وعاء الحضارة... «الرجل الأبيض » وأزمة كورونا

وعاء الحضارة... «الرجل الأبيض » وأزمة كورونا


هل يولد الإنسان وبداخله حسٌّ أخلاقي؟ هل الإنسان مجبول على حب الخير؟ هل الرحمة طبع أصيل خلط بطينة خَلْقه؟ جدل كان محلَّ سجالات كبيرة بين علماء الغرب وفلاسفته لفترة طويلة. فقد وصف توماس هوبز - على سبيل المثال - الإنسان بأنه «بشع» و «همجي»، لا يمكنه التعايش مع بني جنسه في سلام إلا في وجود مجتمع وقواعد لكبح جماح غرائزه وشهواته؛ فهو شرير بطبعه. بينما رأى جان جاك روسو أن الإنسان يظل لطيفاً ونقيّاً طالما كان بمنأى عن فساد النظام الطبقي الذي يفرضه المجتمع وما ينطوي عليه من ظلم وجشع.

في المخيال الغربي الرجل الأبيض هو الأكثر تحضراً، تحمل جيناته الوراثية الذكاء والفطنة بجانب الأخلاق الرفيعة والتحضر الإنساني والرحمة المجردة التي أحاطت بالإنسان ثم فاضت وتدلت حتى شملت الحيوان. ولا مجال هنا للخلاف بين هوبز وروسو، فهو بجبلَّته التي طبع عليها، وحضارته التي صنعها متوافق بأخلاقه وقيمه وأعرافه المجتمعية.

في أوقات الأزمات التي تجتاح الأمم، تتبدى بشكل واضح طبيعة الشعوب وما تحمله من حقائق تختص بها.

كانت بداية ظهور فيروس كورونا (أو كوفيد-19) في مدينة ووهان الصينية أواخر عام 2019م، ومع منتصف شهر يناير 2020م بدأت دول العالم تستشعر الخطر؛ إذ سجلت حالات إصابة بالفيروس خارج دولة الصين، ومع أواخر شهر يناير كان العالم كله يتابع على مدار الساعة تطورات المرض في الصين وخريطة انتشاره في بقية بقاع العالم، وأخيراً صنفت منظمة الصحة العالمية في 11 مارس 2020م المرض الذي يسببه فيروس كورونا على أنه (جائحة) عالمية.

في الدول الغربية حيث مراكز الأبحاث والدراسات سواء السياسية والاقتصادية تقدم تقاريرها بانتظام لدوائر صنع القـرار، ناهيـك عن دوائر المخـابرات والأجهزة الأمنية التي من وظيفتها جمع المعلومات غير المنشورة والوصول إلى الحقائق غير المعلنة. في حالة جائحة فيروس كورونا يصعب أن يكون سبب الانتشار السريع للمرض في أوروبا والولايات المتحدة هو ضعف المعلومات وغياب القدرة على التوقع.

في الصين كانت المعلـومات الأولية تشير إلى أن نسبة الوفيات من المرض ليست كبيرة؛ إذ تتراوح بين 2 - 3%، وأن أغلب الوفيات كانوا بين كبار السن.

شكلت تلك المعلومات تصوراً مبدئياً لكيفية التعامل مع الفيروس في حال انتشاره في الدول الغربية. ففي أوروبا التي توصف بالقارة العجوز نتيجة ارتفاع شريحة كبار السن ومسن تجاوزت أعمارهم 65 عاماً بالمقارنة بمجموع السكان، فما يقارب ربع سكان أوروبا كانوا من ساكني دور الرعاية الصحية حيث يمكث العجائز والمسنون بعد أن هجرهم الأبناء وتخلوا عن رعايتهم بشكل كامل، فتقوم الدولة بتحمل تكاليف معايشهم وعلاجهم الصحي[1].

