أوقاف السلطان الأشرف شعبان على الحرمين

أوقاف السلطان الأشرف شعبان على الحرمين


انفردت الحضارة الإسلامية بمزايا عن الحضارات الأخرى، ومنها نظام الوقف، الذي يظل بغاياته وأهدافه أنموذجاً فريداً وأسلوباً إنسانياً رائعاً.

وما المقال الذي بين أيدينا الذي يعرض وثيقة تاريخية، إلا نموذجاً حياً من النماذج التي يفخر بها تاريخنا الإسلامي بحضارته الإنسانية والخيرية.

وهذا ما لاحظناه في عصر سلاطين المماليك؛ إذ بلغ نظام الأوقاف درجة الاكتمال والنضج؛ ذلك أن هذا العصر بالذات يمثل دور القوة والثراء والازدهار الحضاري في تاريخ العصور الوسطى. واختار كثير من السلاطين والأمراء والتجار وغيرهم أن يشاركوا بجزء من ثرواتهم في النهوض بالمجتمعات، فأقاموا المؤسسات الخيرية المتنوعة، وحبسوا عليها الأوقاف، ووضعوا الشروط العديدة لضمان حُسن التصرف في ريع تلك الأوقاف، بما يضمن استمرار تلك المؤسسات في تحقيق رسالتها. والعمل الخيري في الإسلام ليس فقط تعبيراً فردياً، بل هو لبنة من لبنات البناء الاجتماعي التي أُسس من خلالها العمل الخيري إلى وقتنا الحاضر.

كما أن الوقف في الإسلام لم يفرّق بين مسلم وكافر، ويبقى بمواصفاته وخصائصه أنموذجاً للتكافل الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية كافة.

وارتبط كل وقف من هذه الأوقاف بوثيقة وحُجة شرعية توضّح أركان ذلك الوقف والغرض منه وحجمه، وكيفية الاستفادة من ريعه. ومن هذه الوثائق وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية بالقلعة في القاهرة بمصر، وهي حُجة وقفية مؤرخة في الثالث من جمادى الآخرة سنة 777 باسم السلطان الأشرف شعبان بن حسين، وفيها أسماء عدة قرى موقوفة يُصرف من ريعها على الحرمين الشريفين، وقد بلغ طولها نحو 41 متراً وعرضها نحو 30 سنتيمتراً.

ولا شك في أن دراسة هذه الوثائق والحجج تلقي الضوء على طبيعة المجتمعات الإسلامية في تلك العصور، ومدى تغلغل الجانب الديني في قلوبهم. ويعدّ عصر المماليك العصر الذهبي في تاريخ العمارة الإسلامية؛ إذ الإقبال على تشييد المساجد والمدارس وغيرها، والتنوع والإتقان في شتى العناصر المعمارية من منارات وقباب وزخارف، كما روعي في بناء المساجد بناء المدارس إلى جانبها ذات الإيوانات والأعمدة والأكتاف، وفي داخل تلك المدارس تأسيس المكتبات.. ومن السلاطين الذين كان لهم دور كبير في الأوقاف، بحسب الحُجة التي ذكرناها سابقاً، هو السلطان الأشرف شعبان بن حسين (754-778هـ) الذي تولى الحكم في مصر وله من العمر عشر سنوات، وقتل وهو في 24 من العمر.. اهتم بعمارة الحرم بصفة عامة. وقد أجمل الفاسي في العقد الثمين أعماله بقوله: «فَعَلَ الأشرف بالحرمين مآثر حسنة، وهو أنه قرر دروساً للأيتام في المذاهب الأربعة، ودرساً في الحديث والتفاسير، وقراء، ومؤذنين... وغيرهم، ومكتباً للأيتام، وأقام البيمارستان المستنصري في مكة. وقف على ذلك وقفاً كافياً، وبعث ابن كلبك لعمارة مئذنة باب الحزوة، وكانت قد سقطت سنة 771 وفرغ من عمارتها سنة 72، وحلى باب الكعبة، والميزاب، وعمل ميضأة باب علي في سنة 776، وعُمّرت في مبدأ دولته أماكن بالمسجد الحرام، وأكمل المطاف بالحجارة المنحوتة، وجدد المقامات الأربعة، وعمل درجة للكعبة كانت الكعبة تفتح عليها إلى موسم سنة 818، وعمل منبراً، وعوض صاحب مكة عن المكس الذي كان يؤخذ على الحجاج».

