنصب والجرّ والجزم.

والحقيقة أنّ عمله لم يتعدّ استنباط بعض القواسم المشتركة للغة العرب، وإدراك بعض الرموز والحركات التي تُراعَى في الكلام مراعاة المتكلم في رفع كل ما يدل على مَن قام بالفعل، ونصب مَن وقع عليه فعل الفاعل، ... إلخ.

خطوة مهمة

هذا الأمر على بساطته في معاييرنا النحوية اليوم يُعدّ خطوةً مهمةً في وضع ركيزة النحو، وهو اللبنة الأولى لذلك، وعندما جاء ابن سلاّم ليُعبِّر عن هذه الظواهر عبَّر عنها بلُغَة عصره، لغة القرن الثالث الهجري بعد أن شاع كتاب سيبويه، وانتشرت مصطلحاته النحوية، وتداول الناس كتب النحاة، وحضروا مجالسهم النحوية، ومناظرتهم؛ وذلك أنه ليس معقولًا أن نأخذ كلام ابن سلاّم بشكل دقيق لنَعتبر أنّ أبا الأسود هو الذي أسَّس العربية، ووضع قياسها متجاهلين قانون الارتقاء في تطوُّر الحياة وعلومها.

ثم يذكر أبو الطيب اللغوي (351هـ) أنّ عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال لأبي الأسود: (اجعل للناس حروفًا، وأشار له إلى الرفع والنصب والجرّ)[5].

وهذا الخبر يدل على أن أبا الأسود قد وضع جُلّ اهتمامه في القواعد الإعرابية التي فرضتها أخطاء العامَّة من الناس، إضافةً إلى نَقْط المصحف الشريف، والملامح الإعرابية للكلمة، ومن غير شكّ فإن نص أبي الطيب، ونص ابن سلاّم قبله واضحَا الدلالة على الخطوات السليمة التي بدأت في ذلك العصر على يد الدؤلي.

أمّا دلالة العبارة والمصطلحات التي وردت في نصيّهما؛ فقد كانت مما شاع استعماله في القرنين الثالث والرابع الهجريين، عصر ابن سلاّم وأبي الطيب اللغوي، على الرغم من أنّ أبا الأسود فيما نظن لم يكن يَعرف مثل هذه المصطلحات ولم يستخدمها.

إنّ ما وضعه أبو الأسود الدؤلي على قلّته كان قفزة كبيرة في تقعيد لغة العرب؛ لأنه حدّث عن الرفع والنصب اللذين سمّاهما الرواة فيما بعد فاعلًا ومفعولًا في وقتٍ أدرك فيه لحن العامة، وحاجتهم إلى وضع قوانين ضابطة للغتهم، قوانين تُجنِّبهم الوقوع في الخطأ، وتُيسِّر لهم سُبل قراءة القرآن الكريم بعد تنقيطه وضبطه.

بعد ذلك تعترضنا نصوص تتحدث عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأبي الأسود، وتنقل عنهما مصطلحات، وعبارات لها مدلولات أبعد من حقيقتها، من ذلك قول علي -رضي الله عنه- لأبي الأسود: (واعلم أنّ الأشياء ثلاثة؛ ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر)؛ فقال أبو الأسود: (فجمعت أشياء وعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها، إنّ، وأنّ، وليت، ولعلّ، وكأنّ، ولم أذكر (لكنّ)، فقال لِمَ تركتها؟ فقلت: لَمْ أحسبها منها، فقال بلى، هي منها، فزِدْها عليها)[6].

ومنه أيضًا قول أبي الأسود: (دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فأخرج لي رُقعة فيها: الكلام كله اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنًى)[7]، وغير ذلك من الأخبار[8].

نرى في هذه الأخبار، وما شابهها عبارات تكشف لنا عن نُضْج نحويّ شائع، فالحديث عن المضمر والظاهر، وتقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف، ثم عبارات حُدّ بها الأسماء والأفعال، إضافةً إلى حديثه عن بِنْيَة الكلمة، وهي تقسيمات مُهمّة تدل على وعي بلغة العرب صادرة عمّن أفاد من علماء سبقوه إلى ذلك، ومهَّدوا له السبيل، وهذا ما أثبتنا أنه لم يحصل لأبي الأسود.

