• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ}

ولا شك أن أشد ما يحتاجه المؤمن في هذه الأوقات العصيبة والأحوال الرهيبة هي السكينة التي هي: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد. فكيف إذا انضاف إلى ذلك الفتح والمغانم الكثيرة، فأيُّ نصر أبلغ من ذلك

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وبعد:

هذه الجملة وردت في قصة نوح -عليه السلام- مع قومه في سورة القمر؛ قال الله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ 10 فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ 11 وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْـمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ 12 وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ 13 تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّـمَن كَانَ كُفِرَ 14 وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ 15} [القمر: 10 - 15].

 وهنا قد يَرِد تساؤل: هل عندما يصدر هذا الموقف يكون موقف ضَعْف أو قوة؟

ولنُجيب عن هذا التساؤل؛ ننظر في جملة أخرى وردت في قصة نبي آخر من أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام أجمعين-، ففي قصة لوط -عليه السلام- مع قومه كان مما قال: ﴿لَوْ أنَّ لِي بِكم قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [سورة هود: 80]؛ أيْ: أن وسيلة دَفْع العدوان والظلم أن يكون هناك قوة سلاح أو أتباع، أو اللجوء إلى قوة أكبر تتحقّق بها الحماية ودفع العدوان والظلم.

ومن هنا؛ فموقف النبيَّيْن الكريمَيْن هو لُجوءٌ إلى الله واستنصارٌ به تعالى، وهو أقوى من مجرد الاعتماد على قوة السلاح والجند؛ وعليه لا يصح القول بأن الذين يلجؤون إلى الله كي ينتصر لهم، معناه أنهم غير قادرين على فِعْل ذلك بأيديهم، ومِن ثَمَّ لا يُوصَف ذلك بأنه من باب الضَّعف.

جوانب القوة في الدعاء النبوي

بالتأمل نجد أن جوانب القوة في الدعاء النبوي {أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} كثيرة؛ منها:

أولًا: في هذا الدعاء تحقيق التوحيد؛ فإنه إذا عظُم البلاء لا تَجِدُ في الشكوى للناس مَن يسمعك، فضلًا عن أن يُنصِفك أو ينصرك؛ ولو شكوتَ إليهم لنَفروا وابتعدوا عنك؛ فلا يبقى مَلْجَأ مِنَ الله إلاَّ إليه، تشكو إليه لأنه يسمعُك، ويرى حالك، ويعلم حقيقة ما أصابك، وهو القادر على نصرك.

ثانيًا: هذا الدعاء فيه إيمان بأن النصر من عند الله وحده؛ {وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْـحَكِيمِ} [آل عمران: 126]؛ فمهما كان عند الإنسان من قوة السلاح والجند إذا لم يأذن الله بالنصر فلن يتحقق، ولن تُغني عنه قوته من دون الله شيئًا، كما في قصة غزوة حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

 ذكَر الله تعالى للمؤمنين فَضْله عليهم، وإحسانه لديهم؛ في نَصْره إيَّاهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بعَدَدهم ولا بعُدَدهم، ونبَّهَهم على أن النصر من عنده، سواء قلَّ الجَمْع أو كَثُر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئًا فولّوا مدبرين، إلا القليل منهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أنزل الله نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه؛ ليُعلمهم أنّ النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده؛ وإن قلَّ الجَمْع، فـ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249][1].

وما أعظم تلك القوة التي يَستشعرها المؤمن في لجوئه إلى الله، وركونه إليه! لأنه يعلم عِلْم اليقين بأنه {إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]؛ فمن يلجأ إلى الله يُوقِن بأن الغالب هو الله، وأما الناس «فلن يغلبكم مع نَصْره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم مَن بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عَددكم وكثرة عَددهم؛ ما كنتم على أمره، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله؛ فإن الغلبة لكم والظَّفر دونهم»[2].

ثالثًا: هذا الدعاء فيه تحقيق للافتقار إلى الله، الذي هو «حقيقة العبودية: كمال الافتقار إليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغِنَى به»[3].

وهذا عين الحقيقة؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ} [فاطر: 15]؛ فالأسباب مهما بلغت قوتها وكثرتها -مع الأمر باتخاذها- يجب ألا يُنْظَر إليها على أنها تُغني عن نَصْر الله وتأييده، وكلما زاد الإيمان بالافتقار إلى الله؛ زاد قُرْب العبد من ربه، وتحققت له معية الله الخاصة؛ معية النصر والحفظ والتأييد؛ لأنه كما قال سهل التستري -رحمه الله-: «ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار».

