القراءة اذ تصنع الفرق !

القراءة اذ تصنع الفرق !

  الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يزداد الحديث عن القراءة وثقافة الكتاب لدى المجتمعات التي ترنو لنفض غبار التَّخلف عنها، وتحرص بعض الدول على إقامة معارض الكتاب وإظهار الاهتمام بها كدليل على الوعي والرُّقي والثَّقافة. ومع أنَّ أمتنا متهمة بضعف الإقبال على القراءة وتراجُع أهمية الكتاب فيها؛ إلا أنَّ ما نلاحظه في أوساط الشَّباب من الجنسين يبشِّر بخير إذا أحسنَّا توجيهه واستثماره، والأمل يحدونا بانكباب أكثر النَّاس على الكتب والاهتمام بشؤونها وأخبارها بدلاً من الانغماس فيما لا طائل وراءه؛ خاصَّةً أنَّ معجزة نبينا - صلى الله عليه وسلم - كتابٌ عزيزٌ يُتلى، وأوَّل آية منه أَمَرتْ بالقراءة، ثم تلتها آية أخرى مؤكِّدة، وجاءت بعدها آية كريمة ربطت بين العلم والقلم: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: ١ - ٥].
وليست القراءة عملية مجرَّدة؛ يفرغ الإنسان من كتاب ليبدأ رحلة جديدة مع كتابٍ آخر، فهذه القراءة قد لا تفيد إلا لماماً على أحسن الأحوال؛ لأنَّ القراءة المفيدة هي القراءة النَّاقلة؛ بحيث تنقل القارئ من حال إلى أفضل منها، وهي القراءة التَّحويلية التي يستطيع القارئ الحاذق معها توظيف المعلومة وبعث الحياة فيها من جديد. وهي القراءة التي تصنع الفرق في التَّصور والسُّلوك، ومن البديهي أنَّ القراءة حسب هذا الوصف عملية شاقَّة تتطلب جهداً كبيراً والتزاماً ثابتاً ممَّن يريد المضي في هذا الطَّريق الطَّويل حتى يبلغ الغاية المرجوَّة، وعند الصَّباح يحمد القوم السُّرى.
ومن الضَّروري أن نسعى إلى نكون قرَّاءً من الدَّرجة الأولى، فنقرأ ما ينفعنا وحاجتنا إليه أكيدة أو محتملة، وننصرف عن المطبوع الذي لا قيمة له، وهو كثير في سوق الكتاب. ومن المهمِّ أن تكون القراءة بالطَّريقة الصَّحيحة، وأن نتفاعل مع المقروء بأفضل السُّبل من خلال مناقشة المؤلف على هامش الكتاب، وتقييد فوائده، واختصار فكرته. وإذا حصل هذا  فستكون أمتنا متميزة في أفرادها، منجزة في مجموعها، متفوقة في كلِّ شؤونها، بعيدةً عمَّا يغضب الله، آنفةً من الصَّغائر والضَّعة، ولا عجب حين نقول ساعتئذٍ: إنَّ القراءة عبادة لله، وقربة يؤجر فاعلها ذو النِّية الخالصة. 
ويعين على تحقيق ذلك حين تكون المادَّة المقروءة منتقاة بعناية ومراعية حال القارئ وحاجته وواجب الوقت؛ وهذه الأمور من أسس التَّخطيط لقراءة مؤثرة ماتعة، فليس من المناسب للفتى - مثلاً - أن يخوض في أمَّات الكتب ولمَّا يقرأ كتب المبتدئين على شيخ أو ذي اختصاص. ومما يعين على بلوغ ما نَصْبُو إليه من القراءة أن يكون فعل القراءة مركَّزاً عميقاً أصيلاً، وليس عملاً ثانوياً إنْ بقي له شيء من فضول الوقت مارسته، فالتَّركيز سرٌّ من أسرار النَّجاح والتَّميز، ومن التَّركيز اتباع القارئ لمنهجية خاصَّة في القراءة تكون دليلاً له في مشواره المعرفي وسبباً في زيادة الوعي واتِّساع الأفق.
وللقراءة أهداف يبتغيها كلُّ مَنْ سلك سبيلها؛ فمنها إصلاح المنطق وتقويم اللسان، وإنَّ الأمَّة لتأمل أن يكون أبناؤها قادرين على الحديث بلسان عربي مبين، يفهمون به كتاب ربِّهم، وسنَّة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، ويتواصلون دون صعوبة مع إرث سلفهم الصَّالح، رضوان الله عليهم. وباستقامة لسان القارئ فإنه سيجيد فنَّ الكلام فيأمر بحقٍّ أو ينهى عن باطل ويدفع السُّوء عن نفسه ومجتمعه وأمته، فمَنْ لا يستطيع التَّحدُّث والتَّعبير عمَّا يختلج في مكنونه يفقد شيئاً كثيراً من حقوقه.
والقراءة النَّافعة تُصلِح ذوق صاحبها، فيترَّفع عن خوارم المروءة، ويتجافى عن الخطايا، وسيظهر أثر الكتاب على القارئ المتمكن بعلوِّ كعبه في أخلاقه وسيرته، فزيادة العلم مانعة من الخطأ، وقديماً قال بعض السَّلف: لا يعصي الله إلاَّ جاهل. ومعرفة أيِّ شيء جديد تُوقِف الإنسانَ على حقيقة جهله فيتواضع، وتحجزه عن الكبر والغرور.
وللقراءة أثر في سلامة الطَّبع من آفات مقيتة؛ فالقارئ الموفق محاور ناجح، ومنصت لأقوال الآخرين، ولديه استعدادٌ لسماع الآراء الأخرى وإن لم يؤمن بها.
