ما وراء تهديدات أردوغان؟

لا شك أن الخلفيات والأرضية التي ينطلق منها رجب طيب أردوغان هي ذات توجُّه إسلامي يبغي استعادة أمجاد الدولة العثمانية، والتي مثَّلت لقرونٍ عديدةٍ الخلافة الإسلامية في آخر مراحلها التاريخية.


منذ عدة أسابيع خرج الرئيس التركي أردوغان في تصريح مفاجئ عن مجزرة الإبادة التي تمارسها العصابات الصهيونية في غزة قال فيه: «يجب علينا أن نكون أقوياء جدًّا؛ لكي لا تتمكن إسرائيل من ارتكاب هذه الوحشية». ويمضي أردوغان قائلًا: «كما تدخَّلنا في كاراباخ وليبيا، سنفعل شيئًا مشابهًا لإسرائيل... لا يوجد شيء يمنعنا من أن نفعل هذا».

هذا التصريح اعتبره البعض تطورًا خطيرًا في الصراع الدائر الآن في غزة؛ بين مقاومة صامدة تُدير حرب عصابات ناجحة ضد أحد أقوى الجيوش في العالم تسانده الدولة الأولى الكبرى في ترتيب النظام الدولي. وفي نفس الوقت يحاول الجيش الصهيوني التغطية على تراجُعه أمام ضربات المقاومة الناجحة، بحملة إبادة وحشية همجية يتم فيه قتل النساء والأطفال بعد قصف منازلهم، وهدم البنية التحتية للقطاع من مدارس ومساجد وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي؛ في محاولة لإجبار المقاومة على إعلان الاستسلام.

ولكنَّ كثيرين قد أخذوا تصريح أردوغان في إطار التهديدات الكلامية التي يُلقيها الرئيس التركي كثيرًا مع أطراف متعددة لتحقيق مكاسب عديدة يمينًا ويسارًا.

بينما يراه البعض كلامًا فارغًا للاستهلاك الداخلي، ومسرحية لرفع العتب عن القيادة التركية أمام القاعدة الشعبية لحزب العدالة التركي، والتي دائمًا تختار الحزب لأسباب عقائدية بعيدًا عن أيّ اخفاق اقتصادي.

ولكنَّ رد فعل الكيان الصهيوني يَشِي بأنه قد أخذ تصريحات أردوغان تلك بجدية، لدرجة أنه خرج وزير خارجية الكيان الصهيوني يسرائيل كاتس، ليهدِّد في تغريدة له على منصة «إكس» الرئيس التركي أردوغان علنًا، فكتب: «أردوغان يسير على خطى صدام حسين ويُهدِّد إسرائيل... عليه أن يتذكر ما حدث، وكيف انتهى». وأرفق وزير الخارجية الصهيوني صورة للرئيس الراحل صدام حسين وللرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

وردت عليه وزارة الخارجية التركية في بيان لها بالقول: «كيفما كانت نهاية مرتكب الإبادة الجماعية هتلر، كذلك ستكون نهاية مرتكب الإبادة الجماعية نتنياهو، فالإنسانية ستقف إلى جانب الفلسطينيين، ولن تستطيعوا إبادتهم».

بينما علّق وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ردًّا على تصريحات وزير خارجية الاحتلال التي استهدفت الرئيس أردوغان قائلاً: «أصبح رئيسنا صوت الضمير الإنساني، والذين يحاولون إسكات صوت الحق، وعلى رأسهم الدوائر الصهيونية وإسرائيل، يعيشون حالة من الهلع الكبير، والتاريخ يُظهر أن النتائج ستكون واحدة لكل مرتكبي الإبادة الجماعية وداعميها».

وفي نفس الوقت انضمَّت المعارضة داخل دولة الكيان -المختلفة دائمًا مع نتنياهو- في الهجوم على أردوغان، فصدر تصريح من زعيم المعارضة الصهيونية يائير لابيد يُندِّد بأردوغان قائلاً: «الرئيس أردوغان يصرخ ويهذي مرة أخرى، إنه خطر على الشرق الأوسط، ويتعين على العالم، وخاصةً أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي، أن يُدينوا بشدة تهديدات أردوغان ضد إسرائيل وإجباره على إنهاء دعمه لحماس».

وبصرف النظر عن السجال الدائر بين المسؤولين الصهاينة والأتراك، يبقى السؤال الأهم: هل سيمضي أردوغان بالفعل في تهديداته ويقصف الكيان كما فعل في ليبيا وأذربيجان؟

للإجابة عن هذا السؤال يلزمنا أن نتعرف أولاً على إستراتيجية أردوغان منذ وصوله إلى الحكم في تركيا، فهذه الإستراتيجية ستجعلنا نفهم كيف يُفكّر وأسلوبه.

