العالم الاسلامي ومقومات البعث الجديد

العالم الاسلامي ومقومات البعث الجديد

إن الأمة لتتطلع إلى مراحل العمل والمنهجية والتأصيل؛ فلم تعد تجدي الكلمات ولا التنظير. كما أن مسؤولية صلاح أحوال الأمة والخروج بها من مآزقها، مسؤولية المسلمين جميعاً، وذلك في خطا حثيثة؛ في العقيدة، والعلم، والعقل والحكمة؛ ليتحقق للأمة وعد الله الذي لا يتخلف. وإننا لنأمل أن تكون مصائب الأمة سحابة صيف، عن قريب تنقشع؛ فالنصر للإسلام وأهله، فَلْيَقر المسلمون بذلك عيناً؛ فمن الله وحـدَه نسـتلهم النصـر والتمكـين، وللـه در الإمـام الشـافعي - رحمه الله - إذ يقول:
وَلَرُب ضائقـة يضيق بها الفتى
ذرعاً وعند الله منها المخـرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فُرجَت وكنت أظنها لا تُفرَجُ
لكن تشخيص الداء خير من التعامي عنه، أو كما قال أحد الحكماء: (الاعتراف بالمرض أرقى درجات العلاج)؛ فإذا كانت الوحدة في الصف والهدف والقيادة مطلباً شعبياً لكل الدول الإسلامية، فإن السلطات الرسمية في أكثر الدول الإسلامية والعربية رغم إدراكها لأهمية الوحدة تتغاضى عنها لأسباب خفية وأجندات تُفرَض عليها، تستهدف بقاء الحال على ما هو عليـه من التفتت والخلاف. و عوامل الوحدة في العالم الإسلامي كثيرة أبرزها:
 
أولاً: العامل العقدي:

 ويمثل هذا العامل الرابطة والوشيجة الإيمانية بين كل المسلمين من الشرق إلى الغرب؛ فالمسلم أخو المسلم، والعقيدة هي رابطة الوحدة المشتركة بين أفراد الدين الواحد، وهي الروح السارية فيهم، ولذلك كانت الأخوَّة الدينية بين المسلمين هي أصدق تعبير عن هذه الوحدة المشتركة التي قررها القرآن الكريم بقوله: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
 فالعقيدة إذن هي الأساس الذي يرتفع عليه بناء الدين فإذا قوي الأساس وخَلُص من الانحراف العقدي الذي بدأ يتلقى دعماً من قِبَل الأعداء (الشيعة في العراق، والمتصوفة في جميع منـاطق العـالم الإسلامي، والطـرق المنحـرفة: كالبهـائية، والمـذاهب الإلحــــــــــادية: من عَلمـانية وماركسـية وليبرالية...)، إذا قوي ذلك الأساس سَهُل تصحيح بقية الانحرافات الأخرى، وأمكن للأمة الاجتماع واللقاء.

ثانياً: العامل الجغرافي:

معظم دول العالم الإسلامي تقع في قارتَي: آسيا وإفريقيا، ويبلغ عددها (56) دولة، أراضيها متصلة بعضها ببعض، وهناك تواصل رَحِمِي بين سكان هذه الدول التي فصلتها أيادي (الاستخراب) بالحدود المصطنعة الوهمية. والشعور الشعبي تجاه الوحدة الإسلامية كبير وغامر رغم السلبيات التي صنعتها الحكومات؛ فالعامل الجغرافي يدعم الوحدة المنشودة بصيغةٍ عمليةٍ ممكنة لمواجهات التكتلات العالمية.

 ثالثاً: التاريخ والتراث:

فالأمة الإسلامية لها تاريخ وتراث اشتركت فيهما كل القوميات الموجودة في العالم الإسلامي؛ فبنَوا صرح الحضارة الإسلامية متعاونين متكاتفين، ولكلٍّ جهدٌ مقدَّر في بناء هذه الحضارة الكبيرة.

رابعاً: منطق العصر:

 منطق العصر الحاضر هو الوحدة والتجمع، وغضُّ الطرف عن الماضي بجراحاته وآلامه التي من الصعب أن تُنسَى، ولكن منطق المصلحة المشتركة يفرض على الجميع هذه الوحدة دون الالتفات إلى الماضي؛ لمواكبة متغيرات العصر في كل نواحي الحياة (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية).

خامساً: المصالح المشتركة:

 إن المصلحة العليا للدول الإسلامية قاطبة مشتركة، وهي انتشار الثقافة الإسلامية، وأسلمة المؤسسات والدوائر الرسمية، وهذا واجب شرعي على عاتق الجميع ولا بد من تجسيده على أرض الواقع، وماضي العالم الإسلامي خير شاهد على ما نقول، ودولنا في العالم الإسلامي تحتاج إلى حملة تُصلِح كل ما أُفسِد، وتعرِّف المسلمين بدينهم الصحيح، بعد أن أصابهم الجهل المركَّب.

