البحر الأحمر  وصراع النفوذ

غير أن للصراع جوانب أخرى أبعد وأشد أثرًا؛ إذ بات البحر نقطة صدام بين مشروعات إستراتيجية دولية متصارعة على إعادة تشكيل التوازنات الدولية.


يتحول البحر الأحمر بشكل متسارع إلى بقعة ملتهبة بالصراع بين أطراف دولية وإقليمية متعددة، لتغيير معادلات السيطرة عليه على نحوٍ غير مسبوق تاريخيًّا وإستراتيجيًّا.

والخيارات البارزة الآن تتراوح بين احتمالين:

- أن يجري النزاع في جنوب البحر خاصةً، مترابطًا ومتزامنًا مع الحرب الجارية الآن في الشرق العربي (العراق)، والشمال (سوريا)، والمتمددة إلى البحر المتوسط (فلسطين)؛ فيكون النزاع في الشرق الأوسط كامل العدد.

- أو أن يجري الصراع ويحدث الاشتعال بعد استقرار الأحداث الجارية الآن؛ ليفتح فصلاً جديدًا من الحرب، دون أن يغادر معطيات الحروب الجارية ونتائجها.

وفي ذلك، فالأمر المؤكد الآن، هو أن حالات الصراع والحروب المتنقلة في الإقليم منذ عام 2001م ستصبّ كل نتائجها في نزاع البحر الأحمر.

لقد بدأت الأحداث بأفغانستان، وتحوَّلت إلى العراق، وبعدها وصلت إلى سوريا، وتحوَّلت في الوقت الراهن باتجاه القضية الفلسطينية -كما هو حال الحرب والعدوان الصهيوني على غزة-، وقريبًا ستكون وجهتها -حاملة كل معطيات ونتائج الحروب السابقة- جنوبًا إلى البحر الأحمر، الذي سيكون الصراع فيه والنزاع حوله أشد تعقيدًا من كلّ تلك الصراعات -السابقة والجارية- بفعل تعدُّد الأطراف الدولية والإقليمية التي ستتدخل في هذا الصراع؛ بحثًا عن مصالحها الإستراتيجية؛ إذ البحر الأحمر يحتل أهميةً كبرى سواء على صعيد الأمن القومي العربي، أو على الصعيد الإقليمي الذي شهد تغييرًا في توازنات القوى بشكل مؤثر، أو على الصعيد الدولي الذي أنتجت تحولات موازين القوى فيه فتحًا لملفات السيطرة على البحار والمحيطات والمضايق، كما هو الحال في بحر الصين الجنوبي وفي البحر الأسود. وقد باتت مياه البحر تعجّ بالأساطيل الحربية؛ وهو ما يُهدِّد بنزاع دولي.

وواقع الحال أن الصراع على البحر الأحمر-خاصةً جنوبه- قد بدأت مؤشراته (أو جرى التحضير لتغيير معادلات السيطرة عليه) منذ فترة طويلة، وبات مصيره موضوعًا على جدول أعمال كثير من الدول الإقليمية والكبرى، حتى صار جاهزًا للاشتعال.

كانت البداية بأحداث تفكيك الصومال (والصومال هي دولة الامتداد الجنوبي لحدود وسواحل جيبوتي)، وقد نتج عنه وصول إثيوبيا إلى شواطئ قرب بوابة البحر الأحمر، عبر احتلالها لهذا البلد، كما نتج عنها انطلاق ظاهرة القرصنة التي استدعت حضورًا عسكريًّا لأساطيل الدول الغربية والصين وروسيا، بل حتى للسفن الحربية من دول إقليمية -كما هو حال الهند وإيران-تحت عنوان مكافحة القرصنة.

وقد خطا الصراع على البحر خطوةً أخرى عبر تصاعد حركة بناء القواعد الأجنبية -الأمريكية والفرنسية والصينية- في دولة جيبوتي (وجيبوتي هي الطرف المسيطر على الشاطئ الغربي لباب المندب، في مواجهة اليمن المسيطر على الطرف الشرقي لباب المندب).

