• - الموافق2024/05/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الشمول الإسلامي .. حقائقه وآفاقه

الشمول الإسلامي .. حقائقه وآفاقه

معنى الشمول : العموم ، والاستيعاب ، والإحاطة بأمر ما . وعلى هذا الوجه جاء الوحي الإلهي بالإسلام ، دين الله لعباده في كل العصور ، والذي بعث به رُسُلَه - عليهم السلام - إلى كل الأمم ، كما قال الله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } ( النحل : 36 ) ، { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ( فاطر : 24 ) .

الهداية الأولى : لقد أحكم الله الدين قبل نشأة الأمم ، أو قيام الحضارات البشرية ، وعلَّمه للإنسان منذ أول الطريق ، حين أُهبط على الأرض ؛ لأنه أساس هدايته وضرورة معاشه ومعاده ، كما قال - تعالى - : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه : 123-124 ) وهذا خبر الحق والصدق الذي لا يتخلف أبداً : بأن شريعة الله لعباده هي الهداية الخالصة التي تعصمهم من الضلال والضياع في كل شؤون الحياة ، والتي تفضي بهم إلى سعادة الأبد .

ثم هذا نذير قاطع بأن الإعراض عنها يؤدي إلى ضنك الحياة ، وشقاء العيش وعماية النهاية ، وضرورة أن الإنسان لا يعيش في فراغ ، فمن أعرض عن الحق لا بد أن يقع في الأباطيل ، وأن يتمرغ في أوحالها وأهوالها ، قال الله تبارك وتعالى :} فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } ( يونس : 32 ) ، وهذا تقرير واضح بشمول الهدي الإلهي لكل ما يحتاجه الإنسان في معاشه ومعاده ، حتى يتأكد الاتباع ، ولا يضطر الإنسان إلى الإعراض في شيء من جوانب الحياة المتلاطمة .

الشريعة الدائمة العادلة : وعلى هذا الهدي تتابعت الرسل - عليهم السلام - بدين الله الجامع الشامل ، وجاؤوا بمنهج واحد مؤتلف غير مختلف ، كما قال - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ( الشورى : 13 ) ؛ ذلك لأن الشارع الموحي واحد لا شريك له .

والرسالة عبر أولي العزم جميعاً رسالة صادقة هادية ، من فجر التاريخ النبوي الشريف إلى ختامه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم امتداده إلى يوم القيامة ، قال - تعالى - : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ( الحديد : 25 ) ، وهذه آية جامعة لخصائص الرسالة الإلهية ، وأنها تقصد قصداً إلى تحقيق العدل ، وإقامة القسط بين الناس ، خاصة إذا تنازعوا واختلفوا ، كما قال - تعالى - : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } ( البقرة : 213 ) .

الرسالة الخاتمة : وكان كل رسول يُبعث إلى قومه بالشريعة الإلهية الجامعة ، وتعادلت كثرة الرسل - عليهم السلام - مع تعدُّدِ الأقوام والأمم ، إلى أن بعث الله - تعالى - محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة الخاتمة ، فقام بعموم رسالته مقام الكثرة السابقة ، واجتمع له - صلى الله عليه وسلم - الشمول من أطرافه جميعاً ، خاصة بالمعجزة الخاتمة ( معجزة القرآن الكريم ) أو الفرقان الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل ، وجعله حجته الدائمة على جميع البشر كلهم ، وصوت النبوة الممدودة إلى آخر الدهر .

وفي هذه الرسالة الخاتمة اتسعت جوانب الشمول الإسلامي ، وامتدت طولاً وعرضاً وعمقاً حتى استوعبت جميع الأفراد والأمم ، وقررت كلَّ طيِّب من المبادئ والنُّظم ، وتوجهت بالخطاب الأعلى لكل الأزمنة والأمكنة ، مع غاية التبيان في الخطاب ، وقوة الحجة ، وصحة الدليل والبرهان .

هذا الإجمال يحتاج إلى تفصيل ، وبيان ، واستدلال من صريح الوحي الإلهي الجليل ، المحفوظ بأصليه الجامعَين ( القرآن الكريم ، والسُّنة المطهرة ) كما قال - تعالى - { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ( هود : 1 ) وكما قال - تعالى - مخاطباً رسوله الأمين { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } ( النساء : 113 ).