 

المنطقة

النسبة المئوية لكبار السن (٦٠ عامًا فأكثر)

 

عام ٢٠٠٠

عام ٢٠١٥

عام ٢٠٣٠

عام ٢٠50

إفريقيا

٥٫٢٪

٥٫٤٪

٦٫٣٪

٨٫٩٪

آسياء

٨٫٦٪

١١٫٦٪

١٧٫٢٪

٢٤٫٦٪

أوروبا

٢٠٫٣٪

٢٣٫٩٪

٢٩٫٦٪

٣٤٫٢٪

أمريكا اللاتينية والكاريبي

٨٫١٪

١١٫٢٪

١٦٫٨٪

٢٥٫٥٪

أمريكا الشمالية

١٦٫٢٪

٢٠٫٨٪

٢٦٫٤٪

٢٨٫٣٪

 

هذه المعادلة (ربع السكان من كبار السن) شكلت لأوروبا معضلة كبيرة؛ فهي تؤذن بتغيير ديموغرافي قد يحدث في فترة وجيزة، كما تتوقع بعض الدراسات، ففي عام 1950م كان 12٪ فقط من سكان أوروبا في سن الخامسة والستين، أما اليوم فقد تضاعفت هذه النسبة، إذ تشير التوقعات إلى أنه في عام 2050م ستصبح نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم الخامسة والستين أكثر من 36٪ ، وهذا يعني أمراً واحداً؛ أن أوروبا تشيخ! بل معرضة للفناء الديموغرافي؛ ففي ألمانيا - على سبيل المثال - يتوقع المكتب الفيدرالي الألماني للإحصاء أن ينكمش سكان ألمانيا إلى ما بين 65 - 70 مليوناً بحلول عام 2060م (65 مليوناً في حال كان عدد المهاجرين السنوي إليها 100.000، و70 مليوناً في حال كان عدد المهاجرين 200.000 سنوياً)، علماً أنه في ألمانيا حالياً زهاء 82 مليوناً. وهذا يفسر لنا إلى حد كبير، لماذا لعبت ألمانيا دور الأم الرؤوم في أزمة اللاجئين السوريين.

هذه المعضلة التي وضعت أوروبا بين سندان الفناء ومطرقة القبول بالمهاجرين، الذين - في غالبيتهم - يأتون من الدول الإسلامية التي تعاني من حالات الفقر والبطالة، ولمعالجة هذه المشكلة اتخذت أوروبا عدداً من الإجراءات، منها فرز المهاجرين والقبول بأصحاب المهن والكفاءات العلمية، وفرض القـوانين الصارمة التي تجبر الوافدين الجدد على الاندماج الكامل في الثقافة الغربية، بالإضافة إلى تشجيع اليمين المتطرف وفتح الأبواب السياسية له ليشكل حالة ضاغطة على المهاجرين ويدفعهـم بشكل أسرع للتجاوب مع تلك القـوانين. لكن مع ذلك ظلت تلك الإجـراءات كلها عمليات مؤقتة وحلولاً قصيرة الأجل.

هكذا جاءت جائحة كورونا التي تجتاح كبار السن وتغيبهم في القبور بشكل أكبر من غيرهم بمثابة هدية لهم؛ فكانت الحضارة الغربية صاحبة جمعيات الرفق بالحيوان قد تخلت عن الإنسان؛ فلا مانع من انتشار الفيروس ما دام سيخلصهم من كبار السن غير المنتجين والذين يشكلون عبئاً كبيراً على الاقتصاد، وبغيابهم تزداد حيوية القارة.

في ذلك الاتجاه لم يكن تصريح رئيس الوزراء البريطاني «استعدوا لفراق أحبابكم» من فراغ، وتأتي في السياق عشرات الحالات التي كشف عنها الإعلام، وهي توثق كيف ترك كبار السن في دور الرعاية من دون علاج ولا رعاية صحية حتى يفتك بهم المرض؛ فكثير من دور الرعاية الصحية في أوروبا ترك العاملـون بها وظائفهم، ومن بقي منهم في وظيفته، فإن صوت استغاثته بالحكومة للتحرك لعلاج من أصيب من نزلاء تلك الدور كانت تذهب أدراج الرياح، وتركت الإصابات ليتفشى بينهم المرض ويقتلهم في هدوء وسكينة من دون إزعاج.

