استدعاء التاريخ

استدعاء التاريخ


 

تقول الصورة المرئية: مجاميع تنطلق جزافاً في بحر لجيٍّ تلاحقها العواصف والأمواج، لا تدري من أين تبدأ؟ ولا كيف تتحرك؟ تجدِّف باتجاه الساحل لكنها لا تعرف متى ستصل إليه! وكم من الوقت تحتاج لبلوغه! أتلفت كل ما بأيديها من وثائق وخرائط وإعدادات تدلها على الطريق. وفي الغالب تلتهمها الحيتان قبل أن تصل. وهكذا...

إننا نقف جميعاً أمام جيل يجهل وقائع التاريخ وتحولاته العملاقة، كشفت لنا ثقافته ورؤاه منصات الإعلام الجديد، وهو إن تزود بشيء من النقول التاريخية فمن منابع ملوثة، ومصادر غير مأمونة، وطبعات مزورة.

ووقفت مصانع إنتاج الوعي وقادته يديرون ظهورهم للتـاريخ ويرددون: «علم لا ينفع وجهل لا يضر». واحتفل المستشرقون بتلك القطيعة وراحوا يسردون التاريخ بأقلامهم الملوثة، وحبرهم المسموم.

محـورية العلم بالفعل التاريخي يجب أن يدركه الجيل وتستلهمه النخب العلمية ومحاضن التعليم الشرعي؛ فالتاريخ مصدر إلهام وبوصلة اتجاه.

يجب أن ندرك جيداً أننـا نقف جميعاً على خط النهاية في السير البشري على ظهر الكوكب، وأن كل ما سبق من تجارب البشر يحتم علينا أن نبني عليها ونستمد منها؛ فالإسلام انتهت إليه محصلة التجربة النبوية التاريخية، وأمة الإسلام باتت أمة معيارية اعتلت تبة الشهود الحضاري.

والتاريخ يشكل لنا بيت الخبرة ومنجم التجارب الذكية التي عبرت الكرة الأرضية من قبل؛ فهو يمثل ساحة واسعة يمكننا الوقوف عليها نستعرض التجارب، وندرس مآلات الأفعال، وحصاد التصرفات، ونلاحظ الحفر السحيقة التي نقع فيها اليوم مرات ومرات.

إن تجولنا في أروقة التاريخ وشوارعه الرئيسة تمنحنا مزيداً من فهم ما يجري اليوم من صراع محتدم في منطقتنا وبُقع أخرى من العالم، وسنكتشف دستوراً متيناً من السنن والقـوانين التي صنعت ذلك الفعل التاريخي وشرحت دور البشر في إنتاجه.

وبحسب تعبير المؤرخ الإنجليزي (ديفيد هيوم) فإن الرجل المطلع على التاريخ يمكن أن يقال عنه من بعض الوجوه: إنه يعيش منذ بداية العالم.

لقد أراد الله للإنسان أن يريد، وجعله منتج الفعل التاريخي ومصدره ليكون فعله في دائرة الإمكان للبشر، نقيس ونقلد ونحتذي.

والقرآن الكريم زرع مساحات كبيرة منه بتاريخ البشرية الذي جرى على الكوكب وقدم نماذج مختلفة، وأنماطاً متغايرة، وسلوكيات متنوعة، أحدثت الفعل وصنعته على الواقع.

إن تلك التعليقـات القـرآنية السميكة على الفعل التاريخي البشري تكشف لنا رؤية تحليلية إستراتيجية للعلل والأمراض التي تصيب الدول والإمبراطوريات وتوضح الإصابات القاتلة في مسيرتها التي أثخنتها وشلت حركتها. وما سر مَنعَتِها وقوتها؟ وكيف تحركت دورة حياتها؟

قدم الفحص القرآني في تلك التفاصيل التاريخية أضواءً كاشفة لتَشَكُّلِ الحدث، ونقاط قوته وضعفه، وصنع جملاً مُحْكَمة مكثفة صارت قوانين حاسمة ونتائج قاطعة، مجردة عن حدود الزمان والمكان ليسهل تعديتها ونقلها بآلة الزمن من حقبة إلى أخرى. إنها عملية تحرير للحدث التاريخي من قيود (الزمكان) وتعديته ملخصاً إلى عالم آخر، أو كما تسمى «بعث للماضي، وإحياء له في وجدان الحاضر».

