خيارات النظام السوري:  هل يُغيِّر من تحالفاته؟ وماذا عن إستراتيجياته؟

وفي المرحلة الثانية، سيجري تحريك كتل هائلة من السكان باتجاه سوريا، لإرباك التشكيل السكاني لمناطق سيطرة النظام إلى حدّ تهديد استقرار النظام في العاصمة دمشق.


تدخل سوريا مرحلة جديدة مختلفة من الصراع المتواصل منذ عام 2011م؛ بسبب التغييرات الحادثة في الإقليم، وعلى الصعيد الدولي ما بعد طوفان الأقصى. تلك المرحلة الجديدة تطرح على النظام السوري قضايا وخيارات أصعب من كل ما مر َّ به من قبل.

لكنّ المفارقة، أن النظام مضطر لمواجهتها بذات الإستراتيجية التي تعامل بها من قبل. لقد اعتمد النظام السوري منذ أن انطلقت الأحداث والصراعات الداخلية التي كادت أن تؤدي إلى سقوطه، إستراتيجية فتح سوريا أمام الوجود العسكري الإقليمي والدولي لدول حليفة له، وعدم التصدي عسكريًّا للدول الأخرى التي دخلت بقواتها غزوًا للأرض السورية، ومِن ثَم قام باعتماد سياسة الحركة المحسوبة بدقة بين تناقضات مصالح الدول الإقليمية والقوى الدولية الموجودة عسكريًّا على الأرض السورية.

بشكل دقيق، حوّل النظام الصراع الداخلي إلى صراع دولي وإقليمي على الأرض السورية، وبات يتحرك بين التناقضات التي نشأت على الأرض السورية لتحقيق بقاء النظام واستمراره. 

وتتشكل الآن مرحلة جديدة من الصراع.

فالكيان الصهيوني، كان قد اكتفى طوال السنوات الماضية بالتدخل غير المباشر في الأحداث الداخلية، وبتركيز الضربات الصهيونية على الوجود العسكري الإيراني والميلشيات التابعة لها، وقطع إمدادات السلاح عن ميلشيا حزب الله في لبنان.

لكنّ المؤشرات تُظهر حدوث تغييرات في خططه، وأنه بات يتحوّل إلى إستراتيجية التدخل المباشر، وهو ما دفَع كلًّا من روسيا وتركيا للتحذير من أن الكيان الصهيوني بات يستهدف احتلال دمشق وتفكيك سوريا، وأن إطلاقه الحرب على ميلشيا حزب الله هو بداية وتمهيد لتنفيذ تلك الخطط.

كما بات الوجود الروسي والأمريكي التركي والإيراني في موضع حراك جديد على الأرض السورية، على خلفية المعارك الجارية في لبنان، وما أحدثته من تغييرات في علاقات تلك الدول الموجودة عسكريًّا على الأرض السورية؛ إذ تتغير العلاقات الروسية الصهيونية من جهة، والإيرانية الأمريكية-الصهيونية، من جهة أخرى، كما تشهد المواقف التركية تجاه ما يجري من أحداث، تحولات جديدة. وهو ما يعني أن هناك حركةً تجري لإعادة إنتاج وضعية جديدة في الصراع الدولي والإقليمي الجاري في سوريا.

لقد قام نتنياهو بتغيير أهداف الحرب باتجاه لبنان بعد ساعات من نجاح القوات الجوية الصهيونية في قتل قادة ميلشيا حزب الله. فقد تحدَّث نتنياهو عند إطلاق الحرب عن سبب داخلي يتعلق بإعادة المستعمرين الصهاينة -الذين جرى إجلاؤهم من مستوطنات الشمال خلال ما سُمِّي بعمليات إسناد غزة-؛ ولكن فور نجاح الضربات الأولى، عاد نتنياهو وتحدث عن تغيير التوازنات في المنطقة.

وهو ما دفَع المراقبين للقول، بأن المعنى الذي قصده نتنياهو لا يتعلق فقط باتجاه لبنان فحسب؛ لإنهاء أو إضعاف قاعدة إيران المتقدمة هناك، وإضعاف إيران إلى درجة التلويح بتغيير نظامها السياسي، بل بالأساس باتجاه سوريا، باعتبارها الدولة المانعة لإحداث التغييرات التي تحدث بها نتنياهو، ولأن التغيير في سوريا، تهيأت أسبابه؛ فهي صاحبة الموقع الإستراتيجي، وهي دولة تعاني من هشاشة أوضاعها السياسية والعسكرية إلى درجة أنها تبدو جاهزة للتقسيم، ولأن ذلك وحده ما يُعيد ترتيب التوازنات التي يستهدفها الكيان الصهيوني. وأيضًا لوجود قوات دولية وإقليمية متعددة على أرضها، بما يُتيح للكيان الصهيوني القدرة على إرباك المعادلات القائمة على نحو مباشر.

