الأوعية الفارغة

الأوعية الفارغة


قرأتُ هذه الأحكام كثيراً، وتكرَّر عرضها في مناسبات عدة:

لا حرج في تولي المرأة الرئاسة العظمى، وما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأةً)[1] فالصحيح أنه خاص ببنت كسرى الذي جاء بسببها الحديث، والأصح هو القول بخصوص السبب لا بعموم اللفظ.

قول الفقهاء بقتل المرتد فرع جزئي مخالف لمقصد شرعي كلي يقوم على حرية الاعتقاد وعدم الإكراه في الدين فيقدم المقصد على الجزئي.

لا بأس بأخذ الربا من المصارف المعاصرة إذا كان بهدف التجارة؛ لأنه يحقق مصالح عظيمة للفرد، والشريعة إنما تقوم على المصالح فلا يمكن أن تمنع ما فيه مصلحة.

ثبت الرجم في السنة، لكنه مخالف للقرآن، وإذا تعارض القرآن والسنة يقدم القرآن.

ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام في السياسة هو من قبيل السنة غير التشريعية، فليس كل ما في السنة يكون تشريعاً ملزماً.

هذه جملة من الأحكام المعاصرة الشائعة، وهي مصادمة بوضوح للإجماع ولدلائل النصوص الشرعية، لكنها في نفس الوقت تستند إلى عددٍ من القواعد الشرعية المعروفة، تجد فيها: (المصلحة، المقاصد، المعارضة بين النصوص، عموم اللفظ وخصوص السبب، والسنة التشريعية).

الذي حدث أن هذه النتائج – مع غلطها الفاحش - تروج لدى فئات كثيرة من الناس، ويظن أنها تنطلق من أصول شرعية تعتمد على أسس فقهية سليمة، وأن الخلاف معها كأي خلاف في السياق الفقهي، ولا ينكشف لكثير منهم حجم الخلل والغلط في هذه الأحكام.

ما تفسير ذلك؟

كيف أصبح كثير من الناس يقبل مثل هذه الانحرافات ويظن أنها متوافقة مع الشريعة؟

من التفسيرات المهمة هنا هو حالة (الأوعية الفارغة)، فأكثر الناس يسمع بهذه الموضوعات (مقاصد، مصلحة، معارضة بين النصوص، العقل، وسنة غير تشريعية)، لكنه لا يضبط مفاهيم هذه الأصول ولا يعرف حدودها، وإنما تمر عليه في سياق الاستدلالات الفكرية، فيتقبّل مثل هذه الأحكام المنحرفة لأنه يثق بالأصول التي تستند إليها، فيظن أن هذا هو تطبيق لهذه الأصول والقواعد، فهذه الأصول أصبحت وعاء فارغاً يعبَّأ في ذهنه بحسب ما يقدمه صاحب الانحراف وليس بحسب قراءة موضوعية مسبقة ومعرفة واضحة لحدود هذا الأصل.

تجد بعض الناس يتحدث كثيراً عن الأصول الشرعية ويذكر أمثلة ويأتي باستدلالات، وحقيقة الأمر أن كل ما يعرفه عن هذه الأصول إنما أخذه من الدراسات الفكرية، أو عن طريق السجالات التي تجري على عدد من المسائل في مواقع الحوار وشبكات الإنترنت، فهذه الأصول صارت أوعية قد امتلأت من خلال هذه القراءات، ولم تعتمد على دراسة لهذه الأصول ورجوع لكلام المتخصصين وفهم دقيق لحدودها ومعالمها؛ ولهذا فمن الطبيعي أن يستدل بهذه القاعدة بما ينقضها، وأن يستعملها في المواضع التي اتفق الفقهاء على أنها خارجة عن حدودها، وأن يوظفها وقد تساقط منها عدد من الشروط والقيود والأحكام.

لنعد مرة أخرى إلى هذه المسائل ولنبيّن وجه الخلل في الاستدلال بكل قاعدة، وكيف أنها صارت وعاء يعبأ بما يخالفه وبما ليس له علاقة بالعلم:

أما حديث (لن يُفلِحَ قومٌ ولَّوا أمرَهُمُ امرأةً)، فمع كون القول بخصوص السبب قول شاذ، إلا أن الاستدلال هنا ليس له علاقة بخصوص السبب مطلقاً؛ لأن معنى تطبيق قاعدة خصوص السبب وعموم اللفظ: أننا حين نقول العبرة بخصوص السبب فإن التحريم يكون خاصاً بالرئاسة العظمى، وإن قلنا هو بعموم اللفظ فإنه يكون شاملاً لكل ولاية، وأما القول بأنه خاص بحالة معينة فهذا لا علاقة له بهذه القاعدة أساساً، ولا يقول به أحد، بل هو مخالف للإجماع كما حكاه غير واحد من أهل العلم.

