حوار مع الشيخ فتحي عثمان

حوار مع الشيخ فتحي عثمان

هو الشيخ فتحي أمين عثمان، من مواليد عام 1935م، حصل على الليسانس من كلية الآداب، جامعة القاهرة، قسم التاريخ، كما حصل على دبلوم خاص في الدراسات والبحوث الإسلامية.

عمل الشيخ فتحي عثمان كمدرس للتربية العسكرية بالجامعات المصرية قريباً من خمسة عشر عاماًً، ثم عمل مديراً عامّاً للتعليم بجامعة القاهرة ثلاثة عشر عاماًً أخرى، وأخيراًً مديراً لإدارة التراث بجمعية أنصار السُّنة المحمدية بالقاهرة. ومن إنتاج الشيخ العلمي:

- مختارات من كتابات: أبي الوفاء درويش.

- قضية الأولياء ومحبتهم.

- قضية التوسل والوسيلة.

- من ضلالات الصوفية.

- سيد الخلق بشر.

- عبد الرحمن الوكيل وقضايا التصوف.

- رسائل في الشرك والبدع.

- الإمام محمد حامد الفقي (رائد السلفية في مصر).

- حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان.

- حكم الاحتفال بالمولد النبوي.

- أسباب البدع ومضارها، وأنواعها.

- من جنايات الابتداع على المسلمين.

- البيان -: شيخَنَا الجليل! يُعدُّ عملكم في جمعية أنصار السُّنة المحمدية بالقاهرة كمديرٍ لإدارة التراث فيها مرحلةً أساسيةً من حبكم لتوثيق التراث الإسلامي عامة؛ وخاصة تراث جماعة أنصار السُّنة؛ فما سبب إنشاء مركز التراث داخل الجماعة؟

 نظراً للفارق الزمني الكبير بين الجيل الأول لنشأة أنصار السُّنة وعلمائها؛ والأجيال المعاصرة؛ حيث تعرضت الجماعة لمحنة الدمج في الجمعية الشرعية، وتفرق علماء المرحلة الوسيطة، ولما أعيد كيان الجماعة مرة أخرى – بحمد الله - كان همُّها إعادة بناء دارِ الجماعة؛ وكذا فروعها، وقد وجدنا أن وثائق الجماعة قد اندثر كثير منها؛ غير بقيةٍ من الكتب، وبعض الكتابات في بيوت أفراد الجماعة على نحوٍ متفرق؛ نظراً لذلك فقد وجدنا أن علينا إنشاء مركزٍ للتراث، يهتم بكل أنواع تراث الجماعة: من كتب وأبحاث، وحتى المقالات التي نُشرت في أماكن متفرقة، وغيرها من تخصصات المركز التي جاءت فيما بعد.

وحينما منَّ الله على الجماعة ببناء مقرٍّ لها؛ تم تخصيص دَوْرٍ كاملٍ فيه لمكتبة كبيرة، أفرغنا فيها قاعات لطلاب العلم والباحثين؛ الذين دفعتهم سلسلة التراجم التي نشرتها مجلة التوحيد إلى المجيء إلى مقر الجماعة، وزيارة مكتبتها العامة التي صارت مقرّاً لمركز التراث فيما بعد.

ومن هنا قدَّمتُ عرضاً لمجلس الجماعة بأن تكون هناك إدارةٌ للتراث الخاص بعلماء الجماعة وشيوخها؛ بحيث يكون كمركزِ تخصُّصٍ دقيقٍ للباحثين في الدرجات العلمية: الماجستير والدكتوراه.

وما إن تمَّت الموافقة حتى قمنا بجمع الكتب والرسائل التي حققها أو كتبها علماء الجماعة القدامى والمحدَثُون، بل احتوى المركز على نُسَخ مما طبعته الجماعة لعلماء سابقين ولاحقين، وقامت بتوزيعه، وجمعتُ في المركز تفاسير علماء الجماعة وفتاواهم، كما أضفتُ فتاوى شيخ علماء السعودية، سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، التي قُدِّمت كهدية للجماعة من معالي حفيد الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وضمنتُها فتاوى ابن تيمية، وفتاوى دار الإفتاء المصرية، وفتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية، وهو جُهد المُقِل.

