• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تهمــيش المـــواطن... معركة خاسرة ولو بعد حين

تهمــيش المـــواطن... معركة خاسرة ولو بعد حين

 

إن المظاهرات والاحتجاجات التي بدأت في تونس وامتدت إلى الجزائر، ثم إلى مصر أخذت في البداية طابعاً احتجاجيّاً على الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار، ثم تطورت إلى المطالب السياسية... وهي تطرح كثيراً من علامات الاستفهام حول طبيعة التحولات الاجتماعية التي تمر بها بعض الدول العربية، ومدى نجاح السياسات الاقتصادية المتبعة في تحقيق قدر مناسب من التوازن الاجتماعي، ومن ثَمَّ «الاستقرار» السياسي، أو بمعنى أدق: «النضج» السياسي. كما تطرح تساؤلات حول طريقة تعبير الشعوب العربية عن معاناتها وطموحاتها وكيفية تعاطي الأنظمة الحاكمة مع هذه أو تلك.

وكانت المظاهرات في تونس قد اندلعت في 19 ديسمبر الماضي بعد أن أشعل البائع المتجول محمد البوعزيزي النار في نفسه احتجاجاً على تعرُّضه للصفع والبصق على وجهه من قِبَل شُرطية تشاجر معها بعد أن منعته من بيع الخضروات والفواكه دون ترخيص من البلدية، وعجزه عن مقابلة أي مسؤول في بلدية ولاية سيدي بوزيد لإبلاغ شكواه.

ثم امتدت مظاهر الاحتجاج إلى ولايات أخرى حتى وصلت إلى العاصمة، وتطورت إلى إحراق بعض الممتلكات العامة ومصادمات عنيفة مع الشرطة التي استخدمت القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي، وهو ما أسفر عن وقوع عشرات القتلى والجرحى، ومغادرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي البلاد يوم 14 يناير 2011م بعد أربعة أسابيع تقريباً من اندلاع الثورة.

أما في الجزائر فقد تسبب ارتفاع الأسعار المفاجئ والكبير (بين 20 -30%)، وزيادة الضرائب والرسوم على بعض السلع الغذائية الأساسية في تفجير موجة من الاحتجاجات و «أعمال شغب» حسب وصف بيانٍ حكومي لها.

ورغم أن الحكومة الجزائرية تراجعت عن الزيادة في بعض السلع وأعلنت أنها وافقت على تخفيض أسعار بعض السلع الضرورية بنسبة كبيرة، إلا أن الاحتجاجات أخذت في التصاعد، وانتشرت في عدد كبير من الولايات، وأسفرت عن مقتل وإصابة عشرات من الناس، وما زالت أعداد القتلى والجرحى مرشحة للزيادة مع استمرار الاحتجاجات التي تأخذ منحنىً متعرجاً حتى الآن.

وفي مصر كانت الدعوة إلى إقامة تظاهرات في 25 يناير الماضي هي الشرارة التي فجَّرت مخزوناً متراكماً من اختلال العدالة الاجتماعية والسياسية؛ حيث يقبع أكثر من 40 % من الشعب المصري في مستوى خط الفقر وتحته، إضافة إلى مصادرة الحياة السياسية لصالح الحزب الحاكم الذي لم يكن - حسبما يؤكد كثير من المراقبين - حزباً بالمعنى السياسي، بل كان «تجمُّعاً» لرجال المال والممسكين بمقاليد السلطة التنفيذية بشـكل جعـل ثروات البلاد نهباً مباحاً لهـم. وفي الوقـت الذي لا يتعدى فيه الدخل اليومي لشريحة كبيرة من المجتمع المصري دولارين أو ثلاثة، نجد آخرين تُقدَّر ثرواتهم - التي تحوم حولها الشبهات - بالملايين والمليارات.

وقد أدان النظامُ المصريُّ نفسَه قبل أن يتنحى الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير، حين أحال أربعة من الوزراء إلى التحقيق بتهم الفساد، في محاولة لامتصاص غضب المتظاهرين، فضلاً عن هروب عدد كبير من رجال الأعمال وبعض المسؤولين خارج مصر، وهو ما يؤكد فسادهم وخشيتهم من المحاكمة.

