النهضة العلمية الإسلامية في إفريقيا

وإذا كان الهدف من دراسة الحياة الفكرية هو تلمُّس الأسس والدوافع والمؤثرات، ثم المردود والنتاج، فيجب أن نبدأ من حيث بدأت المراكز العلمية في أكثر من مدينة إفريقية تعلن عن نفسها وعن المستقبل الذي ينتظر الثقافة العربية الإسلامية


خلال القرنين الثامن والعاشر الهجريين

(الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين)

كان للإسلام الفضل الأكبر في نقل اللغة العربية ومختلف علوم الدين إلى أماكن كثيرة في إفريقيا الغربية، ولم يكن لجهود الدعاة والوعاظ ولا لحلقات العلم في الجوامع من هدف سوى تعريف السودانيين بالآداب الإسلامية، وقواعد الدين، وتنظيم المجتمع على أسس جديدة تكون مبنية على الإسلام ومبادئه.

كما لم تعرف الشعوب الإفريقية التي أسلمت عنف الصراعات المذهبية التي عرفتها الأندلس والمغرب؛ لأنَّ المذهب المالكي كان -منذ عهد المرابطين- هو المُعتمَد بكيفية تكاد تكون شمولية.

أما الطابع الثقافي، فلم يخرج عن النطاق الديني أيضًا، وربما لم يكن للغة العربية أيّ أثر في مدى سبعة قرون منذ دخول الإسلام إلى إفريقيا الغربية؛ فالقول بأنَّ الفكرة الإسلامية التي تحالفت مع التجارة، كانت العامل الأساسي في بناء الممالك الإفريقية، لا يعني بالضرورة قيام مجتمع يعتمد في تجانسه الفكري على الثقافة العربية الإسلامية.

إنَّ كلَّ ما وصلنا من معلومات عن التفاعل الديني، والتفاعل الديني القائم على الثقافة العربية الإسلامية، مع الأسس الفكرية التي كانت موجودة بإفريقيا الغربية؛ يقودنا إلى ثلاث مراحل مرَّت خلالها الثقافة العربية الإسلامية إلى المجتمعات الإفريقية:

المرحلة الأولى: نهض بها الدعاة وسط القبائل والمساجد في المدن، واستمرت حتى أواسط القرن الرابع عشر، وكان مما نتج عن تلك المرحلة تعليم معظم الناس العبادات، والمعاملات، والسلوك الديني.

المرحلة الثانية: امتازت بتوثيق العلاقات المغربية والمشرقية مع إفريقيا الغربية، وانتقل خلالها علماء الفقه والحديث، وجماعة من المهندسين المعماريين إلى مناطق مختلفة في إفريقيا الغربية، وأدت جهودها إلى إدخال الثقافة العربية الإسلامية، والفنون العربية، وخلق مدرسة إسلامية إفريقية، وخاصة في مجال علوم الدين من فقه، وحديث، ومسائل، ونوازل.

المرحلة الثالثة: تبتدئ من أواخر القرن السادس عشر، وقد وسعت المجالات السابقة وصقلتها، وأضافت إلى أغراضها الفكرية مجالات وآفاقًا تمثلت في فنون أدبية أكثر عمقًا وإشراقًا وإبداعًا؛ كالفلسفة والمنطق، والتاريخ، وآداب الرحلات، والإنشاء، والشعر.

وإذا كان الهدف من دراسة الحياة الفكرية هو تلمُّس الأسس والدوافع والمؤثرات، ثم المردود والنتاج، فيجب أن نبدأ من حيث بدأت المراكز العلمية في أكثر من مدينة إفريقية تعلن عن نفسها وعن المستقبل الذي ينتظر الثقافة العربية الإسلامية، ونحن لا نعلم يقينًا قَدْر النهضة العلمية، ولا أهمية المراكز الدينية التي قامت حتى منتصف القرن الرابع عشر؛ فالمؤرخون القدماء، وحتى الرحّالة، لم يسعفونا إلا بأسماء علماء أو فقهاء، أو من يُدّعى بأنهم أصحاب كرامات، كانوا يعيشون بتلك البلاد، وكانت لهم حظوة عند الحُكَّام والشعوب. ولكننا لا نجادل في بروز سلطة دينية حازت التقدير والاحترام، وأدت بجمهرة منهم إلى أن يُدْخِلُوا سُلطتهم تلك في خِضم المعتركات السياسية بصفة مباشرة، أو غير مباشرة، ويجتهدوا في التأثير على الجوانب الاقتصادية كذلك.

وكانت هناك أزمنة مدّ وجزر في ذلك التدخل، أو هذا التأثير، ولكن يمكننا القول بصفة عامة: إنَّ الحركة العلمية كانت تندفع إلى تحقيق أهدافها في نقل المعرفة، وتكريس الثقافة العربية، وكان يبرز من بين رجالها الفقهاء والأدباء. ولكن، لا ينبغي تسمية الأشياء بغير أسمائها؛ فإذا كانت طبقة إفريقية مثقفة ومختلطة بالثقافة العربية الإسلامية، قد ترعرعت وأخذت مكانتها في المجتمع الإفريقي؛ فإنَّ رجالها لم يصلوا قبل القرن الرابع عشر للميلاد إلى ما كان يمكن أن يشكلوا معه الحركة الفكرية الناضجة[1].