- البيان -: أكدتم - بارك الله بكم - على أن سلسلة التراجم التي نشرتْها مجلة التوحيد، هي التي دفعت طلاب العلم والباحثين إلى مركز التراث دفعاًً للوقوف على كتب وآراء علماء الجماعة في مختلـف القضـايا؛ فمتـى بدأتم في سلسلة التراجم؟ وكيف أتتكم الفكرة؟ وهل واجهتكم أي معوقات في هذا الأمر؟

 فكرة كتابة التراجم بدأت منذ عام 1415هـ، زمن رئاسة الشيخ صفوت الشوادفي – رحمه الله - لمجلة التوحيد، وإن كانت جذورها في نفسي قديمة منذ أن قرأت تراجمَ كتبها الشيخ محمد حامد الفقي عن معاصريه من العلماء، أمثال: السيد رشيد رضا، والشيخ فوزان السابق، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وما كتبه عن السابقين عندما كان يحقِّق كتبَهم.

كمـا كانــت أبـرز ترجـمة نُشرت عن الشيخ محمــد بن عبد الوهاب عام1370هـ بقلم الشيخ أبو الوفاء درويش حَبْر صعيد مصر وعالمه.

أضف إلى ذلك أنني بحكم دراستي بقسم التاريخ بكلية الآداب سـبق أن قـرأت في كـتب السـير أثنـاء مرحلة الليسانس؛ وما تلاها من دراسات عليا. ثم كان من ألـزم الأمور التي يقتضيها البحث قبل الكتابة عن الشخصيات الإسلامية؛ هي الإحاطة بمراحل حياتها، وكذلك إنتاجها العلمي، وقد توفرت لي كتب كثيرة للاطلاع عليها أولاًً في مكتبة الجامعة حيث كنت أعمل بهـا، ثم مكتبة جمـاعة أنصـار السُّنة، وكذلك مكتبتي التي كنت قد بدأت في إنشائها منذ زمن بعيد، خاصة أنني كنت قد جمعت في بيتي مجلة الهدي النبوي كاملة (13 مجلداً) واستغرق جَمعُها قرابة عشرين عاماًً. ومن أبرز الخدمات التي قدَّمها مركز التراث للباحثين، تاريخ وتراث الصحافة السلفية التي قاربت مائة عام، وخاصة مجلات: (المنار – الهدي النبوي – التوحيد).

كل ذلك ليتسنى للباحثين من خلال الاطلاع على هذا التراث أن يكتبوا عن مسيرة الكتابة السلفية، وعن الخطوط العريضة والدقيقة التي تضمها مما نُشِر فيها: من تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ حامد الفقي وتلاميذه؛ إذ إن الشيخ رشيد فسَّر حتى سورة يوسف، ثم تابع الشيخ حامد الخط فبدأ بتفسير سورة الرعد ثم إبراهيم، ثم الحجر، فالنحل، ومات بعد أن فسر إحدى عشرة آية من سورة الإسراء، وتابع بعده الشيخ عبد الرحمن الوكيل، ثم الشيخ الدكتور سيد رزق الطويل. وفي المستقبل ستجري مناقشة رسالة ماجستير بكلية (دار العلوم - جامعة القاهرة) تحت عنوان: (الشيخ محمد حامد الفقي؛ وجهوده في التفسير هو وتلاميذه).

كما تتضمن سلسلة التراجم الكتابة عن أوجه الإتقان والاختلاف بين هؤلاء المفسرين، وكيفية فهمهم لكتاب الله، تعالى.

- البيان -: كيف تعاملتم مع تراث قيادات الجماعة كالعلاَّمة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الرحمن الوكيل، وفضيلة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح، والمحدِّث البارز أحمد شاكر، والشيخ محمد عبد الحليم الرمالي، وغيرهم؟

 جرى التعامل مع تراث شيوخ وعلماء الجماعة بمنهجية عظيمة، ابتدأناها بمحورين أساسين، هما:

- المحور الأول: البحث في مكتبات علماء الجماعة المعاصرين، فقمت بكتابة رسالة ناشدت فيها أعضاء الجماعة بتقديم ما لديهم من كُتب أو تسجيلات لشيوخ الجماعة القدامى، بل ذهبت إلى بعض البلدان كسوهاج ودمياط وأسوان وغيرها من الأماكن؛ حيث يوجد بعض أعضاء الجماعة هناك الذين لديهم أعداد من مجلة الهدي، أو كتب، أو رسائل للشيوخ الكرام.