فالقرآن الكريم كتاب سنني بامتياز؛ إذ يقدم لنا مزجية رباعية من: (سنن نفسية، اجتماعية، تاريخية، طبيعية)، والتنقيب عن منابت هذه السنن وحسن فحصها مهمة يجب تسليط الضوء عليها اليوم. فالسنن الإلهية باسطة ذراعيها بوصيد الكون قبضاً وبسطاً، وهي تعبير عن الحضور الإلهي في هذا الكون، ودلالة ثاقبة على القانون الذي يحكم حركة المتغيرات.

لقد بات من الضرورة أمام هذا التخبط الذي يلفنا، وأمام أولئك الذين ينشرون الضباب في أجوائنا أن نشق طرق الإبصار، ونعكف نرشف التاريخ ونعيد قراءاته من زوايا متعددة، ونتأمل في أسباب انقراض كثير من الحضارات، ونجمع مواد البناء. وقد لفت القرآن الكريم انتباهنا لشيء دقيق وطلب منا الانتباه له والتركيز عليه؛ وهو الذهاب لفحص البدايات ومطالعة تاريخ شروق الدول والإمبراطوريات وقطع تركيبها؛ إذ إن البداية هي التمهيد والأساس البنائي الجيد الذي تقوم عليه الأشياء، ومن هنا يبدأ التاريخ في نقاط تحولاته العملاقة، قال تعالى :{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْـخَلْقَ} [العنكبوت: 20]. إن التجارب التاريخية تلتهم في جوفها كميات هائلة من الأساليب والتصرفات ورود الأفعال؛ وهو ما يجعلها تغطي مساحات هائلة من المناطق المجهولة للإنسان، وتعطي رصيداً جيداً لطريقة التصرف ومآلات الأفعال. إن ذلك باختصار هو القدرة على صنع الرؤية الإستراتيجية وخطواتها التنفيذية وطرق التحرك الأمثل تجاه الأهداف.

والذين يديرون ظهورهم لحذف تلك الوثائق، وهدم المتاحف، وحرق مراحل النمو الطبيعي؛ إنما ينتحرون في اليوم عدة مرات ولو فحصوا القرآن الكريم الذي يحتجون به لأدركوا طلباته المتكررة بالسير في الأرض، والتوغل في حقب التاريخ، وتقليب صفحاته، وإجراء عمليات تنقيب وحفر في أروقته وشوارعه الخلفية أيضاً، وقد لفت انتباهي كيف احتج الله تعالى على أهل الكتابَيْن بالتاريخ فقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنجِيلُ إلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 65].

إن دعوتنا للنزوع الواعي للتاريخ تعني استدعاء الشهود الحضاري الراحل في الأحقاب، وإجراء عمليات طلب عاجل لقوانين حضوره وعـودته، وجعـل تلك التصرفات التي التهمها الزمن مصدراً أصيلاً للتبين والاستبصار ومجهر هداية مبصر، وهذا هو التعليق الختامي بعد أن قدم القرآن كشفاً بأسماء الأنبياء، إذ قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].

ولم يكتفِ القران بسردية تاريخية كما ورد؛ وإنما ذهب إلى عملية استخراج القوانين واللوحات الإرشادية المبصرة في منهج تحليلي لاستنطاق التاريخ وتجميع شواهده ومجرياته، وأخضع تلك السرديات المختصرة للنقد والتقويم أو ما يسمى بالتفسير التاريخي ليمنح القارئ أبجدية متميزة للمطالعة في التاريخ وتحليل مفرداته؛ حتى إذا عاد من رحلته التاريخية إلى حاضره عاد محملاً بالتجارب المبصرة، والمرجعيات الرشيدة، وهذا هو المنهج المميز الذي سار عليه ابن خلدون في القرن السابع، وهو ما شكل نقطة تحول في التدوين التاريخي سبق بها الجميع، وفي الواقع ما هو إلا تطبيق ومحاكاة لمنهج القران الكريم في التحليل لمجريات التاريخ وتفاصيله وإجراء جرد استقرائي لسننه ونتائجه. قال تعالى: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْـحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. فجمع بين دقة المعلومة، وتحقيق الفائدة.

هذه هي القراءة المطلـوبة للتـاريخ أن نمتلك مؤهلات استيعاب الحاضر بنتائج الماضي والقدرة الفائقة على التنبؤ بتداعياته.

إن القطيعة التاريخية التي نشهدها اليوم جزء أصيل من هذا الشرود الذهني الذي نعيشه، وانعدام الرؤية بسبب هذا الغبار الكثيف الذي تثيره العواصف الترابية التي صنعها الآخرون لإبعادنا عن استدعاء التاريخ واستلهام قوانينه.

إن إعادة اكتشاف أنفسنا يبدأ بالتفتيش عن التاريخ.

 


أعلى