الخبز القاتل

بعد ستة أشهر من تلقّي هذا الخبر رُزقت صفية بتوأمين كأنهما البدر في إشراقه واستدارته، لم تسعه الدنيا من الفرح، أغلق ورشته لأسابيع وأطلق يديه بالهدايا والصدقات، لكنَّ الصغيرين الوديعين لم ينعما كثيرًا بالفراش الوتير والحنان الغامر


وضع يده المعروقة على حافّة الخيمة ليزيح الستار، وقبل أن ينفلت إلى الخارج استدار ليُلقي نظرة على صفية، وهي تحتضن الصغيرين: هِداية وعمر.

لم تكن صفية نائمة ساعتئذ، بل كانت تتظاهر بذلك؛ حتى لا تنكأ جراحه، لم يَعُد يقوى على النظر في عينيها، وهو يَعرف أنه لا يستطيع حمايتها ولا مغازلتها.

لقد تغيَّر كثيرًا في بضعة أشهر فقط، صار عصبيًّا بشكل مخيف، يثور لأتفه الأسباب، كل شيء صار يُثيره ويستفزّه، حتى حركات يديه وهو يتكلم صارت عصبية قوية، حتى يخال مَن يراه من بعيد أنه بصدد عراك حادّ، وكان قبلُ مضربَ المثل في الهدوء والسكينة، كانوا يقولون له في بلدته: «لن تشيخ زوجتك يا محمد أبدًا»؛ في إشارة إلى هدوئه وحُسن تواصله، وتجاهله لما يمكن أن يكون شرارة الحزن والخصام.

كانت صفية تبتلع صمتها، وهو يصرخ في وجهها ليلة البارحة، لقد تغيَّر كل شيء في محمد، لم تعد تفهمه.

كانت فيما مضى نظرة واحدة من عينيها تستبطن دواخله، وتجوب مسالك نفسه ودروبها، حتى عندما كانت تعرف أنه يكذب أو يراوغ تمسك بوجهه بكلتا يديها، وتقول له -بحُبٍّ غامر-: «إنك يا محمد تتكلم بعينيك أكثر مما تتكلم بشفتيك، عيناك عدوّك يا محمد، إنهما تفضحانك يا سيد الرجال».

وحين كانت تحاصره يرسل ابتسامة براءة وإقرار، ثم يدلف إلى غرفة النوم، ويستلقي على قفاه واضعًا يديه أسفل رأسه، فيخاطب صفية، دون أن يلتفت إليها، فقد كان يعرف أنها تتبعه إلى الغرفة على مألوف العادة كلما عاد من الورشة لتناول الغذاء: «والله يا صفية يكفيني من هذه الدنيا طفل يملأ البيت صراخًا وضجيجًا»، يقول ذلك وهو يرسل نظره نحو سقف الغرفة.

لقد مر على زواجهما ثماني سنوات دون أن يُرْزِقَا بمولودٍ، وقد جرَّبت عقاقير الأطباء وخلطات عطار الحي، ونذرت لله ألف نذر، دون أن يتحقق مبتغاها في الذرية الصالحة، وكانت حين تسمع منه ذلك تبتلع غُصّتها وتداري دمعتها، وهي تتكلف ابتسامة متألقة تعقبها بقولها: «سيحدث إن شاء الله يا محمد سيحدث». لكنه سرعان ما ينتبه إلى إحياء الجرح القديم، فيمسك عن الكلام المباح، ويضمّها إلى صدره فتجهش بالبكاء.