- ويتلخص المحور الثاني: في الاتصال بورثة الشيوخ أنفسهم للبحث لديهم عن تراث آبائهم؛ ويجب أن تعلم أن ثمة صعوبات جمة قابلتنا في جمع هذا التراث العظيم، ومما زاد الأمر تعقيداًً أننا عندما حاولنا إعادة نشر ما جمعناه عن طريق بعض المكتبات؛ كانت تُنشَر على استحياءٍ شديد؛ نظراًً لوجود حقوق للنشر الخاص بورثة العلماء.

وهنا برزت لديَّ فكرة عرض التراث بطريقة جديدة ليس للورثة فيها حق الامتناع أو حتى الإذن، وهي:

أولاً: تحديد عدة قضايا هامة تتعلق بالعقيدة والتصوف والفِرَق.

ثانياً: عمدت إلى ما كتبه الشيوخ حول كل قضية فجعلتها بحثاً منفصلاً؛ جمعت فيه كلَّ ما كتبه الشيوخ والعلماء.

ثالثاً: كان من أهم الأمور التي نشرناها، ولقيت رواجاًَ واستحساناً من الإخوة الأعضاء ما يلي:

عقيدة التوحيد - قضية الأولياء - قضية التوسل والوسيلة - حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان - حكم الاحتفال بمولد النبي # - مجموعات من الرسائل تحت عنوان (رسائل في الشرك والبدع)، وأهم من كل ذلك إبراز دور أنصار السُّنة في الوقوف في وجه البدع والترهات والخرافات، والرد على مزاعم الصوفية وضلالتهم.

رابعاً: جمـع ما كتبـه علمـاؤنا من أمثال الشيخ حامد الفقي، والشيخ أبي الوفاء، والشيخ أبي السمح، والوكيل، والهراس في مجلة الهدي النبوي، ويشمل ذلك التفاسير، والمقالات، والفتاوى العلمية.

- البيان -: ما هي أهم المعوِّقات التي واجهتموها أثناء رحلة البحث والتنقيب عن تراث علماء الجماعة غير مشكلة الورثة وحقوق الطبع المحفوظة؟

 من أهم المعوقات التي واجهتنا غير التي ذكرت:

1 - عدم وجود مجلة الهدي كاملة عند إنشاء المركز، فوجب علينا البحث على كامل أعدادها لتكتمل الفكرة التي قررنا أن نخطوَ خلالَها ليخرج هذا التراث للنور.

2 - ضعف التمويل النقدي لطبع كل هذه الإصدارات التي أصدرناها في المركز؛ وهو ما ألزمني حتى الآن بطبع ستة عشر كتاباًً فقط، نفدت جميعها، وقد تفاوتت فروع الجماعة في توصيلها إلى الأعضاء وغيرهم، كما قمنا بإرسال كثير منها إلى المعاهد والجامعات العلمية؛ ليتعرفوا على الجماعة، وعلى منهجها وعقيدتها، ودورها في تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد.

- البيان -: كان لشخصية الشـيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - أثر كبير في انطلاقة الجماعة ونجاحها؛ فكيف تعامل فضيلته مع هذه الأجواء المتلبدة بغيوم البدع وسحائب الخرافات؟

 تعامل فضيلة الإمام الشيخ محمد حامد الفقي مع ما كان في زمنه من بدع وخرافات وترهات بسبب الخلل في التلقي، والاعتقادات، والعبادات، وتسعون بالمائة من الأمة وقتها كانوا على جاهلية في الاعتقاد، وجاهلية في المعاملات وحركة الحياة.

ففي زمن ظهور دعوة الشيخ الفقي – رحمه الله - كان قد شب حريق هائل من البدع والوثنيات التي تغلغلت في نفوس المقلدين؛ حيث عشش الشيطان في عقولهم وباض وفرَّخ؛ إنه حريقٌ دون إطفائه خرط القتاد، تعامل الشيخ مع ذلك بعزيمة لا تَكَلُّ وإرادة تفل الحديد متمثلة فيما يلي:

أولاً: كان منهجه – رحمه الله - أنه لا يرى الحجة إلا في كتاب الله، وسُنة النبي #، كما كان يقيس الرجال بالحق ويزنهم بميزانه، ولا يقيس الحق بالرجال، ولا يجد حرجاًً في نقد العلماء مهما بلغت منزلتهم ومكانتهم، وكان دائماًً ما يقول: إن التعصب للرجال مسرب من مسارب الشيطان إلى الوثنية.