في هولندا تم تخيير كبار السن بين العـلاج أو الاستسلام للموت وتوفير جهد العلاج، وهي الفضيحة التي أعلنت عنها وسائل إعلام هولندية كشفت فيها عن قيام الأطباء بالاتصال بكبار السن وتخييرهم بوضعهم على أجهزة التنفس من عدمه، ولم يجزم رئيس تحرير صحيفة (تايم نيوز) الهولندية بأن وزارة الصحـة هي من أعطت تلك الأوامر للأطباء، لكنه رجَّح عدم مبادرة الأطباء بها دون تعليمات من الوزارة أو إدارة الرعاية الصحية أو شركات التأمين التي يعملون من خلالها، على حد قوله.

وفي إسبانيا أبلغ الجيش عن العثور على حالات وفاة لأشخاص في أسرَّتهم بعد تجنيده للمساعدة في تطهير مراكز الرعاية. والسؤال: كيف ماتوا؟ وكيف تُركوا؟ ولماذا لم يبلَّغ عن مرضهم؟ وأين الموظفون العاملون في تلك المراكز؟

وفي فرنسا توفي 31 شخصاً في واحد من أسوأ دور الرعاية المتضررة في موجين، بالقرب من مدينة كان في جبال الألب، تركوا من دون رعاية ونشرت لوموند مقالة لمونيه بيليتييه الوزيرة السابقة لشؤون المرأة التي انتقدت الطريقة «غير المفهومة وغير الإنسانية» التي يعامل بها الأشخاص في بعض دور التقاعد. وكتبت: «لقد تطلب الأمر مئات الوفيات من المسنين في هذه المؤسسات... من (كوفيد-19) لإظهار بعض الاهتمام بهؤلاء أخيراً». أضف إلى ذلك ثقافة القراصنة التي تجلت في السطو على المعدَّات الطبية؛ فقد أكدت صحيفة (لوباريزيان) الفرنسية علـى أن جمهـورية التشيك قامت، فعلاً، بالاستيلاء على شحنة من المعدات الطبية، تضم 680 ألف قناع وأجهزة للتنفس، كانت موجهـة من الصين لدعم إيطاليا لمواجهة فيروس كورونا المستجد. جمهورية التشيك اعترفت باستيلائها على شحنة كمامات من الصليب الأحمر من مقاطعة تشجيانج الصينية، والتي كانت متوجهة إلى العاصمة الإيطالية روما، وقالت على لسان وزارة الداخلية، بأن هناك «سوء فهم... ولا مجال لإعادة المعدات بعدما تم توزيعها على المستشفيات في البلاد». ومن قبلهم تونس اتهمت بشكل مباشر إيطاليا بالاستيلاء على شحنة الكحول الطبية. وقامت فرنسا وقد ذهبت شعاراتها (حرية، مساواة، إخاء) أدراج الرياح بمصادرة ملايين الأقنعة الواقية والقفازات الطبية التي استوردتها إيطاليا وإسبانيا من الصين، حسبما اتهمتها شركة (مولنليك) الطبية السويدية.

إنها الحضارة الغربية التي تبدت ملامحها وقت الأزمات وسقطت عنها شعاراتهم، وبدت قرارات أنظمتهـا وسلوكيات أفرادها الذين يقتتلون حقاً وهم يتنازعون السلع من فوق أرفف الأسواق... كل ذلك يشير إلى أي مستوى من الحضيض الإنساني تردوا. 

أخيراً:

لا يولد الإنسان شريراً بطبعه ولا خيِّراً بطبعه؛ بل يولد على الفطرة وبيئته تطبعه بطبعها، وإذا خلت نفسه من خصلة خير، فليتحلم ليحلم، وليتصبر ليصبر، ولا يخلو إنسان من نوازع الخير والشر تختلج نفسه، ولا يمكن وصم الرجل الأبيض بهذه أو تلك لكنه في الأخير وعاء حضارته، والوعاء بما فيه ينضح، وإن كان لنا من سؤال أخير فهو: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ وهل لو قدر للمسلمين أن يكون هم من يقود الحضارة الإنسانية هل كان للعالم أن يشهد حالة الصراع هذه وقت الحروب والمجاعات والأزمات؟ ربما كان الجواب (نعم) وربما (لا)، ولكن الأكيد أن هذه الحضارة الغربية سيئة بالدرجة التي حتى الآن، لم نصل بعدُ لأسوئها.


 


[1] الأمم المتحدة، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، تقرير السكان في العالم، 2015م.

 

  

أعلى