وللقراءة أثر واضح في بناء الَملَكَة النَّقدية، والقدرة على التَّفكير بحرية شرعية، وكم من كتاب علَّم التَّفكير قبل أن يعرض المعلومات! ويتعاظم هذا الأمر في عصرنا الذي يمتاز بإتاحة المعلومة عبر كثير من الوسائل، ليكون الشَّأن المبتغى هو الحصول على الأدوات التي تمهِّد لاستثمار المادة المتوافرة هنا وهناك. وتسدُّ القراءة حاجة الفرد إلى أدوات يستخدمها، ليستقيم تفكيره، ويتطور نقده، ويستطيع التَّحليل والتَّقويم، والتَّفكيك وإعادة التَّركيب، فجهود المؤلفين تشحذ العقول، وتجارب الآخرين عقل ثانٍ، وفي كل حدث عبرة. والكتاب ليس ورقاً مطبوعاً فقط؛ بل عقل المؤلف قد عرضه على القراء ليتعلموا منه أو ليتمرنوا على الفحص والتَّمحيص.
وحتى تؤتي القراءة ثمارها اليانعة، وتحقِّق لطلاب المعرفة ما ينشدونه منها، فلا بدَّ من عناية القارئ بأركان الثَّقافة[1]؛ فلا يتجاوزها إلى غيرها حتى يُلِّم بشيء منها، لتكون قراءته أكثر بركة وخيريَّة، وهذه الأركان هي: الدِّين، واللغة، والتَّاريخ. فالقارئ بحاجة إلى التَّزود من علوم الشَّريعة الغرَّاء ليدفع عن نفسه معرَّة الجهل بدين الله؛ وإنَّها لآفة حريٌّ بالعاقل أن يهرب منها. ثم ينظر في كتب اللغة والأدب ليستقيم لسانه، ويَعْذُب بيانه، ويعتز بلغته، ويعرف شيئاً من علومها وفنونها، ويختم مشوار بنائه الثقافي بدراسة تاريخ أمته؛ فالحاضر امتداد للماضي، ومعرفة التَّاريخ شرط في استشراف المستقبل بنجاح، وأشدُّ القرَّاء ضرراً مَنْ هجم على علوم أخرى قبل أن يبني ثقافته على هذه الأسس المتينة.
وإذا فرغ القارئ من هذه الأركان فلا ملامة عليه في الإبحار صوب العلوم والفنون الأخرى، فنحن نحتاج مع علماء الشَّريعة واللغة والتَّاريخ إلى مَنْ يخدمون الأمَّة في العلوم الطَّبيعية والاجتماعية والتِّقنية وغيرها، وبعضها فروض كفايات قد ترقى إلى الفرض العيني حتى يكتفيَ المسلمون بأنفسهم ويستغنوا عن غيرهم[2]. وخير طريقة للقارئ غير المتخصص حين يقرأ في غير فنِّه أن يهتم بتاريخ هذا العلم وتطوُّره عبر العصور، ثم يعرِّج على مصطلحاته حتى لا يقع ضحية الجهل بها، ثم يتعرَّف على رجالاته الأوائل.
وكم هو جميل أن يتخصص القارئ في فنٍّ ولا يقتصر عليه؛ بل يقرأ في كلِّ فن، والقراءة على هذه الجادَّة تفتح الذِّهن، وتسدِّد الرَّأي، وتجعل نظرتنا للأمور أشمل وأعمق. وجدير بالقارئ ألاَّ يقنع باليسير من الكتب أو القليل من الأوقات المبذولة لها، وأن يجعل كتابه حلقة نقاش، وساحة مناظرة، وألا يسلِّم للمؤلف بآرائه دون نظر وتدقيق وسؤال. 
ولا يكتمل الحديث عن القراءة دون الإشارة إلى القرآن الكريم، فكلُّ قراءة تتطامن أمام قراءة كتاب ربِّنا، وكلُّ علم يتقاصر دون علوم القرآن العظيم، ولا يستغني القارئ المسلم عن النَّظر في كتاب مولاه، تالياً بخشوع وتدَّبر، وليس بعد التدَّبر إلاَّ الاعتقاد السَّليم، والعمل الصَّالح الذي يتعدَّى نورهُ الفردَ إلى المجتمع. وإنَّ بركة القرآن على القرَّاء واضحة فيمن دأبه العيش مع كتاب الله قراءة وتدَّبراً وتفسيراً وعملاً، وهذه درر العلماء وأقوال الأولياء شاهدة على أنَّ هذا الكتاب العزيز لا تفنى معجزاته ولا تنقضي حججه؛ فاللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصَّتك.
ويبقى أن نشير إلى أمرين:
فالأول: هو دعوة معاهدِ التَّعليم في بلاد المسلمين وأساتيذها إلى العناية بأمر القراءة من خلال تجويد الكتب المقرَّرة، وربط الطلاب بالكتاب، والاستغناء عن الملخصات التي تضر ولا تنفع.
والأمر الثَّاني: أنَّنا نَعجَـب كثيـراً من قــارئ نَهِمٍ متبصِّــر لا يكتب؛ فالكتابة لا تؤتي قيادها إلا لمن كان هذا شأنه، وعَجَبُنا أكبر من كاتب يسَّطر أحرفه، ويبتلي القرَّاءَ بها، وهو أبعد الكتَّاب عن القراءة؛ أو أقلهم إفادةً ممَّا يقرأ.


[1] أشار إليها الأستاذ محمود محمد شاكر – رحمه الله - في كتابه: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.
 
[2] في سيرة الإمام المازري - رحمه الله - الواردة في سير أعلام النبلاء قصة لطيفة بهذا الخصوص.

أعلى