آفاق الشمول الإسلامي : تعددت جوانب الشمول الإسلامي ، واتسعت آفاقه في هذه الرسالة الخاتمة ، التي أراد الله - تعالى - لها أن تكون خطابه الدائم إلى يوم القيامة ، وحجته الممدوة في حياة الرسول الخاتم - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته عليه السلام .

ويتمثل ذلك في ثلاثة أقسام :

• الشمول الظرفي : ( المكان والزمان ) .

• الشمول الشخصي : ( الأفراد والجماعات ) .

• الشمول التشريعي : ( المبادئ والأحكام ) وسنتحدث عن كلٍّ منها على الترتيب .

أولاً : الشمول الظرفي : ونعني به أن الإسلام خطاب إلهي موجَّه لكل البقاع في الأرض ولكل الأزمنة منذ بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ينفخ إسرافيل في الصور إيذاناً بتصدع الكون ، وانتهاء مرحلة التكليف والاختبار في حياة الإنسان .

ولذلك كان خطاباً لأهل مكة الذين بدأ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :} وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } ( الشعراء : 214 ) .

وكان خطاباً لأهل الجزيرة العربية ، ومن حولها من البشر ، كما قال تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } ( الأنعام : 92 ) ، وقال - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } ( الشورى : 7 ) وقد ثبت عملياً أن أم القرى ( مكة ) هي مركز اليابسة ، وما حولها جميعُ الأقاليم في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وما بعده كما سيتضح فيما يأتي .

ثانياً : الشمول الشخصي : ونعني به استيعاب جميع الأشخاص العقلاء البالغين في توجيه الخطاب الإسلامي إليهم ، سواء كانوا أفراداً ، أو كانوا كالأسرة أو القبيلة ، أو كانوا شعوباً وأمماً تحكمهم الأعراف والتقاليد في البوادي ، أو تحكمهم حكومات في دولة منظمة ذات قوانين .

إن كل من يدرج على أرض الله مخاطَب بهذه الرسالة ، ومكلَّف بها في أي مكان درج ، وفي أي زمان وُجِد ، كما قال - تعالى - في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } ( الأنعام : 19 ) فقوله - تعالى - : { لِأُنذِرَكُم بِهِ } خطاب لأهل مكة أو العرب عامة برسالة القرآن وقوله - تعالى - : { وَمَن بَلَغَ } أي أنه خطاب لكل من بلغه القرآن ، أو لكل من بلغ سن التكليف ، واللفظ عام في العرب وغيرهم في معنييه :

- الأول من البلاغ بمعنى العلم به على وجه صحيح .

- الثاني من البلوغ وهو حد التكليف الملزِم بالخطاب الإلهي .

ومِن أَجْمَع وأصرَح الأيات في ذلك قوله - تعالى - : { قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ } ( الأعراف : 158 ) ؛ فهذا تقرير إلهي حاسم في شمول الرسالة الخاتمة ، وأنها موجَّهة للناس جميعاً ، بدليل التاكيد بلفظ ( جميعاً ) لرفع أي احتمال أو التباس بأن المراد بالناس بعضهم أو معظمهم أو أهل زمان مخصوص منهم ، فأفاد ذلك أن المراد هو جميع العقلاء الذين يصلحون لهذا الخطاب الإلهي التكليفي الشامل .

ومن هذه الأيات أيضاً قوله - تعالى - : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } ( الفرقان : 1 ) وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ( سبأ : 28 ) ، وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 107 ) .

ويلاحظ أن هذه الآيات الكريمة كلها مكية نزلت في عهد الضعف قبل التمكين وقبل وجود أي قدرة للجماعة المسلمة الأُولى على تحقيق هذه القضية ، وإنما سبقت في العهد المكي للتأسيس الاعتقادي ، وللتأصيل الديني في ذاته ، وقد ضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موضع التطبيق العملي بعد ذلك بسنوات ، حين أقام الدولة في المدينة المنورة ، ومهَّد الأمور من إبرام صلح الحديبية مع مشركي مكة ، والذي كان فتحاً مبيناً ؛ كسر الله به حميَّة المشركين في الجزيرة كلها ، وأزال به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدر المؤامرات اليهودية في خيبر ، وحينئذٍ أمِنَت الطرق فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُتُبَه إلى ملوك الفرس والروم و مصر ... وغيرها تحقيقاً وتطبيقاً لمبدأ عالمية الإسلام أو شمول الأشخاص أفراداً وجماعات .