ويمكننا القول وبكل اطمئنان، بأنَّ المراكز الثقافية الإسلامية في ذلك الوقت كانت قد حققت نجاحًا مهمًّا في ربط الفكر الديني العربي بالحضارات الإفريقية، وسار ذلك الربط في التأثير المتبادل دون حدوث نكسات، أو أي مظهر للرفض من طرف الأفارقة، الذين أصبح ما تعلّموه وخبروه جزءًا من كيانهم الخاص، وهذا ما أطبقنا عليه بـ«المدرسة الإفريقية». غير أنَّه ينبغي التساؤل: هل كان هناك امتداد كبير للثقافة العربية الإسلامية؟ وهل شملت تلك الثقافة غالبية سكان الغرب الإفريقي المسلم؟ أم أنَّ الطبقة المثقفة ظلت تدور حول نفسها؟ ثم هل كانت طبقة المثقفين تشكل طبقة منعزلة وغير فاعلة؟ وأخيرًا هل وقع التخاطب بالعربية أم ظلت تلك اللغة سجينة المساجد لا يفقهها إلا بعض المقبلين على المساجد؟

في الواقع، إنَّ الإسلام وإنْ كان قد طبع التاريخ الإفريقي بطابعه المميز، فإنَّه كان مع ذلك نموذجًا إفريقيًّا، فسكان القرى والبوادي لم يكونوا يعرفون إلا النطق بآيات القرآن الكريم دون فقه لمعنى ما يُحرّكون به ألسنتهم، وكانوا يُمسكون في رمضان من الفجر إلى غروب الشمس، ويتقرّبون بالذبائح بالقرابين والنذر، ولكنهم إلى جانب ذلك، كان بعضهم يعبدون قوى الطبيعة، ويُقدّسون الأصنام والأيقونات، ويؤمنون بأقوال الكهنة والسحرة، وقد مرّ وقت طويل قبل أن تتغلب المدارك الإسلامية على السحر.

وفي الجهة المقابلة، بقيت كثير من الشعوب الإفريقية الموزعة على أجناس متعددة، تتحدث مئات اللغات المختلفة، واستمرت على تقاليدها القديمة رغم دخول الإسلام واتحادها ظاهريًّا تحت مظلته. ولكن، قد تأكد لنا، أنَّ تلك الشعوب لم يوحّدها شيء حتى الآن كما وحَّدها العِرْق والثقافة المحلية؛ فالدين بالنسبة إليها مكان الرابطة، ولم يكن عنصر تحويل جذري. ونستطيع القول: إنَّه في هذا المحيط البشري المتلاطم، لم تستطع قلَّة من المثقفين بالعربية أن تفعل أكثر من لفت النظر إليها، وبالرغم من أنَّ تذوق الثقافة العربية كان يتزايد مع ازدياد قوة الرفد من الشمال الإفريقي، فإنَّه لم يكن هناك من مفرّ لتغليب الصبغة الإسلامية على تلك الثقافة.[2]

ومما لا ريب فيه، أنَّ النصف الثاني من القرن الثامن (14م)، قد شهد بعض الأحداث التي أثّرت على تطور الحركة الفكرية في منطقتنا، فقد زار المغرب وفد من مملكة مالي[3] في عام 741هـ (1341م)، واتصل بالسلطان أبي الحسن المريني[4]، وحمل رسالة وهدايا إليه، وطلب منه توجيه مجموعة من الفقهاء والعلماء والمعماريين، ولم يتأخر السلطان عن التلبية، وأدّى الأمر بعد أعوام قليلة إلى ظهور نهضة علمية حقيقية في المدن، تقوم على الثقافة العربية، واتضاح معالم فن مغربي أندلسي أصيل في القصور والمساجد التي بناها مهندس أندلسي شهير هو «أبو إسحاق الطويجن».[5]

 ويظهر أنَّ التعاون الثقافي والفني بين مالي والمرينيين، كان مرغوبًا فيه؛ حيث توجّهت بعثة من الطلبة إلى مدينة فاس، وندب المرينيون والوطاسيون مجموعة من العلماء للعمل في مدارس إفريقيا الغربية، وسمحوا لبعض الرحّالة بالتوجّه إلى المناطق الإفريقية؛ للاطلاع على أحوالها، واشتهر من بين أولئك السفراء «الحسن الوزان ووالده».

ولقد كان من أثر ذلك: بروز الحضارة الإفريقية الفكرية والعمرانية على النسق الأندلسي المغربي، ولكنها لم تتجاوز نطاق المدن الكبرى الواقعة على ضفاف نهر النيجر.

ولم تتأثر قضية التبادل الثقافي عبر الصحراء بما كان يجري من تحولات سياسية في إفريقيا الغربية والمغرب معًا؛ فقد انتهت مالي كإمبراطورية، واستلم قادة وزعماء من السنغاي مقاليد السلطة، ثم حوّل أحد أولئك السلاطين البلاد إلى مملكة خلال القرن العاشر (16م)، ونصّب نفسه ملكًا عليها، وهو «الحاج محمد التوري»[6].