ثانياً: كما كان يدعو الناس في المساجد والندوات والدروس إلى ضرورة الإقبال على كتاب الله قراءة وفهماًً وتدبُّراًً، وعدم وضع العراقيل أمام الناس بدعوى أن القرآن الكريم لا يفهمه إلا طبقة معيَّنة من العلماء والأئمة.

ثالثاً: كانت له أساليب وطرق متنوعة في محاربة البدع والتقليد الجاهل الأعمى للآباء والأجداد والشيوخ؛ هادفاًً من خلاله إلى اجتثاث المنكرات من داخل النفس أولاً قبل إزالته ظاهراًً.

رابعاً: عمد إلى تفسير القرآن في مجلة الهدي، وخطب الجمعة، ودروسه في المساجد، ودار أنصار السُّنة المحمدية، فربط بين آيات القرآن في معانيه ومقاصده، وبيَّن ما عليه الناس في ذلك الوقت من بدع وضلالات، وعيادة المقبورين، والتعصب للعلماء لا للحق، وكل حزب بما لديهم فرحون.

خامساً: أضف إلى ذلك عناية فضيلته بتحقيق وطبع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما كثير، وكذا الاشتراك مع الشيخ أحمد شاكر في تحقيق كتب الحديث، ويعتبر تحقيقه لكتاب (جامع الأصول)، بمشاركة الإمام عبد المجيد سليم (شيخ الأزهر آنذاك) هو أكبر كتاب حققه الإمام الفقي في علم الحديث؛ وتم طبع الكتاب لأول مرة على نفقة جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود.

- البيان -: كيف تصف تعاون الشيخ الفقي مع من سبقوه في طريق الإصلاح، في محاولة منهم جميعاًً لإعادة الأمة إلى منهج الحق والرشاد، والوصول إلى السبل القويمة الصحيحة لدعوة الناس إلى التوحيد؟

 امتدت علاقات التناصح والتعاون المشترك مع الآخرين داخل مصر وخارجها: فكان داخل مصر يقوم بالتالي:

• كان يدعوهم جميعاًً إلى زيارة مقر الجماعة، وحضور اللقاءات التي تعقدها الجمعية، كما كان يزور شيوخه ومعاصريه أمثال الشيخ الزنكوني والشيخ عبد المجيد سليم، وكذلك كان يزور الشيخ محمد محمد شاكر وكيل الأزهر ووالد المحدث أحمد شاكر الذي كان التعاون العلمي بينهما كبيراً، حتى إن الشيخ حامد عهد إلى صديقه وأخيه أحمد شاكر بإدارة مجلة الهدي النبوي عام 1370هـ، وكذا تحقيق مختصر سنن أبي داود، وتفسير الصابوني.

• دعوته لعلماء عصره من كل الأقطار الإسلامية للكتابة في مجلة الهدي؛ أمثال الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، والشيخ محمد محمد مخيمر، والشيخ نور الدين الصومالي.

• كما كان يُرسل فتاوى إلى العلماء والمشايخ ليجيبوا عليها ثم يعيد نشرها في مجلة الهدي، وهو ما حدث مع الشيخ بهجت البيطار مثلاًً، وأيضاً إذا جاءته فتوى تتعلق بشأن الاعتقاد كان  يُرسلها إلى الشيح عبد المجيد سليم مفتي الديار، وينشرها مُعلِّقاً على ذلك بأنها وردت إليه من دار الإفتاء المصرية.

• وحرص الشيخ حامد على حضور درس الإمام الأكبر الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر، وهو الذي كان يحضره ملك البلاد، ووزراؤه، وكبار رجال الدولة آنذاك، ويقوم الشيخ بكتابة المحاضرة ونشرها في مجلة الهدي النبوي.

• كان ينشر بعض الأحاديث الإذاعية لكبار العلماء الموحدين.