ثالثًا : الشمول التشريعي : وهو الأساس الثابت في الدين الإلهي للناس ، على ألسنة الرسل – عليهم السلام - في كل العصور ، مع مراعاة بعض الفروق والتفاوتات المناسبة لكل الأزمنة أو الأمكنة أو الأقوام ، حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية المبنية على العلم المحيط .

والأصل في هذا هو قوله - تعالى - : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } ( الشورى : 13 ) .

وفي الرسالة الخاتمة بالذات أَكثَرَ القرآن من تقرير الشمول الجامع ، بصيغ عديدة غاية في الصراحة والوضوح ، كما قال - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ( النحل : 89 ) .

والتبيان أبلغ من البيان ، والشمول مأخوذ نصاً من قوله - تعالى - { لِّكُلِّ شَيْءٍ } مما يحتاجه الناس في شؤون حياتهم إيماناً وأخلاقاً وعبادات ومعاملات .

وقال - تعالى - في ختام العهد المكي { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (المائدة: 3 ) والآية الكريمة نزلت في حجة الوداع في يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة .

والإكمال يرجع إلى معاني الجودة في الصفات ( الكيف ) والإتمام يرجع إلى معاني الشمول في الأعداد ( الكم ) .

فتعين من هذا أن الدين الذي رضيه الله - تعالى - لعباده مستجمِع لكل الصفات الجيدة ، ولأعداد الأحكام في كل جوانب الحياة ؛ لأن الله - تعالى – هو الذي يشرِّع لعباده ، ولا يعطيهم ديناً ناقصاً أبداً ، كما قال - تعالى - ذلك من قبل في العهد المكي{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ * } ( الأنعام : 161-164 ) .

وقد قال ذلك في الإسلام الذي أوحاه للرسل من قبل ، ومن ذلك على سبيل المثال ما قاله عن موسى - عليه السلام - { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ( الأعراف : 145 ) .

وهذا هو شأن الدين الإلهي في كل العصور ، خاصة في الرسالة الخاتمة على ما نبينه في المقال التالي - إن شاء الله تعالى - تفصيلاً وتدليلاً ؛ فكانت بذلك كله في مرتبة العقائد المقرَّرة ، والمسلَّمات المتواترة بنقل الكافة عن الكافة ، لا تقبل جدلاً أو لجاجةً !

ولذلك استفاض علماء الإسلام في تقريرها ، وتفصيلها ، وبيان جوانبها : كالمفسرين ، والمحدثين ، والأصوليين ، والفقهاء ، بما وجدوا من فيوض النصوص في كتاب الله - تعالى - وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين على ما نُبيِّنه بإيجاز فيما يلي :

أولاً : فيوض من نصوص القرآن الكريم : ومن المهم أن نلتفت إلى كثرة الآيات الكريمة التي قررت وأكدت هذا الشمول التشريعي الجامع ، وقد كانت آية واحدة كافية للإلزام وإقامة الحجة على العالمين ؛ فكيف إذا تكاثرت الآيات الكريمة على هذا النمط في العهدين المكي والمدني على سواء؟ ومن ذلك قوله - عز وجل - :

أولاً : في العهد المكي قبل قيام دولة الإسلام :

( أ‌ ) : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الجاثية : 18 ) .

( ب‌ ) : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ( النحل : 89 )

( ج ) : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } ( الشورى : 10 ) .

( د ) : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ( هود : 1 ) .

( هـ ) : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً } ( الأنعام : 114 ) .

ثانياً : ثم في العهد المدني بعد أن مكَّن الله - تعالى - للمسلمين وجعل لهم داراً وأنصاراً ، وإماماً يحكِّم شريعة الله - تعالى - :

( أ‌ ) : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ( البقرة : 208 ) .

وهذا أمر صريح للمؤمنين بأن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره أي : « أُمروا كلهم أن يعملوا بجميع شُعب الإيمان ، وشرائع الإسلام - وهي كثيرة جداً - ما استطاعوا منها » .

كما قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة .

( ب‌ ) : { إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } ( النساء : 105 ) .

( ج ) : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( النساء : 59 ) .

( د ) : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ( النساء : 65 ) .

( هـ ) : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ( المائدة : 49 ) .

( و ) : { أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ( المائدة : 50 ) .

( ز ) : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } ( المائدة : 3 ) .

خلاصة الآيات الكريمة جميعاً : أن الله - تعالى - شرع لنا ديناً جامعاً ، وألزمنا إلزاماً باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وجعله فوق الكفاية ؛ بحيث لا نحتاج إلى استعارة أي حكم أو تشريع من غيره ، ولذلك أَلزَمَنا بالدخول في كافة شرائعه ، وحرَّم علينا تفرقته وتجزئته تحريماً قطعياً ؛ لأن هذا ينافي الإيمان ، ويبطل دعوى صاحبه في دخول الإسلام .

وقد استفاض أئمة التفسير في تقرير هذه المعاني عند تفسير هذه الآيات الجامعة ، وبيان تفصيلاتها الجزئية ، وما يندرج تحتها في العقائد ، والأخلاق ، والعبادات ، والمعاملات : كآيات البيع ، والرهن ، والنكاح ، والطلاق ، والعدة ، والرضاع ، والنفقة ، والميراث ، والوصية ... وغير ذلك من شؤون الحياة جميعاً التي تربو على الإحصاء والعد ، بما يجِدُّ فيها من جديد دائم ، ينضوي تحت هذا الشمول الجامع لقواعده ، وأصوله ، وشُعَبِه المتكاثرة .

ثانياً : كثرة شُعب الإيمان في ضوء السُّنة المطهرة : والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : « الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان »[1] .

وقد ألَّف العلماء في شرح هذه الشُّعب كتباً جليلة منها : كتاب ( المنهاج ) لأبي عبد الله الحليمي الشافعي ( توفي 403 هـ ) .

وكتاب ( شُعب الإيمان ) لأبي بكر البيهقي ( توفي 458هـ ) وقد زاد فيه على كتاب شيخه الحليمي ، وبلغ بالشعب : ( 77 ) شعبة ، واستدل لكل منها بدليل من الكتاب أو السُّنة .

وقد بلغ بعضهم بها ( 79 ) شعبة كما روي ذلك عن أبي حاتم بن حبان البستي .

وهل المراد هنا العدد بذاته ، أم المراد بيان الكثرة وسعتها ؟ « لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ولا تريد التحديد بها » .

كما قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير آية : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ( التوبة : 80 ) .

فإن أريد تحديد العدد ، فإن في كل شعبة عشرات أو مئات من الأحكام التي تندرج تحتها ، وبذلك يخرج العدد عن حدود الحصر .

وإن أريد التكثير عاد المعنى إلى القصد الأول ؛ فيثبت ( الشمول)في كل الأحوال ... والحمد لله رب العالمين .

نموذج من كلام العلماء في الشمول الإسلامي : أورد الحافظ ابن حجر في شرح البخاري شيئاً من ذلك ، فقال : « إن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب ، وأعمال اللسان ، وأعمال البدن :

- فأعمال القلب فيها المعتقدات والنيَّات ، وتشتمل على ( أربع وعشرين خصلة ) : الإيمان بالله ، ويدخل فيه : الإيمان بذاته وصفاته ، وتوحيده ، وأنه ليس كمثله شيء .

والإيمان بملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر خيره وشره ، والإيمان باليوم الآخر ، ويدخل فيه : المسألة في القبر ، والبعث ، والنشور ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، والجنة والنار ، ومحبة الله ، والحب والبغض فيه ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - واعتقاد تعظيمه ، ويدخل فيه : الصلاة عليه ، واتباع سنته ... والإخلاص ، ويدخل فيه : تَرْك الرياء والنفاق ، والتوبة ، والخوف ، والرجاء ، والشكر والوفاء ، والصبر ، والرضا بالقضاء ، والتوكل والرحمة ... والتواضع ويدخل فيه : توقير الكبير ، ورحمة الصغير ، وترك الكِبْر ، والعُجب ، وترك الحسد والحقد ، والغضب .

- وأعمال اللسان : وتشتمل على ( سبع خصال ) .