وأما المرتد فما ثبت بالدليل الشرعي فهو حكم ثابت لا يجوز هدمه بالمقاصد، والمقاصد إنما تكون عبر اجتماع فروع شرعية وليس أن تأتي بالمقاصد من الخارج وتهدم بها هذه الفروع، فحرية الاعتقاد التي تشمل حرية الردة ليست من المقاصد الشرعية، والإكراه في الدين لا يشمل إكراه المرتد، فالمقاصد هنا ليست مقاصد شرعية من الأساس.

وأما أخذ الربا، فالمصلحة التي تعتمدها الشريعة ليس أي مصلحة وهوى للنفوس، بل هي المصلحة الشرعية، ومن قواعد المصلحة أن ما حرمته الشريعة ليس بمصلحة، بل هو مصلحة موهومة لا اعتبار لها.

وأما مخالفة القرآن للسنة فليس في مجيء السنة بحكم جديد يعني وجود مخالفة للقرآن، كما أن تخصيص العام وتقييد المطلق هو من تفسير السنة للقرآن وليس هو من قبيل المعارضة.

وأما السنة التشريعية وغير التشريعية فهو تقسيم تضخم عند المعاصرين حتى كان سبباً لرد كثير من نصوص السنة الصحيحة، وحتى أصبح الأصل هو التوقف في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نعلم هل نتبعه أم لا؟ وهو منهج مغلوط لم يعرفه الفقهاء المتقدمون، فالأصل في السنة التشريع ووجوب الاتباع، ولا يستثنى من ذلك إلا قضايا محددة بالدليل؛ كالذي ثبت أنه من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ما كان من قبيل الجبلة والعادة، أو ما كان من قبيل وسائل التجارب الدنيوية، أما أن يكون الأصل هو التوقف فلا نتبع الرسول إلا بعد التأكد، أو أن نحذف منها أبواباً شرعية كبرى كالسياسة؛ فهذا عبث لا علاقة له بالقاعدة.

هذه مناقشة سريعة مقتضبة لهذه القواعد؛ لإفراغ المعنى الفاسد الذي صُب في هذا الوعاء، وتوضيح المعنى الحقيقي لهذا الأصل الشرعي، فلا يكفي أن تستدل في كلامك بأي أصل أو مقصد تراثي، بل يجب أن يكون الاستدلال موضوعياً مستقيماً.

تشتهر هذه الأصول والقواعد الشرعية بين الناس، لكن يخفى على أكثرهم معرفة حدودها، بما يعطي الفرصة بسهولة للاستدلال بها في أي حكم، وهو ما دعا بعض العلمانيين للحديث بصراحة عن ضرورة توظيف القواعد الشرعية في سبيل تمرير القيم العلمانية، وأنه يجب البحث في التراث الإسلامي عن كل ما يمكن الاستفادة منه ليكون في النهاية غطاء للأفكار المنحرفة، وهي دعوة راجت بسبب قناعة عميقة بفشل أي محاولة لتمرير الأفكار المصادمة للنص إلا من طريق النص نفسه تحاشياً لنفرة عموم الناس ورفضهم، فالخطاب العلماني المعاصر يشارك بجدارة في تعبئة المفاهيم الشرعية بمعانٍ جديدة تهدم الأصول الشرعية وتجعلها تدل على نقيض ما هي عليه.

ولا يفطن كثير من الناس إلى أنهم يستدلون بالقواعد الشرعية المعبَّأة بالرؤية العلمانية من حيث لا يشعرون، فأكثر معرفته لهذه القواعد إنما استقاها من انهماكه الشديد في قراءة النتاج الفكري الذي لا يقوم على معرفة شرعية معمقة، هذا إن لم يكن قرأها في حوارات المنتديات والشبكات الاجتماعية، أو تابعها في البرامج التلفزيونية، ولو عاد فقرأ هذه الأصول من خلال الكتب المتخصصة التي تعتمد القراءة الموضوعية المنضبطة لتبيَّن له حجم الخلل الكبير الذي وقع فيه من حيث لا يشعر.