وهو صراع أرسل إشارات أخرى متنوعة عبر أحداث واتفاقات، جرى بعضها في صورة الأعمال القتالية، كما هو الحال في العمليات التي شنَّتها إريتريا (على الطرف الغربي امتدادًا لحدود وسواحل جيبوتي)؛ للسيطرة على بعض الجزر اليمنية المتحكمة في مداخل البحر. وبعضها في صورة عقد اتفاقيات للوجود البحري على شاطئ البحر، كما هو الحال في البرتوكولات التي جرت بين السودان وأطراف إقليمية وأخرى دولية (تركيا وروسيا) كانت طامحة للحصول على موطئ قدم في ميناء بورتسودان على الساحل الشرقي للبحر.

وإذ كانت تلك الأحداث والمؤشرات قطاعية (تتعلق بتغييرات في داخل بعض دوله، كما هو حال الصومال)، وإذ حمل بعضها سياقات تقليدية مشتهرة (كما هو حال إثيوبيا في الصومال وإريتريا للسيطرة على الجزر)، أو إن جرت وقائع أخرى، ضمن قواعد التنافس الدولي التقليدية (جيبوتي والقواعد وميناء بورتسودان)؛ إلا أن سيطرة الحوثيين على الحكم في اليمن كان بداية لحدوث نقلة نوعية كبرى للصراع على البحر.

لقد نتج عن ذلك سيطرة الحوثيين على الحكم في اليمن، وتفكك الدولة اليمنية، وفقدان لدور الدولة العربية الرئيسية التي تسيطر على مداخل البحر، وجلب نفوذ ودور دول إقليمية وأخرى دولية تحت عنوان حماية مداخل البحر، بعد سيطرة جماعة غير شرعية أو غير معترف بها دوليًّا على مداخل البحر.

وهكذا، جاءت عمليات قصف الحوثيين لسفن أمريكية وبريطانية وصهيونية -تحت عنوان مساندة أهل غزة - بمثابة طلقة البداية لانطلاق صراع حربي مكشوف على البحر.

وفي الصورة الآن، وإذ من الطبيعي القول بأن دور الحوثيين هو دور إيراني، وأن إيران قد دخلت في الصراع على البحر الأحمر، فبالإمكان القول أيضًا، بأن الصراع الإقليمي قد تمدَّد الآن من مضيق هرمز إلى البحر الأحمر.

وإذ وجَّه الحوثيون ضربات لسفن أمريكية وبريطانية وصهيونية كانت تمر عبر باب المندب -في البحر العربي-؛ فقد فتحت تلك الأعمال (بغضّ النظر عن مدى تأثيرها) مساحة إضافية أمام الدول الغربية لحشد مزيد من الأساطيل، وللتمهيد للقول بضرورة وجود دولي دائم لحماية حركة التجارة ومداخل البحر الجنوبية من أعمال تشنّها جماعة غير شرعية.

وبنفس القدر، فإذا جرت توافقات بين إيران وكل من روسيا والصين لمرور سفنها عبر البحر الأحمر -بشكل آمِن دون قصف الحوثيين-، وإذ تتخوف أوروبا من تأثير ما يجري على مصالحها، فقد جرى استدعاء دور ووجود تلك الأطراف للحفاظ على تلك المعادلة.

وكل هذا يستدعي الدور العربي -بطبيعة الحال-؛ إذ الدول العربية المتشاطئة على هذا البحر، هي المتأثرة بشكل مباشر من كل هذا الذي يجري.

وهكذا تعددت الأسباب لاندلاع أزمة ونزاع في مداخل البحر الأحمر الجنوبية.

غير أن للصراع جوانب أخرى أبعد وأشد أثرًا؛ إذ بات البحر نقطة صدام بين مشروعات إستراتيجية دولية متصارعة على إعادة تشكيل التوازنات الدولية.

على أي شيء سيجري الصراع؟

بقدر أهمية البحر الأحمر سيجري الصراع ويشتد. وبقدر ما حدث من خلخلة في أوضاع الدول المشرفة على مداخل البحر والمجاورة لها، بقدر ما ستتدخل الدول الأخرى بنفوذها ودورها. ولن يكون غريبًا أن نسمع من يقول بضرورة ملء الفراغ الحادث في تلك البقعة من العالم.