ورغم أن المتظاهرين لم يلجؤوا إلى العنف للتعبير عن مطالبهم، وكانوا يرفعون شعار: «سِلْمية... سِلْمية» إلا أن رد الشرطة وقوات الأمن كان عنيفاً؛ أسقط أكثر من 300 قتيل إضافة إلى 3 آلاف جريح وآلاف المعتقلين.

السطور التالية تحاول أن تقف على مجموعة نقاط مع تلك الأحداث في ملامحها العامة، وما يمكن أن نقرأه فيها.

 أمن المجتمع وأمن الأنظمة:

لا بد أن نشير بداية إلى أن الأنظمة العربية بوجه عام كانت لفترة طويلة تعتبِر أن من أكثر ما يهدد أمنها واستقرارها: الجماعات الإسلامية؛ التي اتخذت من العنف والقوة سبيلاً لتحقيق أهدافها، والوصول لسدة الحكم، والتي انطلقت في ذلك من رفض النظم الحاكمة وتكفير المجتمعات؛ لأن الأنظمة - حسب رأيهم - تستمد حاكميتها وتشريعاتها من نُظُم جاهلية لا تمتُّ للإسلام بِصِلة، وتقف حجر عثرة أمام تحكيم الشريعة. كما أن المجتمعات تتواطأ بِصَمتها وسكوتها مع مشاريع التغريب والعلمنة، ولا تقوم بالدور المنوط بها في إنكار المنكر، ورفض التحاكم إلى القوانين الوضعية... إلى غير ذلك من المبررات التي تستند إليها تلك الجماعات.

وقد وضعت النظم الحاكمة مواجهة هذه الجماعات على رأس أولوياتها، وجعلتها في مقدمة ما يحيط بها من أخطار داخلية وخارجية على السواء. فحشدت لمواجهتها كل ما في جعبتها من إمكانات: من قوانين استثنائية، وتعبئة للرأي العام ضدهم، إلى الاعتقالات المفتوحة، والمحاكمات العسكرية... غير عابئة - في أكثر الأحوال - بكرامة الإنسان، وحقه الطبيعي في المحاكمة العادلة، بغضِّ النظر عن حجم ما يُنسَب إليه من تُهَم وجرائم.

لكن التناقض أنه خلال السنوات الأخيرة، ومع انعدام عمليات العنف تقريباً (خاصة في مصر والجزائر، مع تحفظنا على طريقة تعامل النظامين مع هذه الجماعات المسلحة)، فإن حجــم الاحتـجـاجات والمظـاهرات، بسب الأوضـاع المعيشـية (لا السياسة) قد تضاعف بصورة تنبئ عن معاناة المواطن البسيط الذي ليـس له في السـياسـة ناقة ولا جمل، وهذا يعني في ما يعني أن كثيراً من هذه الأنظمة لم تضع المواطن في أولوياتها بمثل ما عملت على تثبيت سيطرتها، وإزاحة القوى المعارضة أو تقليم أظافرها، ولم تكن لديها رؤية شاملة لمعالجة هموم المجتمع المتعددة؛ فانشغلت تلك الأنظمة بأمنها وتجاهلت أمن المجتمع، الأمر الذي أحدث خللاً اجتماعيّاً، وتردِّياً مروعاً في البُنَى التحتية، وتسبب في انعدام الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وعمل على تفاقم الأزمات الاقتصادية لدرجة أن يكون إقدام مواطن على إحراق نفسه كافياً لإشعال الحرائق في طول البلاد وعرضها.

إن هذا التردي الذي يلمسه المواطن في أداء قِطاعات كبيرة في تونس والجزائر ومصر وغيرها - كما تشير تقارير دولية تتصل بالشفافية ورصد الفساد - يوضح أن أزمة تلك النظم أصبحت تتسع شيئاً فشيئاً متجاوزة الصراع مع قوى المعارضة ومعها الجماعات الإسلامية إلى المواجهة مع المجتمع ذاته، وهذا يصب - كما يرى عدد من المراقبين - في دفع عجلة الإصلاح، وتسريع وتيرة التغيير؛ حيث تفقد هذه الأنظمة أهم مقومات الشرعية؛ بما أنها لم تستطع توفير حياة كريمة آمنة للمواطن.