- وأعمال البدن وتشتمل على ( ثمان وثلاثين خصلة ) منها ما يختص بالأعيان ، وهي ( خمس عشرة خصلة ) وعدَّ منها : التطهُّر ، والعبادات جميعاً ... ومنها ما يتعلق بالاتباع ، وهي ( ست خصال ) : التعفف بالنكاح ، والقيام بحقوق العيال ، وبر الوالدين ، واجتناب العقوق ، وصلة الرحم ، وتربية الأولاد ... وفيها ما يتعلق بالعامة ، وهي ( سبع عشرة خصلة ) : القيام بالإمرة مع العدل ، ومتابعة الجماعة ، وطاعة ولي الأمر ، والإصلاح بين الناس ، وإقامة الحدود ، والجهاد ، وأداء الأمانة ...

وحُسن المعاملة ، وفيه : جمع المال من حِلِّه ، وإنفاقه في حقه ، ومنه : ترك التبذير والإسراف ، وإماطة الأذى ... » .

ويختم ذلك بقوله : « فهذه ( تسع وستون خصلة ) ويمكن عدُّها ( تسعاً وسبعين خصلة ) باعتبار أفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض مما ذكره والله أعلم »[2] .

ويتضح أن الحافظ ابن حجر - رضي الله عنه - أدخل في ( شُعب الإيمان ) كل التكاليف التي شرعها الله - تعالى - لعباده ، في كل شؤون الحياة العامة والخاصة ، وهذا هو معنى الشمول الإسلامي كما بينه علماؤنا - رضي الله عنهم - أخذاً من القرآن الكريم ، والسُّنة المطهَّرة .

أربع شعب جوامع : وقد وفَّق الله - تعالى - بعض العلماء المعاصرين إلى اجتهاد نافع في حصر هذه الشُّعب الكثيرة ، بردها إلى أربع شعب كلية جامعة ؛ لتكون أسهل في الحفظ ، وأيسر في الحصر ، وأكثر في استيعاب ما تحتها من مفردات ومسائل وأحكام ، وأوضح دلالة على جوانب الشمول الإسلامي في التشريع والتكليف ، وهي على الترتيب : ( شعبة الإيمان ، وشعبة الأخلاق ، وشعبة العبادات ، وشعبة المعاملات ) وتفصيل ذلك كالتالي :

أولاً : شعبة الإيمان : ونعني بها شعبة التصديق الجازم ، والاعتقاد الخالص بأصول الدين ، من الإيمان بالله - تعالى - وملائكته ، وكُتبه ، ورُسُله ، واليوم الآخر ، ويدخل تحتها كل ما جاء في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة عن الإلهيات ، والنبوات ، والسمعيات ، وحقائق الغيب التي جاء بها الوحي المعصوم ، وهذا جانب واسع جداً ، ولا يوجد مثله صحيحاً موثَّقاً عند غير المسلمين ، بعدما حرَّف أهل الكتاب ما جاءتهم به رسلهم عليهم السلام .

ثانياً : شعبة الأخلاق : وهي السجايا النفسية الراسخة ، التي يصدر عنها السلوك الإنساني الخارجي من خلال إرادة حرة ، ونية صالحة .

والأخلاق هي الأصل الثاني في دين الله - تعالى - لذلك أمر بأحسنها ، ونهى عن سيئها ، كما قال - تعالى - :{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } ( النحل : 90) .

وقد استفاض القرآن الكريم في بيانها ، وتحديدها ، والدعوة إليها ( أمراً ونهياً ) ابتداءً من العهد المكي ، عهد التكوين والتأسيس الديني ، وتابع ذلك بكثرةٍ - أيضاً - في العهد المدني ، مما يدل على أهميتها البالغة ، ومكانتها في دين الله - عز وجل - وضرورتها في كل جوانب الحياة .

ومن هذه الأخلاق الحسنة : الصبر ، والإخلاص ، والصدق ، والأمانة ، والعدل ، والفضل ، والعفة ، والتعاون ، والإيثار ، والبذل ، والسخاء ، واللين ، والعفو ، والاعتدال في الأقوال والأفعال ، والوفاء بالعهود والوعود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهر بالحق ، والشورى ... إلخ .