كما نحتاج قراءة في تدخلات تركيا العسكرية، وخصائص هذا التدخل، والتي -كما ذكر أردوغان- تمت في ليبيا وأذربيجان.

وأخيرًا، وبناء على ما سبق، سنحاول تطبيق العناصر السابقة على تهديد أردوغان الأخير لنستكشف ما الحدود التي سيذهب إليها الرجل.

 

أردوغان واهتزاز الصعود

لا شك أن الخلفيات والأرضية التي ينطلق منها رجب طيب أردوغان هي ذات توجُّه إسلامي يبغي استعادة أمجاد الدولة العثمانية، والتي مثَّلت لقرونٍ عديدةٍ الخلافة الإسلامية في آخر مراحلها التاريخية.

والذي يتابع الكلمات التي كان يُلقيها أردوغان خاصةً قبل أن يقود حزبه لاعتلاء السلطة في تركيا، يُدرك جيدًا جذور فكر الرجل الإسلامية، حتى في حرصه على بيان علاقة الديمقراطية بالإسلام، وأنها مجرد آلية سياسية وليست عقيدةً أو منهجًا فكريًّا، وكذلك تنديده في خطابٍ مُعلَن بالتعصب القومي، وأنه لا فرق بين التركي والكردي والعربي.

ولكنَّ إستراتيجيات أردوغان لتحقيق أهدافه وغاياته العليا، ترتكز على أربع مراحل قد تسير بعضها متوازية، بينما لا يتم الانتقال إلى بعضها الآخر حتى يتم الانتهاء مِن التي قبلها، وهي مراحل معروفة تسير بها القوى الدولية؛ والتي تبغي الصعود في سُلّم النظام الدولي لتصطف مع الدول الكبرى.

ففي المرحلة الأولى، يتم تجميع عناصر القوة واستثمار الموقع الجغرافي والمكانة التاريخية، ومنها القوة السياسية بالعمل على استقرار النظام السياسي، وتوفير بيئة داخلية وملائمة لطموحات البلاد، ومنها القوة الاقتصادية، والقوة العسكرية والتكنولوجية، وسائر عناصر القوة.

أما المرحلة الثانية، فتتعلق بتصفير المشكلات مع العالم كله، وبالذات مع دول الجوار، فعن طريق التعاون وحلّ القضايا العالقة، تستطيع الدولة المعنية تمديد نفوذها المقبول، والذي لا يعترض عليه أحد.

وفي المرحلة الثالثة، تحاول الدولة التي تسعى نحو الدخول في ترتيب النظام العالمي التداخل مع مشكلات محيطها الإقليمي، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو حتى عسكرية، بحيث يكون لها موطئ قدم في أيّ قضية أو نزاع أو صراع اقليمي ودولي دون كسر قواعد اللعبة الدولية.

أما في المرحلة الرابعة أو الأخيرة، فتبدأ هذه الدولة في الاشتباك مع قواعد اللعبة، وتحاول كسرها لتزاحم الدول الكبرى، بالطبع مع وصولها إلى حيازتها عناصر القوة التي تُمكّنها من ذلك.

وبمراجعة سلوك النظام السياسي التركي منذ وصول أردوغان وحزبه إلى الحكم في ديسمبر ٢٠٠٢م، نجد أنه يُطبِّق هذه الخطوات بتؤدة وتأنٍّ وبُطءٍ، حتى إنه في بعض الأحيان قد يتراجع عن مرحلةٍ ما بعد أن يشعر أن الوقت لم يَحِن بعدُ للوصول إليها.

فالبوصلة التي تحكم توجهات أردوغان، لها عنصران:

الأول: توجهات الجماهير التركية؛ حيث إن أردوغان استطاع تعديل أُسُس النظام السياسي التركي، والذي كان قبل وصوله للحكم يقوم على لعبة انتخابية بين الأحزاب السياسية في إطار علمانية الدولة، والتي يحميها جنرالات الجيش ونظام قضائي وأجهزة إدارية تُدير دولاب العمل الحكومي، فيما يُصطلَح عليه بـ«الدولة العميقة».

وهذه الدولة العميقة كانت تراقب اللعبة الديمقراطية، ومدى التزامها وعدم خروجها عن الأُسس التي وضعها مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، وهي تدور حول العلمانية والتبعية للغرب.