• شكل في عام 1356هـ مجلس هيئة علماء الجماعة، وكان على رأسه الشيخ محمد عبد الحليم الرمالي، كما كان من بين أعضائه أحمد شاكر، وعبد الرزاق عفيفي، وجمع من العلماء أصحاب الاعتقاد الصحيح.

وامتد تعاون الشيخ حامد مع علماء عصره من غير مصر؛ فمثلاً:

• كانت له صِلات طبية علمية مع جماعة الحديث بالهند.

• كان على صلة كبيرة بعلماء السعودية؛ وخاصة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي الذي علمت أنه كان بينه وبين الشيخ حامد مراسلات بلغت خمسين رسالة[1]، وقد كتب عنه يوم وفاته تحت عنوان: (عرفت الشيخ السعدي)، ذكر ما كان بينهما من صلة علمية وروحية على بُعْدِ المسافات الجسدية.

• وكذلك كان وثيق الصلة بعلماء آل الشيخ وخاصة الإمام محمد بن إبراهيم الذي كان دائماًً يتشاور معه عند طبع كتب جده محمد بن عبد الوهاب، أو كتب ابن تيمية، أو ابن القيم، وكان الشيخ حامد يذكر الإمام محمد بن إبراهيم بالثناء والعرفان؛ لما يبذله من علم ومال وتوجيه طيب، وقد جاء إلى جماعة أنصار السُّنة المحمدية عام 1370هـ واستقبله الشيخ محمد حامد الفقي وعلماء الأمة المصرية وكبار مفكريها.

• ويبقى أن نذكر أن الشيخ محمد حامد الفقي كانت له صلة بوجيه جُدَّة في ذلك محمد بن نصيف الذي أحضر للشيخ كثيـراً من المخطـوطات من بلادٍ عـديدة، وقد علمـت من أحد الباحثين أن مكتبة ابن نصيف أهداها كاملة لجامعة الملك عبد العـزيز بجُدَّة؛ وفيهـا مجموعة كاملـة لكتب الشيخ حامـد، وأيضاًً نسـخة كاملـة من مجلـة الهـدي النبوي، ومجلـة الإصـلاح التي كـان يصدرها الشيخ حامد الفقي من عام 1928م إلى عام 1931م، وتوقفت بعد رحيل الشيخ من السعودية.

- البيان -: ذكرتم في مقالٍ لكم أنكم شاركتم الشيخ الجليل صفوت الشوادفي في تنظيم إدارة الدعوة عام 1991م بالمركز العام للجماعة؛ فما وصفكم لهذه الفترة من حياة الشيخ الشوادفي، وإلى أي حدٍّ وصلت طموحاته وآماله في طريق الدعوة، وما كان موقفه مع مشايخ مصر وعلمائها الأجلاَّء؟

 لقد جرى انتخابي في مجلس إدارة المركز العام قبل عام 1991م، وفي العام التالي جرى انتخاب الشيخ الفاضل محمد صفوت الشوادفي، فأصبح في مجلس الإدارة جَمْع من علماء الجماعة ورجالها، وقد قدَّر الله لي أن أكون مع الشيخ في إدارة الدعوة والإعلام، وبدأت فترة بناء وطموحات واسعة تتميز بالتخطيط والتنظيم والمسيرة الجادة في العمل المبني على الإدارة العلمية.

لقد كان – رحمه الله - صاحب فكر، ورأي ثابت، ومخططاً جيداً لتحقيق الأهداف؛ حتى إنه أنشأ إدارة للتخطيط وتولى رئاستها، وظهرت آثار تعاوننا معاًً في تنظيم مجلة التوحيد، والبحث عن مجلة الهدي النبوي وجمعها؛ فكان أن أَدخَل في أبـواب مجلـة التـوحيد (باب من روائـع الماضـي) يذكر فيه ما كتبه شيوخ الجماعة الأُوَل، وبدأت أكتب باب التراجم كنوع من التعريف بعلماء السلفية وفاءً لهم.

ولقد كان يسأل كثيراًً عن منهج علماء الجماعة السابقين، ويناقش بعض الأقضية دون تعصب لرأي، بل قد يُخالف في بعض الأحيان ولكنه يحترم، ولسان حاله يقول: (كلٌّ يؤخذ منه ويرد)، و (اختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية)، ويكفي أنه قام بطبع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية كما وضع مختصراًً لفتاوى دار الإفتاء المصرية، وكتب كتاباًً عن اليهود، وعرَّف بالماسونية، وحذر من خطر الروتاري.