من الملاحظ – بجلاء - لدى كثير من المعنيين بتقويم التراث ونقده من المفكرين المعاصرين، أن لديهم قصوراً ظاهراً في استيعاب التراث الذي يقدمونه، والمجال لا يتسع لإيراد أمثلة كثيرة تكشف حال قصور معرفي فاضح في الخلط بين القواعد، وإيراد معلومات خاطئة، والجهل بقضايا بدهية، والإشكال أن أمثال هؤلاء أصبحوا مرجعاً لدى كثير من القراء الشباب في فهم التراث ومصدراً للمعلومات والأحكام، فتجد من يتحدث عن المقاصد والمصلحة والمكي والمدني وسبب النزول... إلخ؛ لا يستحضر إلا كلام هؤلاء المفكرين ولا يغترف إلا من تلك الدراسات المعاصرة غير المتخصصة، فقبل الحديث عن النتائج والتحليلات فإن الشخص بحاجة إلى المعلومة الصحيحة، وهي ما تعاني هذه الدراسات من قصور حاد فيها.

والإشكال أن الوعاء المملوء يوهم صاحبه بأن لديه تحقيقاً وتحريراً، وأنه مستمسك بالدليل، على منهج وسطٍ معتدل، فلا يرى من عداه إلا غلاة جهلة متخلفين عن فهم الشريعة، مع كونهم ربما يكونون جمهور علماء الأمة إن لم يكونوا في بعض القضايا هم كل علماء الأمة، فمن يجهل هذه القواعد هو خير ممن يفسرها بشكل خاطئ؛ لأن الجاهل سيبحث ويسأل ويفكر، بخلاف الآخر الذي قد حسم الموضوع بعد أن امتلأ لديه الوعاء.

حتى لا يكون في بنيتك المعرفية فراغ تسري فيه هذه المغالطات والانحرافات فتملأ القواعد والأصول المعتبرة؛ يجب أن تكون لدى الإنسان همة في التعلم والبحث في المصادر المعتبرة، وأن يقصد البحر والمنبع ويترك القنوات فضلاً عن المستنقعات، وأن يقرأ نتاج العباقرة الأساطين من أئمة الفقه والأصول والاعتقاد واللغة من المتقدمين أو المتأخرين؛ هنا سيظهر الفرق بين المنهجية العلمية الصارمة وبين المناهج العبثية في النظر والاستدلال.

ليس كل الناس قادراً على هذا البحث والتحرير، ولا هو واجب عليهم، إنما الوجوب هنا يتأكد في حق العلماء وطلبة العلم والمتخصصين في الدراسات الشرعية أن ييسروا للناس سبيل العلم بهذه القواعد، وأن يظهروا أوجه الخلل والغلط التي تفسَّر بها هذه القواعد، حتى يكون بيّناً شائعاً لدى الناس، فيتبدد رجاء المنحرفين في تعبئة القواعد الشرعية بانحرافاتهم، وهذا يستدعي معرفة تفصيلية لنتاج الدراسات الفكرية المعاصرة التي تقوّم التراث وتحلله، وإدراكاً لمناهجها وأحكامها حتى يتم تحديد أوجه الخلل والانحراف.

ليس المهم أن يستدل الشخص بأي قاعدة أو دليل شرعي، ولا يكفي أن يأتي بآية أو حديث ليكون قوله مقبولاً شرعاً ومنسجماً مع القواعد الشرعية، فالاجتهاد في الشريعة ليس هو الاستدلال بأي دليل، وإنما الاجتهاد هو في الاستدلال المقبول شرعاً، وإلا فكل الفرق البدعية في الإسلام، بل حتى الفرق الغالية في الكفر من باطنية وملاحدة؛ كانوا يستدلون بالقرآن ويوردون نصوصاً من السنة ويأتون بقواعد وأصول، لكنها في الحقيقة لم تكن استدلالاً واهتداء، إنما عبِّئت بالمعاني الباطلة التي كانوا قد اعتقدوها من قبل.

:: مجلة البيان العدد 314 شوال 1434هـ، أغسطس - سبتمبر 2013م.


[1] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

 

 

أعلى