وبمجيء أردوغان نجح في تقويض هذين الأساسيين، وذلك عندما قام بترويض العلمانية المتوحشة، وبمحاولاته الخروج من الشرنقة الغربية، فأزاح جنرالات الجيش التركي، والقضاة، وبالتالي قلب توجهات الدولة العميقة لتكون على نفس المسار الذي يتحرك فيه أردوغان.

فهذا المسار هو الذي يكون فيه الناس هم مَن يختارون مَن يحكمهم، ويستطيعون فيه ممارسة شعائر دينهم بحرية، ولا تتدخل قوة داخلية أخرى سواء كانت عسكرية أو قضائية أو حتى خارجية لتحارب تلك الاختيارات، وهذا أكبر إنجاز استطاع أردوغان تحقيقه.

ولكن في نفس الوقت هنا يكمن عامل من عوامل ضعف أردوغان، وهي التوجهات المناوئة، وتتمثل في جزء مُهمّ من الجماهير التركية، والتي تربَّت -بمخططات مدروسة لما يقارب القرن من الزمن- على العلمانية ونبذ الإسلام. وعلى الرغم من جهود أردوغان الحثيثة لتغيير تلك التوجهات، إلا أنه سرعان ما يستيقظ فيها هذا المكنون والمرتبط بالشعور القومي التركي المتطرف، والذي برز عند تدفق اللاجئين السوريين، والذي يُغذّيه الإعلام المرتبط بالأحزاب العلمانية، والتي تحاول زعزعة برنامج أردوغان.

وقد ظهر أثر ذلك، في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، والتي عبَّرت عن تدهور شعبية أردوغان وحزبه، الأمر الذي حدا بأردوغان إلى فرملة مساره وتقليل اندفاعه؛ حتى يستطيع البقاء واستمرار حزبه في رأس السلطة لتكملة مشروعه.

أما الأمر الثاني الذي يُشكّل ويتحكم في بوصلة مسار أردوغان؛ فهي البيئة الإقليمية والدولية:

ففي العشر سنوات الأولى من حكم أردوغان وحزبه، نجح في تصفير المشكلات مع الجيران، كما قدَّم نفسه للغرب بصفة عامة، والولايات المتحدة بشكل خاص، -والتي كانت متأثرة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر-، بأنه النموذج الإسلامي المعتدل، والذي يمكن أن يراهن عليه الغرب بدلاً من التطرف، سواءٌ كان إسلاميًّا أو علمانيًّا، وهو النموذج الذي كان يبحث عنه الغرب لضمان استمرار هيمنته على المنطقة.

ولكن في العشر سنوات التالية، ومع ظهور الربيع العربي، انحاز أردوغان للتغيير الذي صاحَب الربيع، مما أكسبه شعبية كبيرة في الإقليم، ولكن مع انهيار فصل الربيع العربي سريعًا، بدأ مسار الرجل في الاهتزاز، خاصةً أنه بسبب انحيازه للربيع تداخلت موجة من العداء الاقليمي والدولي ضده، مما تسبَّب في تصدُّع إستراتيجيته في تصفير المشكلات مع الجيران، واهتز الاقتصاد التركي، كما اصطدم أردوغان مع القوى الكبرى كروسيا والولايات المتحدة مع انتقاله إلى مرحلة التدخل في صراعات الإقليم وايجاد موطئ قدم لتركيا، سواء في النزاع المتفجر بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناجورنو كارباخ، أو الصراع في ليبيا.

فالعنصران اللذان يحكمان توجُّهات أردوغان، ألزَمَاه أن يُجري مراجعات في مراحل إستراتيجيته؛ ليتوقف اندفاعه في قطع مراحلها، ليعود إلى مربع محاولة تصفير المشكلات من جديد.

سمات التدخل التركي العسكري

المتابع لتدخلات تركيا العسكرية في العالم يُلاحظ أنها تتميز بعدة خصائص:

أولى هذه الخصائص، هي أنها لا تحاول كسر قواعد اللعبة الدولية، أو بمعنى أدق أنها لا تصطدم بمصالح القوة الكبرى في العالم، بل أحيانًا تكون برغبة غير مُعلَنة من تلك القوة الكبرى العالمية.

ثاني هذه الخصائص، أن التدخل العسكري لا يتم إلا برضا طرف من أطراف الصراع في المنطقة التي يجري فيها، على أن يتمتع هذا الطرف بالشرعية الدولية، فيتم إبرام معاهدة قانونية أو اتفاق مُعلَن معه يُتيح لتركيا هذا التدخل.