والبحر الأحمر هو محور أساس للأمن القومي العربي؛ إذ هو المياه الفاصلة والواصلة بين الدول العربية في قارة آسيا وتلك الواقعة في قارة إفريقيا، وكل نفوذ أجنبي على شواطئه، ومداخله ونهاياته ومخارجه، بمثابة انتقاص من معادلات الأمن القومي العربي. وهذا الممر البحري الرابط بين الدول العربية في آسيا وإفريقيا بات الوحيد منذ قطع الطريق البري، بعد قيام دولة الكيان الصهيوني.

والبحر الأحمر هو ممر الحركة التجارية باتجاه المتوسط والبحر الأسود عبر البوسفور والدردنيل، وإلى المحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق.

وهو طريق بحري إستراتيجي يربط بين البحر المتوسط (والبحر الأسود)، والمحيط الهندي (والخليج العربي)، وهو الرابط بين كل الدول الواقعة على كل تلك المساحات المائية، والطريق الأقصر بين أوروبا وآسيا عبر الشرق الأوسط؛ إذ لا تزيد المسافة بين مضيق جبل طارق عند مدخل البحر الأبيض والخليج العربي عن 6500 كيلو متر، بينما المسافة عبر رأس الرجاء الصالح تبلغ 19000 كيلو متر، أي حوالي ثلاثة أضعاف المسافة.

وذلك يعني أن السيطرة على مداخل هذا البحر بمثابة السيطرة على أهم مسار لحركة التجارة الدولية.

وقد زادت أهمية البحر في السنوات الأخيرة، عبر ما أُعلن عن مشروعات اقتصادية ذات طابع إستراتيجي في مخارج البحر من الشمال، يمكن لها أن تُغيِّر التوازنات والعلاقات في الإقليم، أهمها مشروع القناة المائية الموازية والمُنافِسَة لقناة السويس من جهة، ومشروع وصل البحر الأحمر بالبحر الميت من جهة أخرى.

وللبحر الأحمر جوانب أهمية كبرى أخرى؛ فهو ليس مجرد مجرى مائي معزول يمر في فراغ. وهو ليس فقط ممرًّا لأهم سلعة إستراتيجية دولية -النفط-؛ بل هو المساحة المائية الأقرب إلى مناطق إنتاج النفط، وهو ما يدفع الدول الإقليمية والكبرى للعمل على الاقتراب بنفوذها ودورها من مناطق استخراج تلك السلعة الأساس في حركة الاقتصاد العالمي.

وقد زاد التنافس والصراع الدولي على هذا البحر، ورفع من أهمية الوجود العسكري الدولي، أن أصبح نقطة تصادم بين مشروعين دوليين عملاقين متضاربين ومتصارعين، سيحددان مصير التوازنات الدولية.

صدام دولي بين مشروعين إستراتيجيين

حتى لو كان البحر الأحمر مستقرًّا، وحالة الدول الواقعة في مداخله مستقرة، لكان قد شهد صراعًا دوليًّا وإقليميًّا على النفوذ، فما بالنا والدول المتحكمة في مداخله تعاني من هشاشة أوضاعها وتعيش حالات صراع حربي وأوضاع في غاية الاضطراب؟!

وإشكالية البحر الأحمر الآن، هو في التزامن بين انهيار وهشاشة وضعف الدول المشرفة على مداخله، من جهة، ودخول العالم أو الدول الكبرى حالة صراع -ويصل البعض حد الحديث عن احتمالات حرب عالمية-؛ لإعادة ترتيب عوامل القوة والنفوذ وفق توازنات دولية جديدة.

وإذ يوصف الصراع الدولي الآن بأنه صراع يستهدف إنهاء هيمنة القطب الأمريكي، وإحلال نظام دولي متعدد الأقطاب، فلا مجال أهم من مجال البحار والمحيطات والمضايق محلاً لهذا الصراع أو للوصول إلى نتائج.

وكما هو معلوم فإن الدولة العظمى لا تُوصف بهذا الوصف إلا لسيطرتها على البحار والمحيطات وممرات التجارة الدولية؛ فهذا التغيير في الوضع الدولي يحمل في طياته تغيير حالة الهيمنة الأمريكية على البحار والمحيطات والمضايق الدولية.

وفى ذلك يمكن القول: بأن أهم ملامح التغيير في التوازنات الدولية وأهم انعكاسات حالة تعدد الأقطاب، يتلخص في تغيير نمط السيطرة على البحار والمضايق والممرات الدولية إلى نمط جديد يضمن عدم سيطرة طرف دولي واحد عليها.