وبناءً على الأهمية البالغة للوقف في الحضارة الإسلامية، والدور المتميز الذي قام به، والنظام الدقيق الذي اتبعه، والتأثير الإيجابي الذي أدت إليه؛ فلا بد من التعريف به، والإشارة إلى نماذج من أوقاف السلطان شعبان من خلال حجته التي ذكرناها قبل قليل، مع إبراز الاهتمام الذي أولاه سلاطين المماليك بالحرمين الشريفين.

أعمال سلاطين المماليك على الحرمين:

اهتم سلاطين المماليك البحرية بالحرمين اهتماماً كبيراً يدلّ عليه ما أنفقوه وأوقفوه على هذه البقاع المقدسة، وما يتصل بها من خدمات، وما احتاجت إليه من خدمات.

فقد شرع سلاطين الممالك في القيام بالإصلاحات والترميمات في الحرمين منذ بداية عهدهم، ومن هؤلاء: الملك المنصور نور الدين علي ابن الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، والظاهر بيبرس البندقداري، والملك المنصور قلاوون. ومن السلاطين المبرزين في التاريخ المملوكي السلطان الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون.

وموضوعنا الأساس هو السلطان الأشرف شعبان بن حسين، وهو الوحيد من بين أسرة قلاوون الذي اعتلى العرش وأبوه لم يكن من قبل سلطاناً.

وقد اهتم السلطان الأشرف شعبان بعمارة الحرم بصفة عامة، ففي سنة 766هـ أكمل المطاف بالحجارة المنحوتة، وجدد المقامات الأربعة، كما جدد بياض المسجد وبياض شرفاته ومنائره وسطحه، وكان كل هذا بإشارة مدبر دولته يلبغا الخاصكي.

كما اهتم بالحرمين أكثر ممن سبقه من السلاطين، فأوقف عدة قرى في بلاد الشام وفلسطين للصرف من ريعها على الحرمين الشريفين، وكان الهدف من هذا ألا ينقطع الصرف عليهما بوفاته.. كما أنه حاول أن يخفف العبء عن كاهل الفقراء والحجاج، وذلك بإلغاء المكوس التي كان يفرضها أميرا مكة المكرمة والمدينة المنورة على المأكولات والملبوسات، وما يحصل من العشور على النخيل والمزروعات، وفي مقابل هذا قرر مبلغ 160 ألف درهم لأمير مكة، و100 ألف لأمير المدينة. كما أنشأ مارستاناً جديداً في مكة المكرمة وقرر له كل ما يحتاج إليه من حكيم وممرضين وممرضات وأدوية وأشربة ونفقات جارية أخرى. كما اهتم بعلوم الحديث والتدريس في الحرم المكي والمدني، فساعد العلماء والمحدثين على إلقاء الدروس، وعيَّن مؤدباً لتعليم عشرة من الأيتام حتى لا ينقطع العلم.

كما كشف الجانب الأهلي من الوقف؛ إذ إن السلطان خصص الفائض من ريع الوقف ليكون له في حياته ثم لذريته، وإذا انقطع الورثة تحوّل هذا الجزء إلى وجوه الخير والبر والقربات.

وقد تم بذل جهد كبير للاستدلال على القرى التي تم وقفها، فقد تمت إزالة بعضها، وتحول بعضها إلى خراب، وتغيّرت أسماء بعضها الآخر أو حرفت عما كانت عليه، وظل القليل منها محتفظاً باسمه القديم، وقد تمت الاستعانة بالخرائط الحديثة وكتب الجغرافيا القديمة والحديثة حتى تم الاهتداء إلى أغلب الأماكن.

أوجه الصرف من ريع الوقف:

بدأت وثيقة وقف السلطان الأشرف شعبان بن حسين من السطر 845 بتحديد أوجه صرف ريع هذا الوقف، الذي قدر بمبلغ 215 ألف درهم تضاف إلى ريع ما وقفه في غير هذه الوثيقة، وهو ناحية اللجينة وثلثا درايح، على أن يستغل ريعهما ويصرف لأمير مكة وأمير المدينة بحيث يصير مالاً واحداً، وقد ابتدأ بتحديد أوجه الصرف في مكة المكرمة على أميرها ثم عيَّن الرواتب التي تدفع للعاملين بالحرم المكي الشريف.