ولقد قامت القوات الصهيونية باستهداف الوجود الروسي في الشمال الغربي لسوريا. وشنَّت الطائرات الصهيونية هجومًا غير مسبوق على طرطوس، وكان المستهدَف نقطة الدعم اللوجستي رقم 720 للبحرية الروسية، المهمة للغاية، باعتبارها قاعدة الخدمات اللوجستية والإمدادات للمجموعة الروسية في الشرق الاوسط، كما هي بمثابة محور ارتكاز للعلاقات الاقتصادية بين روسيا وسوريا وخارجها. وهو ما يُغيِّر معادلات الصراع المستقرة بين القوات الأجنبية الموجودة على الأرض السورية.

كما زادت القوات الصهيونية من عمليات القصف للأراضي السورية، ووسَّعت رقعتها لتشمل مناطق مدنية من جهة والقوات العسكرية السورية من جهة أخرى، فضلاً عمَّا قامت به من تكثيف الضربات ضد الوجود الإيراني والميلشيات التابعة لها. والأخطر أن القوات الأمريكية المحتلة لشرق سوريا -ومناطق استخراج النفط تحديدًا- باتت في وضع الاستنفار الأقصى تحسبًا لاحتمالات تطوُّر الصراع الإيراني الصهيوني.

وقد نتج عن الأعمال العسكرية الصهيونية ضد ميلشيا حزب الله، أن ضعفت قدرات الحزب ويجري تداول تقديرات بأن الحزب سيضطر لسحب قَدْر مهمّ من قواته التي لعبت الدور الأخطر في حماية النظام، تحت ضغط توسُّع المعارك البرية؛ إذ طوَّر الجيش الصهيوني عملياته العسكرية من القصف الجوي إلى الغزو البري، وتقدّم في الأراضي اللبنانية.

والأخطر أن ملامح الخطة الصهيونية في الحرب على لبنان، باتت تظهر أن أعمال القصف والتدمير الجارية تستهدف في المرحلة الأولى، تحريك السكان في داخل الجغرافيا اللبنانية لإحداث ضغط اجتماعي على الميلشيا وحلفائها، ولذا جرى قصف المعابر مع سوريا، ودفع الأوضاع اللبنانية للدخول في أتون حرب أهلية عبر تطوير التدافع السياسي والسكاني بين الطوائف والميلشيات.

وفي المرحلة الثانية، سيجري تحريك كتل هائلة من السكان باتجاه سوريا، لإرباك التشكيل السكاني لمناطق سيطرة النظام إلى حدّ تهديد استقرار النظام في العاصمة دمشق.

مرحلة تحاشي الاشتباك

يصح القول بأن الموقف الرسمي السوري، اعتمد سياسة تحاشي الاشتباك خلال الهجمات الصهيونية المتواترة طوال السنوات الماضية؛ إلا في حالات نادرة، وأنه اتخذ الحد الأدنى من معطيات الموقف الدفاعي السلبي الذي يتحاشى الرد على الهجمات الصهيونية بشكلٍ فعَّال، قد يدفع إلى توسع حالة الاشتباك، وأن النظام اعتمد سياسة الصمت المطبق والتفادي التامّ لأيّ اشتباك مع القوات الأمريكية التي تحتل شرق سوريا، وتقيم قواعد لها، وتمنع النظام السوري من الاستفادة من آبار الطاقة في تلك المنطقة.

وهي سياسة مختلفة بصورة كلية عن السياسة التي اعتمدها في مواجهة الجماعات السورية المسلحة التي تشكَّلت عقب اندلاع ثورة 2011م.

لقد شنَّت القوات الصهيونية أعمال قصف منهجية للوجود الإيراني في سوريا ولوجود ميلشيا حزب الله لعدة سنوات، كما جرت أعمال قصف لمناطق وقواعد عسكرية للجيش السوري ومصانع السلاح في سوريا، لكنَّ النظام نظر لما يجري باعتباره حالة جانبية وواصل التركيز على ما اعتبره الخطر الإستراتيجي على بقاء النظام، أي الجماعات السورية المسلحة والمعارضة.

وتوضح ملابسات تلك المرحلة أن النظام السوري كان ينظر لجبهات دمشق والوسط والشمال الغربي أو الساحل -وهي في الأغلب ما وصفه الرئيس السوري بسوريا المفيدة-؛ باعتبارها المُهدّد المباشر لبقاء النظام واستقراره، ورأى النظام أن حفظ الاستقرار في تلك المناطق هو ضرورة قصوى لبقاء النظام. وهو توجُّه كان باديًا في خطة العمليات التي جرت لعدة سنوات. لقد جرى التركيز في الحرب على وجود المجموعات المسلحة قرب دمشق وفي محيطها ومناطق وسط سوريا وصولاً إلى الحدود مع لبنان، كما جرى التركيز على استقرار منطقة الساحل التي تُشكّل حاضنة للنظام، وكذا الشمال الغربي من سوريا.