لم ينتبه إلى أنه صار يُكثر الكلام في شأن الأولاد، كان حريصًا على ألَّا يجرحها نسيم الصباح، فما الذي وقع حتى ما عادت تعرفه، بل كأنها تُنكره على الجملة، لا، ليس هذا محمد الذي عرفته وسلكت معه مسالك الحياة، وخاضت وإياه مغارم الدنيا ومغانمها، لقد فعلت فيه الأحداث الأخيرة فعلتها، وغيَّرت منه ما عجزت السنين الطوال عن تغييره، كل شيء تبدل فيه، لكن شيئًا واحدًا ظل ثابتًا لم يتغير ولم تنل منه نوائب الشهور السابقة رغم ثقلها: علاقته بابنيه (هداية وعمر)، كان يُمحّضهما الحب، ويعطف عليهما بحدب منقطع النظير، كانا فعلاً قطعة من قلبه، أورقا في حياته إيراق الربيع، وولَّدا فيها معاني الجدة والعظمة، فقد وُلد من جديد بولادتهما، كأنه طفل يكتشف الحياة من حوله، كل يوم هو شيء جديد، الشمس في ذهابها وإيابها، القمر في استدارته، الخربشات على جدران بيوت الحي، النجوم في سمائها، الحيوانات في مرابعها، النباتات في ضفاف الوديان.. أصوات الصغار وهم يرتعون قرب ورشته.. حتى أزيز المروحيات التي اعتادت التحليق في الأجواء لم تعد معتادة كما السابق، بل صار يتوجّس منها خيفة لسببٍ غامضٍ، أصبحت تثير فيه مشاعر هي مزيج من القلق والرهبة والتوجس، وقد كان قبل ذلك لا يسمع لها صوتًا.

ما يزال الصوت الرخيم يدغدغ سمعه حين أخبرته الطبيبة أنه سيستقبل عما قريب مولودًا ذكرًا، وقالت له -مداعبةً-: إنه يبدو سمينًا.

بعد ستة أشهر من تلقّي هذا الخبر رُزقت صفية بتوأمين كأنهما البدر في إشراقه واستدارته، لم تسعه الدنيا من الفرح، أغلق ورشته لأسابيع وأطلق يديه بالهدايا والصدقات، لكنَّ الصغيرين الوديعين لم ينعما كثيرًا بالفراش الوتير والحنان الغامر، ووجد محمد نفسه فجأة يردد مع أهل بلدته «دوام الحال من المحال»، فقد أغطش الليل، وتجهَّم الواقع، وتبدَّد الحلم، ودارت الأيام دورتها، فأصبح يقطن الخيمة بعد المنزل العامر، وكان ذلك بداية التحول.

نظر إليها، وهي تحتضن الولدين، ثم غادر الخيمة.

خرج يستطلع الأمر بعدما سمع جلبة في الخارج، كان الناس يخرجون من خيامهم فرادى وزرافات، بما فيهم الأطفال، وكانوا يتنادون إلى اللحاق بالأشرعة الطائرة المحمَّلة بالمؤونة والمساعدات الغذائية، خرج محمد في إثرهم والغصَّة تنهشه، لم يعتد الإذلال في حياته كلها، لكنه الآن مُكرَه ليتنازل عن جزء من كرامته في سبيل إطعام أُسرته الجائعة، الجوع كافر، والصبر له حدود ينتهي إليها، ثم إنه واحد من هؤلاء المهرولين، فقد أصابه ما أصابهم، وناله من الإعياء النفسي ما نالهم، لقد كانت أيامًا شديدة الوطء، أكلوا فيها أعلاف الحيوانات والحشائش على مائدة واحدة مع الكلاب الهزيلة والقطط العجفاء.

كان عليه أن يتحوّل إلى شخص آخر، ينكر نفسه قبل أن تنكره زوجته، كان يظن أن الأمر سينتهي غدًا أو بعد غد، لكنَّه طال أكثر، وصبرت الأسرة أكثر، وتنازل عن كرامته أكثر.

 طالما ذكَّرته صفية أن الوطن والأرض هما الكرامة، أما بحبوحة العيش في غيابهما فهو الذل عينه والفقر عينه.

كانت كلماتها بلسمًا لجراحه، لكن هذا البلسم يتعطل مفعوله أمام الطفلين الباكيين الجائعين، كان يتهاوى أمامها تمامًا.

كان عمر وهداية إشراق الحياة ومصدر الطاقة والقوة، والآن هما نقطة الضعف.