رابعًا: هذا الدعاء هو في معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. هذه الكلمة العظيمة التي دلَّت على أنه ليس للعالم العلوي والسفلي، حركة وتحوّل، من حالٍ إلى حال، ولا قدرة على ذلك؛ إلا بالله[4].

فمن يقول: (أني مغلوب فانتصر)؛ هو يقول ليس لي تحوّل من حال الغلبة إلى النصر، ولا قوة لي بذلك إلا بك يا رب.

وجانب القوة في هذا المعنى بيَّنه الإمام النَّوَوِيّ في قوله: «هِيَ كَلِمَة اسْتِسْلام وَتَفْوِيض، وَأَنَّ الْعَبْد لا يَمْلِك مِنْ أَمْره شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ حِيلَة فِي دَفْع شَرّ، وَلا قُوَّة فِي جَلْب خَيْر؛ إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى... كما أنها تتضمَّن التوكل والافتقار إلى الله تعالى، ومعلوم أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله وقدرته، وأن الخلق ليس منهم شيء إلا ما أحدثه الله فيهم»[5].

ومَن تحقَّق عنده هذا المعنى بيقينٍ فهو سببٌ لإعانة الله له؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله يُوجِب الإعانة؛ ولهذا سنَّها النبي صلى الله عليه وسلم  إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب: لا حول ولا قوة إلا بالله»[6].

خامسًا: هذا الدعاء، وما في معناه، امتثالٌ لهَدْي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام أجمعين-، وتحقيق لأمر الله تعالى في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] ؛ فهنا أمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقتدي بهدي الأنبياء قبله، وأُمّته تَبَع له، وقد أضاف الهداية إليهم فقال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}؛ لوقوع الهداية بهم[7].

واتّباع هدي الأنبياء من أسباب كفاية الله لعباده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ‏}؛ أي‏:‏ كافيك ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏} [الأنفال: 64]‏؛ أي‏:‏ وكافي أتباعك من المؤمنين‏. ‏وهذا وعدٌ من اللّه لعباده المؤمنين المتّبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء‏[8].‏

سادسًا:

من قال هذا الدعاء وما في معناه مُوقنًا به في قلبه تَحقَّق له موعود الله تعالى في قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا 18 وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18، 19].

ولا شك أن أشد ما يحتاجه المؤمن في هذه الأوقات العصيبة والأحوال الرهيبة هي السكينة التي هي: الطمأنينة وسكون النفس إلى صدق الوعد[9]. فكيف إذا انضاف إلى ذلك الفتح والمغانم الكثيرة، فأيُّ نصر أبلغ من ذلك!

وإذا عُدنا إلى قصة نوح -عليه السلام- في سورة القمر، نجد أنه بعد ذلك الدعاء العظيم؛ جاءت الاستجابة سريعة {فَفَتَحْنَا}، والفاء تفيد التعقيب، وكانت النجاةُ لنوح -عليه السلام- وللمؤمنين، والهلاكُ والدمارُ والخزيُ للكافرين.

وفي قصة لوط -عليه السلام- قالت الملائكة: {يَا لُوطُ إنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَكَ إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].

فما أحوج الأمة؛ فرادى وجماعات، إلى تأمُّل هذه المعاني، وهي تُعاني هذه الابتلاءات العظيمة وتكالُب الأمم وخذلان القريب والبعيد، ما أشد الحاجة بعد أن تُعِدّ ما استطاعت من أسباب القوة إلى أن تأوي إلى الركن الشديد؛ فـ «مَن توجَّه إلى الله بصدق الافتقار إليه، واستغاث به مخلصًا له الدين؛ أجاب دعاءه وأزال ضرره، وفتح له أبواب الرحمة»[10]؛ وعندئذ يتنزل نصر الله، ولا عجب فـ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]؛ أي: بإرادته ومشيئته؛ فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزَّه الله، والذليل من أذله الله، فلا تُغني الكثرة مع خذلانه، ولا تَضُرّ القلة مع نصره[11].


 


[1] تفسير ابن كثير.

[2] تفسير الطبري.

[3] طريق الهجرتين (ص84).

[4] مجموع الفتاوى (٥/٥٧٤).

[5] شرح صحيح مسلم (17/ 28 - 29).

[6] مجموع الفتاوى (١٣/ ٣٢١).

[7] تفسير الطبري.

[8] تفسير السعدي.

[9] تفسير القرطبي.

[10] مجموع الفتاوى 10/650.

[11] تفسير السعدي.

أعلى