- البيان -: نعود إلى مركز التراث؛ فهل يقتصر عمل المركز على تراث الجماعة فحسب، أم يتعداها ويمتد إلى تراث الأمة كلها؟

 لا أستطيع أن أدعي أنه في هذه المرحلة يمكن تجاوز الاهتمام بتراث الجماعة؛ وذلك لسببين:

أولاًً: حتى نستطيع ربط أجيال الجماعة بوحدة المنهج وأسلوب الدعوة؛ علماًً بأن غالب إنتاج شيوخ الجماعة كان إحياءً لتراث العلماء السابقين والتعريف بهم؛ وذلك بقيامهم بتحقيق كتب لهم لم تكن معروفة لكثيرين ولا مسموحاً تداولها نظراًً لموقف أصحابها من فرق الضلال.

ثانياًً: بعد أن يتـربى جيل من البـاحثين في تراث علماء الجماعة، فهـم غالبـاً سيحصِّلون تراث العلمـاء الماضين، وعندما تتوفر الإمكانات فإن لدينا في الجماعة مكتبة تراثية كبيرة تكاد تشغل دوراًً كاملاًً في المبنى.

- البيان -: التراث الإسلامي يمثل جذور الأمة، فما هو تقييمكم لكيفية تعامل علماء الأمة ومؤسساتها مع تراثها؟ وإن كنتم ترون تقصيراً مَّا، فما الحلول المقترحة في هذا الشأن؟

 إن التعامل مع تراث الأمة حالياًً يجب أن يختلف عن السابق، فقد كان الناس إلى زمن قريب يحفظون المتون، بل يحفظون كتب الحديث، لكن الآن وقد تغيرت وسائل المعرفة من إحاطة ومعرفة أو حفظ إلى ما يسمى بالمعارفية، أي أن يعرف الباحث مواضع مادة بحثه في المراجع وكيفية الحصول عليها بواسطة التقنيات الحالية.

- البيان -: هل إيجاد مركز للتراث كمركزكم يعد الآن ضرورة مُلِحَّة في كل جماعة أو جمعية إسلامية، تحفظ بها تراثها ومؤلفاتها؟

 اعلم أخي الكريم أنه لَـمِن أوجـب الواجبات، وأَلْزَم اللوازم أن تظل كل دعوة أو جماعة إسلامية محافظة على مبادئها التي قامت من أجلها، وكذا منهجها الذي انتهجته لنفسها، ولا بد من ربط تراث كل جمعية أو دعوة بسلسلة متصلة الحلقات من الرجال، والأبحاث، لتُيَسر للمسلمين الاطلاع على إنتاجها العلمي خاصة في زمن صارت المعارفية فيه أهم من المعرفة ذاتها؛ وذلك بعد تيسُّر سبل الحفظ، وسبل الاسترجاع، وسبل الاتصال.

ويفضـَّل أن تربـط هـذه الجمعيـات مـراكـزها بشبكة المعلومات الدولية حتى يجري التواصل بينها وبين غيرها لتحقيق التعاون المثمر بينهم.

- البيان -: يهاجم العلمانيون التراث الإسلامي ويصفونه بأنه يمثل عائقاً صلباً أمام تقدُّمها وازدهارها، بل يعتبرونه السبب في تخلُّفها عن ركب التقدم العالمي والحضاري؛ فما ردُّكم على هذه المزاعم؟

 دعك من قول العَلمانيين أو الماديين الجاحدين؛ فمن جهل شيئاًً عاداه؛ وهم يجهلون التراث بحجة الحداثة والمعاصرة. أما الرد على مقولة: إن التراث سبب في تأخر مسيرة الأمة عن ركب التقدم العالمي فبسيط جدّاًً؛ وهو أن الغرب - كما يقول المنصفون فيه -: أشعل مصابيح حضارته من مشاعل العرب والمسلمين، ويكفي أن تعرف أن ابن النفيس قد اكتشف الدورة الدموية الصغرى، قبل هارفي بـ 400 سنة، وأن ابن خلدون هو أبو علم الاجتماع... وغيرهما كثير.