ولما كانت هذه البلاد قد دخلت في حوزة الدولة المملوكية، لهذا قدم سلاطين المماليك لأهلها كل رعاية وعناية، خاصة أن الكعبة الشريفة كانت أمانة بين أيديهم وحرص السلاطين على أن تكون السيادة لهؤلاء الأمراء المحليين حتى يضمنوا سلامة الحجيج وعدم الاعتداء عليهم أو مضايقتهم من ناحية، ثم استمرار نفوذهم واستمالة أهل البلاد إلى جانبهم من ناحية أخرى؛ ولهذا قرروا لهم الأموال والمؤن التي كانت تدفع سنوياً لهذا الغرض حتى لا يطالبوا الحجيج بما لا يطيقون، بل لم يدخروا وسعاً في تخفيف تكاليف المعيشة على أهالي المدينتين المقدستين وعلى زوارهما وعلى مساعدة الحجاج وتوفير وسائل الراحة والأمان لهم ومساعدة المنقطعين منهم في العودة إلى أوطانهم.

ولم يفت السلطان شعبان أن يخصص جزءاً من ريع أوقافه للصرف مباشرة على الفقراء والمساكين، بل حتى الموتى الذين لا يجدون الكفن أو أجر من يتولى دفنهم بعد وفاتهم؛ ولهذا خصص مبالغ مختلفة لهذه الأعمال الخيرية حددتها الوثيقة كما يلي:

1 - كسوة الفقراء:

خصصت الوثيقة ألف درهم لشراء قمصان من الكتان والقطن ترسل كل سنة من مصر مع من يوثق به بصحبة الركب السلطاني إلى مكة؛ لكي توزع على الفقراء والمساكين والأرامل المنقطعين، وجعل الأفضلية لأصحاب الأخصاص.

2 – الأكفان ودفن الموتى:

قرر السلطان شعبان تخصيص ثلاثة آلاف درهم يتولى الناظر على الوقف شراء أكفان بمبلغ 1500 درهم يرسلها مع بقية المبلغ وهو 1500 درهم نقداً، بصحبة الركب السلطاني إلى الناظر على الحرم المكي؛ ليصرف الأكفان للأموات بالحرم الشريف ويدفع أجرة من يتولى غسلهم وتكفينهم ومواراتهم في لحدهم على الوجه الشرعي أسوة بأمثالهم.

3 – صدقة الفقراء:

لم يكتفِ السلطان شعبان بتخصيص مبالغ من ريع أوقافه لكسوة فقراء المسلمين في الحرم الشريف، أو تكفين موتاهم ودفنهم، والعمل على خفض نفقات الحياة لهم عن طريق إلغاء المكوس والعشور وغيرها على المأكولات والفاكهة والخضراوات والمزروعات؛ بل مدَّ لهم يد العون مباشرة، فقرر صرف مبلغ خمسة آلاف درهم سنوياً يرسلها الناظر على الوقف بصحبة الركب السلطاني؛ ليتولى الناظر على الحرم تفريقها على من يراه من الفقراء والمساكين والأرامل والمنقطعين، الذين تقطعت وسائل عودتهم إلى أوطانهم. ولكي يطبق أصول صحة الوقف في ضرورة صرف الريع على الوجه الشرعي، فقد استثنى الزيدية والروافض. كما قدم أصحاب الأخصاص الذين كانوا بظاهر مكة في الاستفادة من هذه المساعدة المالية، ويبدو أنهم كانوا أفقر الطبقات في مكة المكرمة آنذاك؛ لأنه قدمهم على غيرهم في توزيع الكساء أيضاً كما سبق.

4 – الإبر والخيوط:

من الأشياء التي تسترعي الانتباه تخصيص مبلغ 150 درهماً يشتري بها الناظر إبراً وخيوطاً من الكتان والقطن ويرسل ذلك إلى الحرم؛ ليفرق على من يراه من الفقراء والمساكين. ولا شك أن ذلك إحساس من الواقف بما يعانيه الفقراء من جهة، واكتمال كل الجوانب التي يمكن أن يحتاج إليها الفقراء من جهة أخرى؛ إذ لم يبقِ الواقف جانباً من جوانب الحياة المعيشية إلا وأوقف فيه، حتى افترض وجود فقراء لم يكن باستطاعتهم شراء هذه الأشياء البسيطة؛ لإصلاح ملابسهم التي تتمزق، أو لخياطة ما كان يوزع عليهم من الأقمشة من ريع الوقف أيضاً.