 آه يا صفية الحياة سهلة يسيرة لولا هاته التي يسمونها الكرامة، الإنسانية مرهونة بها، وكيف يكون الإنسان إنسانًا بدونها؟

اجتاحته هذه الخواطر، وهو يخطو بثبات وتؤدة ليلحق بالشراع المُحمَّل المساعدات الغذائية، ثم صار الخطو هرولة، وصارت الهرولة جريًا، وتَلَفُّتًا عن اليمين والشمال، وتعلّق النظر بالسماء دون تَبَيُّن مواطئ القدم الراكضة؛ إذا أبطأ الشراع أبطأ محمد، وإذا أسرع الشراع أسرع محمد، كان يبدو كمن سُلبت إرادته، كانت حركته وهو يتبع المعونة تخفّ شيئًا فشيئًا، وفكَّر أن الجوع فعلاً كافر، وأنه ينبغي ألا يكون حالمًا مثاليًّا، بل عليه أن يتحلّى بالقليل من الواقعية، المهم الآن أن يتحصل على الطعام الهارب الطائر، ثم بعد ذلك لكل حادث حديث.

أثقل الرمل حركة رجليه فتخلَّص من الحذاء، ثم نشطت حركته، واتجه ناحية الشمال، وعيناه لا تفارقان كيس الطعام، وقد بدأ الشراع يقترب من الأرض أكثر، والأقدام تتزايد وتتزاحم أكثر فأكثر، والأصوات تعلو شيئًا فشيئًا، والأسارير تنبسط رويدًا رويدًا، والأعين شاخصة متحفزة.

وأخيرًا انتفش الشراع وسقطت الحمولة، فأفسحوا لها المكان كعروس ينتظرها أهل العريس ليتعرفوا الوافد الجديد، كانت الأعناق تشرئب والأقدام تُقبل وتُدبر، فتلألأت الأعين وأنارت الوجوه وعلت التكبيرات، ثم استحالت التكبيرات إلى حوقلة، وبدأت الفرحة تغور والابتسامات تضيق، وتَحلَّق الجمع حول كيس المعونة، ثم عم الصمت الأجواء.

حاول محمد تبيُّن حقيقة ما يقع فاخترق الجمعَ مستعينًا بلسانه تارة، وبمنكبيه تارة أخرى حتى توسط الدائرة، وقد أخذه العجب حين رأى الكيس بيدين ممتدتين ورجلين، ثم تحول العجب إلى جرح غائر هدَّ كيانه هدًّا، حين رأى خطا من الدم الأحمر ينساب أسفل الكيس، ويسيح في المكان شيئًا فشيئًا.

همس إليه طفل صغير بعدما رأى أمارات التساؤل تكسو ملامح وجهه: «لم يكن الرجل العجوز خفيف الحركة بما يكفي ليتفادى الكيس الساقط»؛ انفضَّ الجمع زاهدين في الغنيمة، وقفلوا راجعين يجرون أذيال الخيبة والحسرة.

ومضى محمد في طريق الخيمة صامتًا لا يعرف أيأسى على العجوز الذي دفع حياته ثمن كيس مؤونة أم يأسى على أطفال جياع لعل سلطان النوم غلبهم وهم يُمنّون النفس بكسرة خبز مملحة؟!

رجع حزينًا كاسف البال، منكسر الخاطر.

وفي طريقه سمع صوتًا واهنًا يناديه من ورائه، فالتفت ليجد يدًا ممدودة ببعض قِطَع الخبز والسمك المعلب، افترَّ ثغره عن ابتسامة باردة برودة الصقيع، وشكر للرجل فَضْل كرمه وجميل إيثاره.

ثم واصل طريقه وقد لاحت في مخيلته صورة ابنيه، فحثَّ السير بخطوات أقوى من ذي قبل.

ولما صار قريبًا من الخيام سمع أصواتًا مختلطة ولمح دخانًا متصاعدًا، وأزيز الطائرات يعمّ المكان كأنها القيامة قد قامت بأهوالها، استجمع ما تفرَّق من قوته، وانطلق كالسهم نحو الخيمة، فوجدها قد استحالت رمادًا، وغير بعيد عن الخيمة تحلَّق الناس حول ثلاث جثث، قيل: إن مُعيلهم خاف عليهم الموت جوعًا فخرج يبحث لهم عن غذاء.

أعلى