ومن الأخلاق السيئة التي شدد في النهي عنها : الخيانة ، والغدر ، ونقض العهود ، والكذب ، وشهادة الزور ، والإسراف ، والغِلظة ، والفحش ، والكبر ، والغرور ، والفخر ، والبطر ، والرياء ، والحقد ، والحسد ، والغيبة ، والنميمة ، والسخرية والتنابز بالألقاب ، والتجسس ، وظن السوء .. إلخ .

ثالثاً : شُعبة العبادات : ونعني بها ما شرعه الله - تعالى - ليكون عبادة له - سبحانه وتعالى - قولاً ، أو فعلاً : كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والجهاد ، والذكر ، والتفكُّر في عظمة الله وبديع خلقه ، وتلاوة القرآن ... ونحو ذلك .

رابعاً : المعاملات : ونعني بها الأحكام التي شرعها الله - عز وجل - المتعلقة بتصرفات الناس ، وعلاقتهم ببعضهم البعض ، في كل شؤون حياتهم : كأحكام البيع ، والرهن ، والتجارة ، والمزارعة ، والإجارة ، والنكاح ، والرضاع ، والطلاق ، والعدة ، والهبة ، والهدية ، والنفقة ، والميراث ، والوصية ، والحرب ، والصلح ، والهدنة ، ومعاملة الأسرى ، وتقسيم الفيء والغنائم ، والحكم بالعدل ، والنهي عن الظلم ، والجور في الأموال ، والربا ، والزنى ... وغيره .

وقد أُلحق بهذا الباب الشرائع والأحكام التي تحمي الناس في دينهم ، ودمائهم ، وأعراضهم ، وأموالهم : كشرائع الحدود والقصاص ، والجهاد في جانبه التعاملي ، بعد جانبه العبادي الذي مر ذكره .

وقد فصلنا ذلك في كتاب ( المنهاج القرآني في التشريع ) لمن شاء المزيد .

« وهكذا استوعبت هذه الشعب الأربع جميع الأحكام والتكاليف الإلهية التي شرعها الله - تعالى - لعباده ، والتي اجتهد العلماء قديماً في عدها لتوافق منطوق الحديث الشريف ، والتي تتسع لأضعاف هذا العدد من حيث المعاني والمفهوم ، تصديقاً وتحقيقاً لقوله - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ( النحل : 89 ) .

تنبيهات ضرورية تتعلق بالشمول الإسلامي : وفي ختام هذا ننبه إلى حقائق بالغة الأهمية تتعلق بالشمول الإسلامي :

أولاً : الشمول عقيدة متواترة : فهو حقيقة معلومة من الدين بالضرورة ، وعقيدة يقينية منقولة إلينا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضي الله عنهم - نقلاً متواتراً ؛ ولذلك يجب الإيمان بشمول الإسلام لكل شؤون الحياة من حيث المبدأ ، ولا يحل إنكار الشمول أو إنكار جزء منه ، وإلا كان ذلك نفاقاً في الدين ، أو ردَّة عنه .

أما النفاق فأدلته كثيرة جداً في الكتاب والسُّنة ، ومنه الآيات المتتابعة في سورة النساء ، ومنها قوله - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } ( النساء : 61 ) .

وقوله - تعالى - : { وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ( النور : 47 ) .

أما الردَّة ، فقد تقع بتجزئة الدين ، وتبعيض أحكامه ، كما قال تبارك وتعالى :} أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ } ( البقرة : 85 ) .

فسمى الله - تعالى - التجزئة في الدين ( كفراً ) يُبطل الإيمان السابق ، ولذلك توعَّد عليها بخزي الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة ، وهو لا يكون إلا للكفار ، كما قال الله - عز وجل - في آل فرعون : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ } ( غافر : 46 ) .

ولذلك حرَّم الله - عز وجل - أشد التحريم هذه التجزئة للدين ، وهذه التفرقة بين أحكامه من حيث الإيمان بها ، والتصديق بمشروعيتها ، وقد حذر الله – تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من هذا العمل فيما لا يحصى من الآيات .

ولذلك كانت هذه القضية على غاية الوضوح في الأمة الإسلامية طوال تاريخها ، وكانت من المسلَّمات حتى عند أهل الذنوب والمعاصي ، لا ينكرونها ، ولا يجادلون فيها ، إلا إذا كانوا من الزنادقة ، أو أهل البدع والأهواء المهلكة !