لذا فإننا نضع تلك الأخبار في دائرة الشك، ونظن أنّ أناسًا عاشوا في أيام سيبويه، أو بعد ذلك قد وضعوها؛ لأن أسلوب الأخبار المشار إليها لم يذكره أحد من قبل سيبويه، فكيف يتأتَّى لنا أن نُقِرّ بصحتها ونحن في بدايات الوعي اللغوي الذي اقتصر على الاستقراء والمقارنة، والاستنباط، وإيجاد بعض القواسم المشتركة بين التراكيب العربية، مع مراعاة النطق، وحركة الفم، والحركات الإعرابية.

وهذا ما يجعلنا نميل إلى القول: إنَّ أبا الأسود يعود إليه الفضل في رسم بدايات تقعيد اللغة العربية، هذه البدايات التي انعدم فيها التنظيم والتبويب، لكنها كانت تصف الحالة، وتُسجِّل الملاحظات حولها بدافع الحرص والغيرة على لُغَة هذه الأمَّة، وحرص أبي الأسود جعله يُعنَى بقراءة القرآن الكريم، ورَصْد لَحْن الناس فيها، ودَفْعه عنها، ناهيك عن استنباطه للضوابط الإعرابية التي تُحدِّد الرفع والنصب والجرّ كدليل للسَّير عليه.

أمّا الاستدلال عند أبي الأسود فلم يكن ظاهرًا بشكل جليّ، كما هو الحال عند مَن سبقه، لكنه ما من شكّ -وإن عدمنا النصوص- أنه استدلّ بالقرآن عندما اهتدى إلى القواعد البسيطة التي أبرز فيها الرفع والنصب، وغير ذلك، وأنه حين يشير إلى ضابط مِن ضوابطه يستدل بآيات القرآن الكريم، أو بشِعْر عربيّ نقله عن الرواة من المحيط الفصيح الذي عاش فيه في الجزيرة العربية، أو البصرة التي مات فيها بالطاعون سنة (69هـ)، بعد أن أصيب بالشلل.

وما العلم الذي حمله أبو الأسود إلَّا جزء من علوم متعددة على غرار علماء عصره من دون تنظيم ولا تبويب، بل ملاحظات قِيلَت في مجالس العلم هنا وهناك، ودارت حوله لغة العرب ولهجاتهم من دون تأثر ظاهر بالفقه، وأصول الدين، وعلم الكلام؛ إنما الهدف منها قراءة القرآن الكريم، وضَبْط آياته، وإحاطته بعناية لغوية خاصَّة حبًّا له وخوفًا عليه.


 


[1] انظر وفيات الأعيان: لابن خلكان، 1/240، وانظر الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني، ت4322، وانظر خزانة الأدب للبغدادي 1/136.

[2] انظر تاريخ الأدب العربي، لكارل بروكلمان 2/123- 124، ترجمة عبدالحليم النجار، دار المعارف بمصر، وانظر تاريخ آداب العرب: لمصطفى صادق الرافعي، حاشية 1/336، وانظر ضحى الإسلام: لأحمد أمين، 2/285 ط3، وانظر المفصل للحلواني 93.

[3] انظر إنباه الرواة 1/4، وانظر نزهة الألباء (أبو الفضل)، ص5.

[4] طبقات فحول الشعراء لابن سلاّم الجمحي، 1/12، القاهرة، 1974م.

[5] مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي، ص6، القاهرة، 1955م.

[6] إنباه الرواة على أنباء النحاة للقفطي 1/4، وانظر: نزهة الألباء لابن الأنباري، ص5.

[7] إنباه الرواة على أنباء النحاة للقفطي 1/5.

[8] إنباه الرواة على أنباء النحاة للقفطي 1/6 – 9 -17.

 

أعلى