ونحن نلاحظ في هذا الصدد أنه: إذا كانت الأنظمة العربية في معركتها مع ما يسمى الإرهاب، تلقى الدعم والتأييد من بعض شرائح المجتمع ومن الدول الغربية، فإنها الآن في مواجهتها مع المجتمع في موقف لا تُحسَد عليه؛ سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

وأظن أننا لسنا بحاجة في هذا المقام إلى تأكيد أن (ألِف باء) الوطنية والانتماء تتطلب أن يشعر المواطن أن هناك من يهتم به، ويسهر على راحته، ويصون حياته وكرامته، ويحترم إرادته واختياره... وحينئذٍ تغدو العلاقة بين الوطن والمواطن متماسكة متمازجة، لا تحكمها المنفعة فقط، بل يحوطها العشق والهوى والحب والذوبان؛ لهذا ليس غريباً أن يجد العنف مرتعاً خصباً بدرجة أكبر بين أبناء الطبقات الفقيرة المهمَّشة، الذين يرون بأعينهم أن خيرات بلادهم باتت حكراً على شريحة معيَّنة، أما هم فليس لهم إلا الفُتَات القليل، وليتهم يجدونه!

وهنا يثور تساؤل مهم: ألا يدل «نجاح» النظام الجزائري والمصري - مثلاً - في القضاء على المعارضة الإسلامية المسلحة (التي شكلت لهما امتحاناً عسيراً) وكذا سلوك نظيرهما التونسي مع المعارضة (وجَعْلها بين معتقل أو مطرود)، في مقابل «فشلهم» في تحقيق رفاهية المواطنين ومواجهة الأزمات الاقتصادية... ألا يدل على أن الأنظمة العربية تحصر مفهوم (الأمن) في أمن الأنظمة وحمايتها، وتتجاهل (الأمن الاجتماعي) الذي يقوم على تحقيق العدالة الاجتماعية وإطلاق الحريات العامة، وتتغافل عن أن الإضرار بهذا الأمن الاجتماعي أكثر خطورة مما تسميه: الإرهاب، على الدولة والمجتمع معاً؟

تشابه مذموم:

تكشف طريقة تعامل النظام الحاكم - سواء في تونس أو الجزائر أو مصر - مع الاحتجاجات عن درجة من التشابه (أو التطابق) بين كثير من النظم الحاكمة العربية؛ حيث إنها تتعامل مع مجتمعاتها من منظور أمني لا سياسي، ومن منطق الاستعلاء وصوابية الموقف الحكومي دائماً. فقد صدرت تصريحات في هذه الدول تتهم أطرافاً داخلية وخارجية بإثارة تلك الاحتجاجات والمتاجرة بها وتشويه سمعة البلد، وهي الاتهامات نفسها التي تصدر في بلاد عربية أخرى في مواجهة المطالبات الداخلية بالإصلاح والتغيير.

ففي تونـس اتهم ابن علي في البداية أطـرافاً وصفها بـ «المأجورة» وبأنها تتلقى تعليمات من الخارج للعمل على إلحاق الضرر بتونس، وإثارة «أعمال الشغب». كما أدان البرلمان التونسي قناة «الجزيرة» بمحاولة «زعزعة استقرار» تونس و «بثِّ الفتنة»، وأنَّ تغطيتها الإعلامية تهدف إلى «تشويه سمعة تونس وبثِّ روح الحقد والبغضاء»، وأن للقناة «أهدافاً مغرضة تنطلق منها لصياغة مؤآمراتها» التي تستهدف «حالة السلم المدني والاستقرار والتنمية في تونس» حسب البيان الصادر عن البرلمان.

وفي مصر - إضافة إلى اتهام المعارضة بالتبعية للخارج - جرى إغلاق مكتب «الجزيرة» في الأيام الأولى للثورة، ومصادرة التراخيص الممنوحة لفريق مكتبها، وجرى تخويف الصحفيين الأجانب والضغط عليهم، بل الاعتداء على بعضهم وتحطيم كاميراتهم، وبالفعل قامت بعض السفارات الأجنبية بترحيل صحفيين من رعاياها.

وهنا نلاحظ أيضاً أن اتهام الإعلام - خاصة قناة «الجزيرة» - يكاد يكون عنصراً مشترَكاً بين معظم الدول العربية التي تسعى للتغطية على فشلها في التعامل مع أزماتها الداخلية، فتتهم الإعلام بالإثارة والتحريض والتهويل؛ بينما يجب أن نعترف بأن الواقع هو أبلغ من يتحدث عن نفسه، والإعلام لا ينقل إلا جزءاً يسيراً من هذا الواقع الأليم.