ثالث هذه الخصائص، أن تكون للدولة التركية مصلحة في هذا النزاع مرتبطة بأهداف اقتصادية أو جيوسياسية مباشرة.

فالتدخل التركي في ليبيا كان مثالاً حيًّا على تطبيق تلك الخصائص:

ففي أثناء الحرب الدائرة بين خليفة حفتر في الشرق وحكومة الوفاق الوطني بزعامة فايز السراج، وهي الحكومة الشرعية والمعترَف بها مِن قِبَل الأمم المتحدة؛ حاول حفتر حسم المعركة والاستيلاء على طرابلس، وبالرغم من التدخلات الإقليمية، والتي جرت لصالحه؛ إلا أنه قد استعان بروسيا لتسهيل احتلال العاصمة، والتي أرسلت إليه قوات مرتزقة فاغنر بتمويل إماراتي.

وحُوصِرَت طرابلس، وكادت تسقط في أيديهم بالفعل، لولا مسارعة السراج لزيارة تركيا، فطلب الأتراك منه عقد معاهدة عسكرية، تُمنَح تركيا بمقتضاها الحق في استخدام المجال الجوي الليبي والمياه الإقليمية الليبية، إضافةً إلى بناء قواعد عسكرية على أراضيها، علاوةً على نشر قوات في ليبيا؛ إذا طلبت حكومة طرابلس ذلك.

وكذلك تم إبرام معاهدة لترسيم الحدود البحرية، نتج عنها توسيع تركيا لحدودها البحرية، وبالتالي زاد الأتراك من احتمال حصولهم على حصة معتبرة من غاز المتوسط؛ فقد سمح الاتفاق البحري لتركيا بالتنقيب عن الغاز مع المؤسسة الوطنية للنفط بالشمال الغربي لليبيا.

وبالفعل، فقد حسمت المُسيَّرات التركية الحرب حول طرابلس، ومنعت الفاغنر وميليشيات حفتر من الاستيلاء عليها، بل واصلت قوات حكومة الوفاق بمساندة جوية وبتنسيق خبراء عسكريين أتراك على الأرض تقدُّمها، فحرَّرت مدن الغرب الليبي كله من حصار ميليشيات حفتر، واستردت أكبر قاعدة جوية ليبية، وهي قاعدة الوطية.

وعندما حاولت القوات الليبية بالمساندة التركية اختراق مدينة سرت وقاعدة الجفرة، زادت روسيا من دعمها لفاغنر بإرسالها طائرات روسية حديثة، وهنا أدركت تركيا أنها ستدخل صدامًا حقيقيًّا وموسعًا مع الروس، فتوقفت.

ويبدو أن الولايات المتحدة قد سكتت عن التدخل التركي لأنه جاء على الهوى الأمريكي، وربما أرادت منه التوسع أكثر ليصطدم الروس بالأتراك، وقد ظهر ذلك في زيارة قائد منطقة أفريكوم العسكرية الأمريكية للقاهرة، للضغط عليها لتتراجع عن تصريحات وتهديدات أطلقتها القاهرة للأتراك بأن سرت والجفرة خط أحمر.

وبذلك نرى أن التدخل التركي في ليبيا، قد سار وفق القواعد الثلاث السابقة؛ فقد أضفى على نفسه صبغة قانونية بإبرامه معاهدة مع حكومة شرعية معترَف بها دوليًّا، وفي نفس الوقت لم يحاول كسر قواعد اللعبة الدولية في ليبيا، ولم يصطدم بالقوى الكبرى، كما استطاع عن طريقه تحقيق مصالح اقتصادية وإستراتيجية للدولة التركية.

تركيا وغزة

هل الحرب في غزة ينطبق عليها شروط التدخل التركي العسكري والتي ذكرناها سابقًا؟

سنحاول أن نُطبّق تلك الشروط الثلاثة على الوضع في غزة:

أولًا: بالنسبة لتوافق التدخل العسكري مع قواعد اللعبة العالمية، نجد أن وجود دولة الكيان الصهيوني هو في الأساس جزء من ثلاث إستراتيجيات تاريخية كبرى يستخدمها الغرب لضمان استمرار هيمنته على المنطقة العربية، بجانب تفتيت المنطقة إلى دول، وفرض أنظمة موالية، وورثت الولايات المتحدة هذا الإرث التاريخي عندما آلت إليها زعامة الغرب في منتصف خمسينيات القرن الماضي.