أما في المغرب، فقد برز شرفاء مجاهدون في جنوب المغرب، وأقاموا دولة لهم وهي «دولة السعديين»، وأخذت العلاقات الإفريقية-المغربية في العهدين الجديدين أشكالاً إيجابية تمخّضت عن ارتباط عضوي سياسي واقتصادي وحضاري.

ولقد توارد على بلاد إفريقيا الغربية عشرات العلماء من المغرب، واستقبلت جامعة القرويين العشرات أيضًا ممن لمع اسمهم في تاريخ البلدين معًا، وازدهرت تجارة الكتب، وحفلت مكتبات مدن السودان بكل ما كان معروفًا من كتب في مختلف الفنون، وبارك الأساكي -السلاطين- الحركة العلمية والثقافية العربية، وشجّعوها، واحترموا العلماء والفقهاء، وأسقطوا عنهم وظائف للسلطنة وغراماتها، ومنعوا عنهم ظلم الحكام؛ بحيث كان «للأسكيا» -أي: السلطان- وحده حق النظر في أيّ شكوى ضد عالِم أو فقيه. واعتقد أهل إفريقيا الغربية الولاية في العلماء، ونسبوا لهم الكرامات، وكانوا يقيمون الأضرحة لمن مات منهم، ويتقدمون بالذبائح إلى تلك المقامات[7].

 


 


[1] عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، ترجمه من الفرنسية أوكتاف هوداس بمشاركة تلميذه السيد بنوة، باريس، ميزونوف،  1981، ص21.

[2] محمد المغربي، الحكم المغربي في السودان الغربي: نشأته وآثاره، الكويت: مؤسسة الخليج للطباعة والنشر، 1982، ص 510.

[3] مملكة مالي: أسس هذه المملكة شعب زنجي أصيل هو شعب الماندي أو الماندينغ (Manding)، وكلمة مالي تحريف لكلمة ماندنجو، ومعناها الذين يتحدثون لغة الماندي. وقد اعتنق هذا الشعب الإسلام  في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (11م)؛ حيث اعتنق أول ملك منهم الإسلام حينئذ، ويُعرف بالمسلماني. ويرجع تأسيس هذه المملكة إلى القرن 7هـ/ 13م، ووصلت أوج توسعها في مستهل القرن 8هـ/ 14م، خاصة في عهد السلطان منسى موسى وأخيه منسى سليمان، واستمرت هذه المملكة قائمة حتى قضى عليها أهل سنغاي عام 1488م. راجع: عبدالله عيسى. 2014. «الإسلام كمرجعية لمملكة مالي خلال القرن 8هـ/ 14م»، مجلة البيان، الرياض، العدد 322 جمادى آخر لعام 1435هـ، ص. 3ــ 4.

[4] يُعد السلطان أبو الحسن المريني الملقب بالمنصور بالله (731 - 749هـ / 1331م - 1348م)، أعظم ملوك بني مرين، بل من أعظم ملوك المغرب على الإطلاق، فقد عمَّ صيته البسيط شرقًا وغربًا، ووصفه الناصري بقوله: «هذا السلطان هو أفخم ملوك بني مرين دولة، وأضخمهم مُلكًا، وأبعدهم صيتًا، وأعظمهم أبهة، وأكثرهم آثارًا بالمغربين والأندلس». 

[5] محمد اللواتي الطنجي (ابن بطوطة)، رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق محمد عبدالرحيم، دار الأرقم، دمشق، 2009، الطبعة الأولى، ص 376.

[6] الأسكيا محمد (899ــ 935هـ/ 1493ــ 1528م): هو أول ملوك آل أسكيا ومؤسس حُكم دولتهم، تولى السلطة سنة 899هـ/1493م، بعد الإطاحة بسني بارو، آخر ملوك أسرة سني، أشار المؤرخ محمود كعت إلى أنَّ هذا السلطان كان جليل القدر بين أهله، كما كانت له من المناقب وحسن السياسة والرفق بالرعية والتلطف بالمساكين ما لا يُحصى، ولا يوجد له مثيل لا مِن قبل ولا من بعد. أجمعت أغلب المصادر على حِنكته وقدرته على إقامة تنظيمات إدارية جيدة، إلى أن أُصيب بالعمى وعزله ابنه أسكيا موسى، وتولى الحُكم محله، وبعد الإطاحة به دخلت مملكة سنغاي منعطفًا جديدًا، تميزت بالصراع المرير بين الأمراء حول الحُكم، لهذا انتشرت في صفوفهم الحرب والفتن، وهو ما أدى إلى انهيار كل ما بناه هذا السلطان. راجع: محمود كعت، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس، حققه هوداس ودولافوس، أنجي: بريدن، 1913 ص 59.

[7]  محمد المغربي، الحكم المغربي في السودان الغربي، مرجع سابق، ص 514.

 

  

أعلى