وهنا كان تدخل ميلشيا نصر الله بارزًا؛ بدءًا من معركة الإبادة الحضارية الشاملة التي جرت بمدينة القصير على الحدود السورية اللبنانية، وصولاً إلى ما جرى من أعمال مطاردة اللاجئين السوريين والمجموعات المسلحة في الشمال الشرقي للبنان، في منطقة جرود عرسال.

واعتبرت المعركة في القصير حاسمة لكلٍّ من النظام وميليشيا نصر الله؛ إذ السيطرة عليها كان الطريق لربط حمص ودمشق، وتعزيز السيطرة على حمص وتأمين الطرق لحركة قوات الجيش إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط وميناء طرطوس. ونظرت لها ميلشيا حزب الله باعتبارها إثبات لمدى جدية تدخُّلها إلى جانب النظام، ولتأمين حركة مجموعات الحزب بين الحدود وحركة وصول الإمدادات من إيران، فضلاً عن الدافع الطائفي لتهجير السُّنَّة. وجرى إكمال نتائجها بإشعال وحسم معركة جرود عرسال لحماية البقاع من تأثير المجموعات السورية المسلحة.

وبعدها جرى التركيز على معركة حلب باعتبارها العاصمة الاقتصادية للبلاد.

وفي ذلك لجأ النظام إلى التسويات -تحت الضغط- في مناطق جنوب سوريا، كما تجنَّب الاشتباك مع القوات الأمريكية الموجودة في المناطق الكردية في شرق سوريا. وانتهى الأمر في الشمال إلى دَفْع السكان السُّنة وبقية المجموعات العسكرية إلى إدلب، مع ترك الصراع مع تركيا للجانب الروسي، كما امتنع النظام على نحوٍ واضحٍ عن التدخل العسكري في الصراع الذي تفاقم عدة مرات بين الجيش التركي والمجموعات الانفصالية الكردية.

تطورات إستراتيجية متعددة

يبدو الآن أن مرحلة «الاستقرار» التي شهدتها جبهات الصراع خلال العامين الماضيين قد انتهت. لقد توقفت فعاليات اكتساب الأرض على جبهات الصراعات المتعددة في داخل الجغرافيا السورية، ولم يكن نشطًا سوى أعمال القصف الصهيوني التي جرت في مناطق متعددة في سوريا تحت عناوين تتعلق بالوجود الإيراني الرسمي والميلشياوي.

لكنّ الأمور باتت تتغير، بعد إطلاق فعاليات طوفان الأقصى الفلسطيني، التي أحدثت تغييرات حادة في البيئة الإقليمية. لقد أصبحت دول الإقليم -بل حتى الدول الكبرى- في حالة اشتباك سياسي وعسكري، وكان الأهم أن الصفّ الذي اصطف فيه النظام تحت مسمى محور المقاومة بات في موضع الاشتباك العسكري.

وإذ كان العالم كله يرتج ويعجّ بالتحركات العسكرية والسياسية والديبلوماسية؛ فقد لاحظ الجميع أن النظام السوري، لاذَ بالصمت الشامل.

لاحظ المتابعون أن النظام الذي كان يتردد إيرانيًّا، ومن ميلشيا حزب الله، أنه أحد أركان محور المقاومة، لم يعد أحد يأتي عليه بذِكْر مِن قِبَل مكونات هذا المحور.

لكنّ الأمر الأشد لفتًا للأنظار الآن، أن الجميع يتحدث عن سوريا وما ستواجهه، إلا النظام.  الوضع بشأن سوريا بات يشهد حوارات وصراعات كبرى، لكن النظام لا يُصدر أيّ تعليقات.

لقد تحدثت الدوائر الرسمية التركية عن خطة صهيونية للغزو والاحتلال العسكري للأراضي السورية، وعن اعتزام الكيان الصهيوني فتح ممر -سُمِّي بممر ديفيد- لوصل الجولا ن المحتل بالمناطق الكردية في شرق سوريا. ووصلت جدية التقدير التركي لهذا الاحتمال، أن قرر البرلمان التركي عقد جلسة طارئة سرية لمناقشة ما لدى الإدارة التركية من معلومات حول دخول القوات الصهيونية لسوريا، والمخاطر المترتبة على وصول القوات الصهيونية إلى الحدود مع تركيا.