- البيان -: ما هي خططكم المستقبلية في التعامل مع التراث بوجه عام، وتراث الجماعة بوجه خاص؟

 المشروعات المستقبلية لتطوير مركز التراث وتتمثل في:

1 - التفرغ للدراسة، وهذا يحتاج إلى كفالة طلاب علم، وهذا غير متاح لنا الآن.

2 - سوف يعقد المركز حلقات بحثيةً (سمنار) تُخصَّص كل حلقة لعلم من العلوم، وتتكون من عَشَرة باحثين، ويُندَب لها من الجامعات أساتذة متخصصون بدراسة المواد يدربون الطلاب على طرائقَ ومناهجِ البحث العلمي فيها.

3 - يختار الأستاذ المشرف على السمنار مجموعة من الأبحاث التخصصية؛ بحيث يُعطي كلَّ طالب موضوعاًً، ثم يُحدد ميعاد عرض ومناقشة الباحث بحضور باقي الباحثين، ومن يريد من علماء الجماعة، وهكذا كل واحد يُلقي بحثه ويتعرض للمناقشة؛ فبعد قضاء عام واحد في قاعة البحث يكون الباحث قد تدرب على عمل الأبحاث كما يكون قد استفاد من أبحاث زملائه. على أن يعم ذلك غالب العلوم التي تحتاجها حركة الدعوة وتطوُّرها.

4 - يفكر مركز التراث في عمل موسوعة بحثية عن كل الرسائل العلمية الجامعية (ماجستير، ودكتوراه) التي نوقشت في علماء السلفية في الماضي والحاضر، تحت مسمى المدرسة السلفية في ميزان البحث العلمي في الأكاديميات العلمية، يقوم الباحث بعمل مختصر عن الشخصية والرسالة.

- البيان -: لعلنا نختم هذا اللقاء المفيد مع فضيلتكم بذكر بعض المشاهدات والمأثورات عن شيوخ الجماعة.

 كثيرة هي المواقف والمأثورات عن علمائنا الكرام وهي غنية أيضاً بمعانيها التربوية؛ فمن ذلك - مثلاً -:

1 - في سوهاج: حيث كان الشيخ أبو الوفاء درويش مؤسس أنصار السُّنة المحمدية يصلي بنا المغرب في مسجد قريب من بيته، فيسير بنا ثم يعود ونحن معه لصلاة العشاء، وطوال هذه الساعة يحدثنا في موضوعات كثيرة ويشرح لنا ما غَمَض علينا ونسأله عنه.

وقد اهتم بالصغار منا؛ وهو ما دفع والدي أن يسأله: لِمَ الاهتمام بالصغار؟

فكان يقول: هم أحدُّ ذهناًً وأشد ذكاءً، وليس لديهم موروثات كثيرة فيسهل غرس الدعوة الصحيحة فيهم.

2 - وفي القاهرة: رأينا الشيخ محمد حامد الفقي يدخل المسجد يوم الجمعة فلا يرقى المنبر حتى ينظم صفوف الحاضرين كما لو كانوا في الصلاة؛ فلا يسمح بوجود فرجة، وكان إذا رأى رجلاًً يربط منديلاًً على رأسه قال له: هذا من فِعْل النساء، انزع عنك هذا، عافاك الله من وجع الرأس.

3 - ورأيت الشيخ عبد الرحمن الوكيل، يخطب على منبر مسجد الهدارة؛ وفي يده اليمنى القرآن وفي يده اليسرى الإنجيل يقول عن صفات الله كيف جاءت في القرآن الكريم ويقارنها بضلال وبهتان الكتب الأخرى المحرفة.

وكـان يقــول: لقـد كُتِـب علينـا الجِلاد؛ فسنظل نضـرب بسياط الحق غير وَجِلِين ظهورَ الضالين حتى تخر معابد الوثنية على عابديها.

وعن آداب المريد عند الصوفية كان يقول: (تلك الآذان التي تجعل من المريد عبد تصوُّفٍ، وحليفَ باطلٍ)، وهو أول من قال: (إن التصوف شَرٌّ كله).

 


[1] انتهى أمر هذه الرسائل الخمسين إلى العالم الجليل محمد بن صالح بن عثيمين، رحمه الله.

 

أعلى