5 – رباط السدرة:

كانت الأربطة تؤدي دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية في العصور الإسلامية؛ ولهذا خصص السلطان الأشرف شعبان مبلغ ألف درهم لمصالح رباط السدرة في مكة المكرمة.

النفقات الخيرية في المدينة المنورة:

إلى جانب النفقات الكبيرة التي خصصها السلطان شعبان لأمير المدينة ورجالها والمدرسين والمؤذنين في المسجد النبوي الشريف وطلاب العلم وغيرهم فيها؛ فقد خصص مبالغ كبيرة لإنفاقها في وجوه البر والصدقات على الفقراء والمساكين والمنقطعين، وعلى تكفين الموتى من الفقراء والمساكين ودفنهم، وقد فصّلت الوثيقة هذه الصدقات على النحو التالي:

قمصان الفقراء:

خصصت الوثيقة مبلغ ألف درهم يشتري بها الناظر أو من يراه قمصاناً من الكتان والقطن ويحملها صحبة الركب السلطاني في كل سنة لتفريقها على الفقراء والمساكين والأرامل والمنقطعين، وهو المبلغ المخصص نفسه لفقراء مكة المكرمة، وإن كان قد قدم أصحاب الأخصاص في مكة عند توزيع القمصان ولم يقدم أحداً في المدينة.

أكفان الموتى:

قررت الوثيقة مبلغ ألفي درهم يشتري الناظر بألف درهم منها أكفاناً ومعها الألف الأخرى لتكفين من يحتاج من موتى المسلمين، ودفع كلفة غسلهم ودفنهم ومواراتهم في لحدهم أسوة بأمثالهم على الوجه الشرعي.

الإبر والخيوط:

وكما قرر الواقف السلطان شعبان مبلغ 150 درهماً لشراء إبر وخيوط في مكة، كذلك خصص المبلغ نفسه للمدينة المنورة يشتري به الناظر إبراً وخيوطاً، ويرسل بها إلى الحرم النبوي، ويفرقها على المحتاجين إليها.

الصدقات:

خصص السلطان الأشرف شعبان خمسة آلاف درهم سنوياً من ريع أوقافه على الحرمين تُحمل إلى المدينة الشريفة؛ ليفرقها الناظر على الفقراء والمساكين والأرامل والمنقطعين، وقد استثنى الزيدية والروافض، وقدم في الصرف أصحاب الربط على من يراه ويؤدي إليه اجتهاده.

صدقة الضيافة والسفر:

خصص السلطان الأشرف شعبان مبلغ ألفي درهم يصرفها الناظر لمن يرد إلى الحرم النبوي من المشاة، لكل منهم خمسة دراهم؛ ضيافة لهم حين حضورهم، ولم يخصص مثل هذا المبلغ للضيافة في مكة المكرمة.

الخاتمة:

نلاحظ بصورة عامة أن سلاطين المماليك البحرية قاموا بأعمال خيرية واهتمام خاص بالحرمين الشريفين، وقد خصّصنا الحديث فقط عن السلطان الأشرف شعبان بن حسين، على الرغم من أن هؤلاء المماليك كانوا حديثي الإسلام نسبياً، إلا أنهم خدموا الإسلام والمسلمين أكثر مما كان يُتوقع أو يُنتظر منهم؛ فقد دخل الإسلام إلى قلوبهم وسيطر على أفئدتهم، فبذلوا الغالي والرخيص في سبيل الدفاع عنه، وتصدوا لحملات الصليبيين، والذود عن الإسلام، وبذلوا جهوداً خاصة في رعاية الحرمين وتعميرهما وتجديدهما، واعتنوا بنظافتهما والحفاظ على مظهرهما في نظر المسلمين.

كما يكشف البحث وجود عدة أوقاف على الحرمين متفرقة في العالم الإسلامي؛ إدراكاً من السلطان الأشرف لأهمية الإنفاق عليهما وسد حاجتهما دون تقتير أو شح؛ حتى يؤدي المسلمين شعائرهم فيهما على أكمل وجه. ويتطلب ذلك حصر تلك الأوقاف وإعادتها إلى الهدف الذي أوقفت من أجله في خدمة الحرمين الشريفين، واستمرار أجر أصحابها وعدم انقطاعه إلى ما شاء الله.

** ملف خاص (الوقف.. بوابة العطاء)

:: مجلة البيان العدد 312 شعبان 1434هـ، يونيو - يوليو 2013م.

أعلى