وتحدثت دوائر روسية عن اعتزام الكيان الصهيوني إرباك وضع النظام في دمشق عبر الدفع بمجموعات سكانية من لبنان باتجاه سوريا، وأن الكيان الصهيوني ذاهب لإسقاط نظام الأسد وتقسيم سوريا. ولم يُعلِّق النظام حتى على التقارير الروسية.

وقد فسّرت دوائر سياسية وإستراتيجية الخطة الصهيونية المعلَنة بإحداث تغييرات في البيئة الإقليمية، وما ظهر من عمليات تهجير للسكان من جنوب لبنان والضاحية الجنوبية والحديث المتنامي عن احتمالات اندلاع حرب أهلية في لبنان؛ باعتبارها مقدّمة لإحداث التغيير والتقسيم للسكان بين لبنان وسوريا على أساس التقسيم الطائفي، وإنشاء دويلات متنافرة في سوريا ولبنان؛ أي إعادة تقسيم البلدين. ولم يُعلِّق النظام على كل تلك التوقعات والتقديرات، بل التزم الصمت المطبق!!

خيارات النظام السوري

الأسئلة تتكاثر الآن حول خطط النظام السوري في مواجهة الخيارات الصعبة أو شديدة الصعوبة التي تتشكّل حوله، وفي داخل سوريا؛ حيث الجيش السوري ما يزال ضعيفًا، والحلفاء يعانون من حالة ضعف عام، وضعف على الأرض السورية بشكل خاص. بالإضافة إلى أن خطر القوى السياسية والعسكرية للمعارضة ما يزال ماثلاً.

وهناك تساؤلات حول ما سيفعله النظام تجاه احتمالات الحرب بين إيران والكيان الصهيوني؟ وحول ما سيفعله بعد أن ضعفت قدرة الميلشيات الإيرانية على مساندته؟ كما تطرح التساؤلات حول ما يملكه النظام لمواجهة احتمال غزو القوات الصهيونية للأراضي السورية؟ وماذا لو وسَّعت تركيا مِن تدخُّلها في هذا التوقيت الحَرِج تحت عنوان الدفاع الاستباقي، تجاه احتمالات تهديد أمنها القومي؟

هل يُغيِّر النظام سلوكه أم سيظل يعتمد الصمت؟

يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها بالقول: إن النظام سيظل يعتمد إستراتيجية الحركة بين القوى الدولية والإقليمية. وإن النظام سيستدعي أوراقًا جديدة، أو لِنَقُل: إنه سيعيد ترتيب أوراقه الحالية عبر إدخال أوراق جديدة. دون أن يتخلى عن إستراتيجية الحركة بين القوى الدولية والإقليمية.

سيتحرك النظام في الفترة القادمة بسرعة أكبر للتفاعل مع التحرك العربي، وسيسعى لحركة أعمق باتجاه أوروبا.

لقد تغيَّر الموقف العربي من النظام إلى درجة إعادة تمثيل النظام في الجامعة العربية، وإن كان النظام قد تلكأ قليلاً في التفاعل مع الموقف العربي؛ مراعاةً للموقف الإيراني ولاستمرار مساندة الميلشيات الإيرانية له، فالأغلب أن النظام سيتحرك بفاعلية أكبر بحكم ضعف إيران وميلشياتها. لكنه لن يُفلت يده الممسكة باليد الإيرانية. والأغلب أن النظام سيصل إلى معادلة تسمح له بالالتقاء مع الموقف العربي، مع استمرار العمل مع إيران وميلشياتها؛ ليس فقط لضمان وجود حلفاء لحمايته في الداخل، بل أيضًا لضمان وجود قوة تستطيع فتح جبهة في مواجهة أي تغيير في الحركة العسكرية الصهيونية من شمال فلسطين المحتلة باتجاه جنوب سوريا. 

وسيسعى النظام السوري لتحقيق درجة ما للالتقاء مع التغييرات في الموقف الأوروبي؛ إذ تقدمت إيطاليا والنمسا وكرواتيا وقبرص وجمهورية التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا، بدعوة للاتحاد الأوروبي لتغيير إستراتيجيته تجاه سوريا، وعيَّنت سفيرًا لها في دمشق.

وسيراهن النظام السوري على عدم وجود بديل منضبط من المعارضة، وسيسعى النظام إلى المناورة بين القوتين التركية والإيرانية؛ حيث سيناور مع إيران على مصلحتها في بقاء النظام، وسيناور مع تركيا بتقليل شروطه تجاه الطلب التركي بإعادة العلاقات، وسيزيد تأكيده على العلاقات مع روسيا.

كما سيواصل النظام سياسة الصمت، وسيظل يعتمد إستراتيجية الحركة التدرجية بين القوى الإقليمية والدولية، لكن دون الإضرار بتحالفاته الحالية.

  

أعلى