سادساً: العدو المشترك:

قال  تعالى -: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة: 120]. هذا كلام خالق الخلق، العارف بمكنونات النفس البشرية؛ فاليهود والنصارى على الرغم من صراعهم الدموي الطويل، واتهام النصارى لليهود بقتل عيسى - عليه السلام - لكنهم في العصر الحاضر أدركوا ما يهدد وجودهم، كما أدركها سلفهم مع نبينا صلى الله عليه وسلم؛ حيث جمعوا الأحزاب لاستئصال شأفة المسلمين ولكن خاب ظنهم وفَألُهم، وأيَّد الله جنده بنصر من عنده.
لقد توحدوا وتسامحوا؛ فقد غفر بابا الفاتيكان رسمياً سنة 1966م لليهود وبرَّأهم من دم سيدنا المسيح، عليه السلام. وفي أيامنا هذه سيطرت اليهودية الصهيونية، أو الحركة الإنجيلية على وسائل الإعلام، ومواقع اتخاذ القرار في أكبر دولة في العالم؛ فَهُم الآن يحكمون العالم، ولهم في كل حدث ومصلحة يريدون تحقيقها، وحَرِي بالمسلمين أن يتوحدوا في مواجهة هذا العدو المشترك[1]

سابعاً: الإعلاء من شأن القيم الأخلاقية الأساسية:

فالعدل والمساواة المنضبطة بضوابط الشرع والصدق والعفة وعلوِّ الهمة وتكافؤ الفرص بين جميع الأفراد، والمحاسبة في ما يخص أسباب الغنى والفقر، وحسن توزيع الثروة، والتوازن في الحقوق والواجبات، كلها قيم حضارية. وهنا أترك الكلمة للفيلسوف الفرنسي (جان بودان) يتحدث عن الخلافة الإسلامية العثمانية في أوج عظمتها بكلمات رقراقة وكان الأَولَى أن تكتب بماء الذهب بل بماء العيون. يقول: «إنه بالجدارة وحدها يرتقي الإنسان في سلك الخدمة العامة... إنه نظـام يؤكد أن المناصب لا تُشغَل إلا بالكفاءة وحدها... إن أولئك الذين عيَّنهم السلطان في المناصب الكبرى هم في غالبهم أبناء رعاة أو أصحاب ماشية؛ فهم يعتقدون أن الكفاءة العالية لا دخل لها بالوراثة أو الميلاد... وعلى هذا: فإن الشرف والمناصب العليا والقضاء، لا يحوزها إلا من حاز كفاءة عالية في عمله متفانياً... إن هذا هو السبب في نجاحهم وتفوقهم على الآخرين... وهذا هو السبب في أنهم (أي العثمانيين) يوسعون إمبراطوريتهم يومياً... إن هذه ليست أفكارنا؛ ففي بلادنا (أوربا) ليس الطريق مفتوحاً للكفاءة... إن النسب هو المفتاح الوحيد للترقي في مدارج الخدمة العامة»[2].

ثامناً: الإعلام وترسيخ ثقافة الوحدة:

إن من الأدوار المهمة للإعلام دعم أشكال الوحدة في الأمة ومن ذلك: منظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ورابطة العالم الإسلامي، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي، واستثمار إيجابياتها ومعالجة سلبياتها بحنكة، ودعم سبل التعاون الثنائي بين الدول ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وكذلك المساهمة في حل المشكلات الطارئة في هذه الأشكال الوحدوية والسعي إلى اكتمالها، وكذلك للإعلام دور في عرض سبل جديدة للتعاون بين الدول والمنظمات والتجمعات في هذه الأمة وعرض تجارب التكتلات في العالم ونتائجها الإيجابية: كالوحدة الأوروبية أو منظمة الآسيان وغيرها من التجارب الناجحة؛ كي تكون أنموذجاً تسعى الأمة لتكوين وحدة مشابهة له؛ ولو مرحلياً[3].

تاسعاً: توطيد اقتصاد إسلامي مستقل:

إن التشابك المعقَّد في العلاقات الدولية اليوم واختلافَ الأنظمة الاقتصادية في العالم، الذي انعكس أثره على أكثر المجتمعات الإسلامية فتعددت فيها الأنظمة الاقتصادية تبعاً للاتجاه الذي يغلب على كل بلد،إنَّ هذا التشابك كان له آثَاره السلبية على وحدة الأمة الإسلامية. ولا بد من إيجاد اقتصاد إسلامي مستقل ليس مرتبطاً بأي نظام آخر؛ لئلا يبقى بين الأمة فجوات تحول دون وحدتهم. ويكون ذلك بإيجاد أسواق مشتركة وعملة موحَّدة وهيئة اقتصادية مشتركة تشرف على ذلك الاقتصاد الإسلامي المستقل. وبهذا تستقل عن التبعية الاقتصادية الضارة وتقيم لها وحدة اقتصادية قوية على أسس إسلامية[4].