ولعل أهم المؤشرات على الأهمية الكبرى لهذا الصراع هو نمط التصادم الجاري بين مشروع الصين المسمى بالحزام والطريق من جهة، والمشروع الأمريكي المسمى الممر الاقتصادي من جهة أخرى. وكلا المشروعين الإستراتيجيين يَعتبران البحر الأحمر محورًا لحركتهما.

وإذ تعتبر الصين مشروعها محورًا لتنميتها ولتطور دورها على الصعيد الدولي، فالولايات المتحدة، ترى المشروع أساسًا لإضعاف هيمنتها الدولية، وأن نجاح المشروع الصيني سيجعلها تحتل مركزًا دوليًّا مسيطرًا، بما يُغيِّر التوازنات الدولية على نحو حاسم على حساب الولايات المتحدة والغرب.

وإذ تتحرك الصين -كعادتها- وفق خطة مبرمجة تبدأ بالمشروعات المشتركة والقروض والاستثمارات؛ فقد كان لافتًا أن اختارت أن تكون قاعدتها العسكرية الأولى في الخارج عند مداخل البحر الأحمر، كما اختارت أن تُجري مناوراتها البحرية في الخارج قرب مداخل أو في محيط البحر الأحمر، بالمشاركة مع كلٍّ من روسيا وايران.

وفي المقابل، بات من الصعب الآن إحصاء أعداد السفن والغواصات والقوات البحرية للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.

وإذ شكلت الولايات المتحدة مؤخرًا قوة بحرية ضاربة بمشاركة 20 دولة، أطلق عليها «حارس الازدهار»، وجرى تبرير تشكيلها تحت عنوان مواجهة قصف الحوثيين لبعض السفن وللحفاظ على تدفق التجارة الدولية؛ فقد كان لافتًا أن تلك القوات، جاءت مضافة لما تمَّ تشكيله من أنواع متعددة من القوات البحرية:

أولها: تحت عنوان قوة المهام المشتركة 150، وتضم 25 دولة تحت عنوان مكافحة الإرهاب.

وثانيها: قوة المهام المشتركة 151 التي تشكّلت تحت عنوان مكافحة القرصنة.

وثالثها: قوة المهام المشتركة 152 التي تعمل في الخليج العربي.

ورابعها: قوة المهام المشتركة 153 التي تشكّلت تحت عنوان حماية البحر الأحمر.

وخامسها: قوة المهام الخاصة التي تشكلت تحت عنوان تعزيز الأمن البحري في الشرق الأوسط ... إلخ.

وإلى جانب هذا الوجود العسكري الأمريكي، فهناك قوات بحرية أوروبية في المنطقة تحت عنوان مكافحة القرصنة، أطلق عليها الاتحاد الأوروبي مسمى «يونافور أتلانتا»، وتشارك فيها إسبانيا وألمانيا والسويد وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا وهولندا، وغيرها. 

وهكذا جرت عسكرة البحر الأحمر، وبات جاهزًا لاستقبال نزاع دولي خطير.

وعلى كل حال؛ فسؤال البحر الأحمر المباشر المُوجَّه للدول العربية هو: ماذا لو اشتعل النزاع؟ وهل لدى الدول العربية خطة للتعامل مع كل هذا الاحتشاد العسكري؟

أما السؤال الإستراتيجي الذي يطرحه الوضع الراهن على الدول العربية، فهو يدور حول تأثير ما يجري على الأمن القومي العربي؟ وما إذا كانت هناك رؤية أو خطة للتعامل مع احتمال أن تتحول الأطراف الدولية والإقليمية من احتمالات وقوع الحرب إلى البحث في تسوية تضمن تقاسم النفوذ والأدوار؟

باختصار: البحر الأحمر الذي بدأت حياة العرب حوله، كان بحيرة مُغلَقة داخل الجغرافيا العربية والإسلامية، تحوَّل رويدًا رويدًا إلى ممرّ دوليّ، خاضع لسيادة الأطراف العربية المتحكمة في مداخله ومخارجه، ثم تحوَّل الآن إلى منطقة جاذبة للصراع الدولي والإقليمي، بما بات يُهدّد بحدوث تغيير إستراتيجي تاريخي في حياة هذا البحر.

  

أعلى