ولذلك تداعى الغرب وعلى رأسه أمريكا لنجدة الكيان، عندما هاجمت حركة حماس والفصائل الفلسطينية غلاف غزة في طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي؛ حيث حاصرت الأساطيل البحرية الغربية شواطئ غزة وفلسطين، وأقيمت الجسور الجوية لإمداد جيش الكيان بمختلف أنواع الأسلحة والقذائف الفتاكة.

وكان المقصود بهذا الحشد والإمداد، ومن بين أهدافه، توصيل رسالة زَجْر وتهديد لمن يَعنيهم الأمر أو تُسوّل له نفسه من الدول الراغبة في التدخل لنجدة الفلسطينيين ومؤازرتهم.

ولا شك أنه ربما كانت الدولة الوحيدة التي حدّثتها نفسها بالتدخل هي تركيا.

فكانت رسالة مباشرة لها بأنه إذا حاولت المساعدة العسكرية، حينها ستُجابه قوات وأساطيل خمس دول كبرى، وهي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فالتدخل العسكري التركي سيُعتَبر في هذه الحالة كَسرًا لترتيبات دولية عالمية مستقرة منذ أكثر من قرن، وهذا يُفسِّر سر الاستفراد الصهيوني الوحشي بأهل غزة، وحملة الإبادة التي يمارسها الكيان بلا خوف من رقيب أو حسيب.

كما أن روسيا والصين، وهي القوى الكبرى الأخرى المناوئة للمنظومة الغربية، وبالرغم من استفادتها من طوفان الأقصى، والذي جلب الحشد والاهتمام الغربي وأبعده عن التركيز معها، فإنها أحجمت عن المساعدة أو تقديم دعم حقيقي لصالح المقاومة، فيما يبدو بسبب علاقة تلك الدول المتشعّبة مع الكيان الصهيوني، وتداخل كثير من الملفات بينهم.

ولذلك فإن أيّ دعم عسكري تركي سيُجَابه بقسوة من جانب القوى الغربية، وسيُعتَبر تدخلًا في مصالح إستراتيجية غربية حقيقية، كما أن ارتكان تركيا لقوة كبرى أخرى كروسيا والصين صار أملًا بعيدًا.

أما الشرط الثاني، والذي يتعلق بالتحالف مع طرف من أطراف الصراع له شرعية دولية، فبالرغم من العلاقة الوطيدة بين تركيا وحركة حماس، إلا أن حماس حركة يجري اتهامها دائمًا بالإرهاب، وهي غير مقبولة دولية، بينما الشرعية الفلسطينية والمعترَف بها دوليًّا متمثلة في السلطة الفلسطينية، والتي يرأسها أبو مازن.

وطبقا لما ذكرته مصادر صحفية، فقد بذل أردوغان في بداية القصف الصهيوني جهودًا مع أبي مازن لعقد اتفاقية مماثلة كالتي عقدها مع رئيس الحكومة الليبية فايز السراج، ولكنَّ «أبو مازن» يرتبط أكثر بالحكومة الصهيونية، فهي التي تدفع رواتب موظفي السلطة وأجهزتها الأمنية.

كما حاول وزير الخارجية التركي فيدان في جولةٍ له في بدايات الحرب تحقيق تعاون عسكري مع الأردن ومصر لصالح الفلسطينيين، ولكن سَعْيه قُوبِلَ أيضًا بالرفض.

هنا توصلت القيادة التركية إلى أنه ليس في استطاعتها تقديم الدعم العسكري لوقف الحرب على غزة مؤقتًا، واقتصر دعمها على المعونات الإنسانية، والدعم الدبلوماسي، والمقاطعة الاقتصادية والتجارية مع دولة الكيان.

ولكن هذا الفعل المؤقت لا يعني توقف الحكومة التركية عن البحث ومحاولة دعم الفلسطينيين، فالسفير الصهيوني السابق في تركيا ألون ليل يقول: «صحيح أنه من غير المرجَّح أن ينخرط الجيش التركي في صراع مسلح مع إسرائيل بعد تهديد أردوغان، لكن علينا أن نأخذ تهديدات أردوغان الخطيرة على محمل الجد».

ويتوقع هذا السفير أن أردوغان سيقوم بزيادة المساعدات العسكرية للفلسطينيين، سواء حماس أو أولئك الذين يعملون في الضفة، وعلى حد كلامه فقد بنى أردوغان سابقًا لهم معسكرًا في تركيا بغرض التدريب العسكري وتهريب الأسلحة، وتحويل الأموال بغرض شراء الأسلحة، بل إن الأتراك -وفق كلام السفير الصهيوني- يحاولون تنفيذ هذا عبر الحدود المصرية، خصوصًا بعد تحسين علاقتهم بمصر.

أعلى