عاشراً: الوحدة الثقافية:

إن وعي علماء الأمة وقادتها، وأهمية الوحدة الثقافية في استمرار وحدة الأمة، جعلهم يتوجهون إلى دعامتَي الوحدة الثقافية الأساسية: القرآن والسنة. ومن هذه الزاوية يمكن أن نقرر أن اهتمام علماء الأمة بنصَّي القرآن والسُّنة لم يكن لقدسيتهما فقط؛ ولكنه اهتمام مرتبط بوعي أهميتهما في حفظ وحدة الأمة وتعزيزها، وتحقيق استمرار وجودها[5].

الحادي عشر: الدمج بين التربية الإسلامية والتعليم:

يعدُّ الدمج العضوي بين التربية والتعليم؛ كقناتن أساسيتين وقطبي رحى لأي تقدم أمراً مهماً. يقول عبد العزيز الشويش: (يجب أن يكون عندنا من الشجاعة والروح المعنوية في معالجة المناهج التعليمية وتطويرها ما نبني به حضارتنا ونواجه به أعداءنا ونسيِّر به حياتنا ومعيشتنا في عبودية وخضوع لله، سبحانه وتعالى)؛ ذلك أن الإسلام يمتلك ديناميكية مؤثرة في السلوك والقيم وبعداً تكوينياً نفسياً في المجتمعات الإسلامية، وكانت الخصوصية الدينية العاملَ الأساس لتحفيز وانطلاق معظم حركات التحرر الوطني للشعوب الإسلامية. ثم إن البدايات القويمة تبزغ من الآفاق الواعدة بخطوات راسخة ومؤثرة في مجالات موحدة لمنفعة الجميع، وفي قطاعات صاعدة تحقق نجاحات أكيدة وتحرِّك عجلة الأمل والانطلاق في محاور متفقٍ عليها ومجزية للكافة، كما هو الأمر في الاتحاد الأوروبي، وَلْتَكن - مثلاً - في مجال سياسات ونُظُم التعليم، وتنطلق منها إلى مجال البحوث والتطوير وإصلاح الهياكل والبُنَى الأساسية، ثم تتجه بعدئذٍ إلى حقول تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ثم إلى نظم النقل والانتقال والمواصلات
ومن علامات الاستبشار بالانتصار ما تشهده الآونة الأخيرة من موجة ثانية من الصحوة الإسلامية؛ تمثلت في عودة فكرية وثقافية إلى الدين وتراجعاً للأفكار والتنظيمات القومية والاشتراكية والعَلمانية وانحسارها، وبدأت مرحلة إعادة صياغة للمجتمعات والعلاقات يمثل الإسلام مكوناً مهماً فيها، وبدأت الحركات الإسلامية تنال نصيباً مهماً في الانتخابات السياسية - على الرغم من التضييق الممارَس عليها من قِبَل اللوبيات الضاغطة - وتقود معظم الأعمال الاجتماعية والتطوعية والعامة.
وعلى الرغم من البناء الأوروبي والعولمة وعمليات الاندماج والتملك بين الشركات تبقى الاقتصاديات مطبوعة بخصوصيات وطنية قُطريَّة واضحـة المعالـم وهـي نابعـة من مصـالح اقتصـادية و (جيو - إستراتيجية) متناقضة أحياناً
وإذا نادينا بضرورة إعادة توحيد العالم الإسلامي وتوجيه العناية إلى رَتْقِ الفتق قبل اتساعه وتدارك العلة قبل استحكامها، فلا يُظَن بنا التحليق في الخيال؛ فقد تعلمنا من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نتفاءل ونواجه الأزمات بروح مشرقة آملين في تحقيق نصر الله - عز وجل - بعد الأخذ بأسبابه.
نحن أمة ما زال الخير فينا ينبض بدماء الحياة ويتمتع بمقومات الوجود، غير أنَّ وجودنا هذا اعتراه ما يعتري وجود الأمم من ضعف وانحراف. فور تحييد الدين الإسلامي العالمي عن جميع مرافق الحياة العامة. قال - تعالى -: {وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].


 


[1] فتحي يكن: الوحدة فريضة شرعية وضرورة حياتية للعرب والمسلمين: المنبر نشرة أسبوعية، 29/9/2003م، 1/7/1424هـ، بتصرف يسير
 
[2] بول كولز، العثمانيين في أوروبا، ترجمة: عبد الرحمن الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م، ص: 158 - 159.
 
[3] دور الإعلام في وحدة الأمة، أ. عادل أحمد الماجد نائب مدير قناة المجد الفضائية، المؤتمر العلمي: العمل الإسلامي بين الاتفاق والافتراق، جامعة الخرطوم - قسم الثقافة الإسلامية: 23 - 25 جمادى الأولى 1425هـ.
 
[4] الدكتور أحمد سعد الغامدي: أثر العقيدة في تضامن ووحدة الأمة الإسلامية، مجلة الجامعة الإسلامية.
 
[5] غازي التوبة: أمتنا وشخصيتها الحضارية والتاريخية، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 408، شعبان 1420هـ، ص48.

أعلى