أما في الجزائر فقد حذَّر وزير الدولة عبد العزيز بلخادم «من الشعارات التي يرفعها المتظاهرون في الشوارع، والتي تطالب برحيل الرئيس بوتفليقة» مشيراً إلى أن «شيئاً مَّا يطبخ ضد الرئيس»[1].

من ناحية أخرى فإن المصادمات التي وقعت بين المتظاهرين ورجال الشرطة في هذه البلاد الثلاثة ووصلت في بعض المناطق إلى حرق البنايات الحكومية، وما يشبه «حرب العصابات» على حد وصف بعض التقارير، وهو ما أوقع جرحى بين الطرفين... كل هذا يوضح أن المواطن العربي اكتسب درجة من «الخبرة» في تنظيم الإضرابات والاحتجاجات تصل أحياناً إلى حد «العنف»، وهذا أمر – مع خطورته - يراه المراقبون طبيعيّاً ومنطقيّاً؛ إذ كلما زادت القبضة الأمنية الضاغطة من النظام الحاكم، يلجأ المواطن إلى ابتكار وسائل في التعبير والتنفيس عن غضبه المكبوت دون الأخذ في الاعتبار إذا كانت طرق التعبير مشروعة أو غير مشروعة.

ومعالجة هذا الوضع تستدعي - ابتداءً - من الحكومات أن تفسح المجال واسعاً أمام القنوات الشرعية لإبداء الرأي والتعبير وتكوين الأحزاب وتفعيل النقابات ومنظمات المجتمعات المدني؛ حتى تُستوعَب طاقات الغضب تلك، وتتحول إلى تيار للبناء لا الهدم.

هروب من المسؤولية والمساءلة:

إن الاتهام الموجه للمعارضة من قِبَل بعض المسؤولين باستغلال الأزمات الاقتصادية سياسيّاً يدل على خطأ واضح في تصور هؤلاء المسؤولين من زاويتين:

فهم يعلقون إخفاقهم على غيرهم ولا يريدون أن يعترفوا بفشل سياساتهم.

ثم هم يجهلون أو يتغافلون عن طبيعة العلاقة بين النظام الحاكم والمعارضة؛ إذ يفترضون ضمناً أن تجري التعمية على أخطائهم، وأن تقف المعارضة مكتوفة الأيدي ولا تتجاوب مع تطلعات المجتمع وما يحيط به.

وهذا يرجع بالأساس إلى أن النخب الحاكمة في معظم البلدان العربية لا تمارس عملها أصلاً على أرضية سياسية تؤمن بإمكانية الخضوع للمراقبة والمحاسبة والمساءلة، ومن ثَمَّ تداوُل السلطة، بل هي ترى نفسها فوق المساءلة والقانون. وتتصور ثباتها في مواقعها إلى الأبد؛ ولذلك نرى اتجاهاً عاماً في هذه البلدان - كما حاول بن علي قبل مغادرته - نحو حذف النص على تقييد الـمُدَد الرئاسية من الدستور. بل إلى توريث الحكم في نظام جمهوري كما كان سيحدث في مصر.

ويبقى أن نشير إلى أن دولاً عربية أخرى بدأت مسيرتها في طريق الاحتجاجات بعد تونس ومصر اللتين يبدو أنهما ليستا إلا مجرد بداية؛ فمن الواضح أن المجتمعات العربية مقبلة على تحولات جذرية بعد عقود من الإخفاق في تحقيق أيٍّ من التطور السياسي أو العدالة الاجتماعية، خاصة بعدما ثبت باليقين أنهما (أي: الحرية والعدالة الاجتماعية) أمران مترابطان غير قابلين للانفصال؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة.. وليس أمام الأنظمة العربية إلا أن تقوم بخطوات إصلاحية استباقية، لا أقول لتقطع الطريق على الاحتجاجات؛ بل لتأخذ بزمام المبادرة نحو تحقيق المطالب المشروعة لشعوبها التي قبعت ردحاً طويلاً من الزمن تحت القهر والكبت والحرمان.

إن الأنظمة الديكتاتورية قد تكسب «المعركة» ضد المعارضة، لكنها بتأكيد ستخسرها أمام المواطن، ولو بعد حين.


 


[1] لم أستطع فهم العلاقة بين اندلاع مظاهرات ضد الغلاء وبين وجود مؤامرة ضد الرئيس.

 

أعلى