فلما رُزئت الأمة بالاحتلال الأوروبي الكافر ، أشاع فيها هذه المفاهيم الخاطئة ، بجعل الدين مقصوراً على المفهوم الأوروبي النكد : أي أنه علاقة بين العبد وربه فقط ، أما شؤون الحياة ، فيزاولها الإنسان ، ويشرِّع لها ، أو يبتدع فيها بهواه ، أو كما قال بعض طواغيتهم : « يتولى الإنسان المقعد مكان الله ! » تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً .

ومن هنا اندلع في العالم الإسلامي هذا الضلال الوافد ، الذي يفرق بين الاعتقاد والاقتصاد ، وبين الدين والسياسة ، أو يقسم الحياة بين الدين والقانون الوضعي ؛ فيجعل للدين الصلاة ... ونحوها ، ويجعل للقانون كل ميادين الحياة الاقتصادية ، والسياسية ، والثقافية ، والتعليمية ... إلخ .

وسيظل الصراع محتدماً بين الحق والباطل ، حتى يفيء المسلمون إلى أمر الله ، ويكون الدين كله لله .

 

ثانياً : الشمول وعقيدة التوحيد : فقد تقرر عندنا نحن المسلمين أن الله - عز وجل - هو الحاكم الهادي ، وأنه - سبحانه - له وحده ( الخلق والأمر ) يحكم ما يشاء ، ويشرِّع ما يريد ، ويأمر وينهى ولا منازع له ، ولا معقِّب عليه في حكمه الجليل .

وقد شرَّع لعباده طوال التاريخ البشري على ألسنة رسله - عليهم السلام - وبواسطة كتبه الجليلة ، ووحيه الحكيم .

واستنكر على كل من يتطاول إلى هذه الخصوصية الإلهية التي تفرد بها - سبحانه وتعالى - كما قال - عز وجل - : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ( الشورى : 21 ) .

ولذلك جاءهم بدين كامل الصفات ، تام الأحكام ، ليس فيه أدنى نقص أو خلل فمن لم يؤمن بشموله واستباح الأخذ من غيره ، أشرك به - سبحانه وتعالى - وكفر بمقررات الوحي الإلهي ، ولذلك كان على رأس المهمات : الاعتقاد بوحدانية الله - تعالى - واليقين بشمول دينه الحق ، والكفر بكل طاغوت يشرع من دون الله ما لم يأذن به الله .

وهذه قضية إيمانية قطعية ، ينبغي أن ينتبه إليها كل موحد ، وأن يجعلها على رأس دعوته وجهاده في سبيل الله عز وجل .

ثالثاً : شمولنا وشمولهم : لقد شاع في الاستعمالات الحديثة مصطلح ( الأنظمة الشمولية ) وهي صفة ذم وطعن باطِّراد لِمَا عُرف عن هذه الأنظمة من استبداد ، وغطرسة ، وظلم ، وما أوقعته بالناس من مظالم ومآس فادحة ، وذلك كالشيوعية ، والنازية ، والفاشية ... إلخ .

فهل ( الشمول الإسلامي ) يشبه شيئًا من ذلك ؟

• من حيث ( المبدأ ) يختلف الشمول الإسلامي عن كل ما عُرف في الأرض قديماً وحديثاً ؛ لأن شارعه هو الله الرحمن الرحيم الذي { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ( الأنعام : 12 ) المتفرد بالحكمة التامة ، والعدل المطلق ، والفضل العظيم .

• ومن حيث ( التشريع ) الذي أقامه الله - تعالى - على الحق ، والخير ، والعدل ، والإحسان ، وجعل من مقاصده الكبرى الإصلاح ومنع الفساد والإفساد في الأرض : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ( الحديد : 25 ) .

{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا }(الأعراف : 55-56 ) .

{ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } ( الشعراء : 151-152 ) .

• ومن حيث ( التطبيق ) الذي أمر فيه بكل خير ، ونهى فيه عن كل شر ؛ فأمر بالأمانة والعدل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء : 58 ) .

• ونهى عن الغدر والخيانة : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ( الأنفال : 58 ) .

• وأوصى برعاية الأسير : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } ( الإِنسان : 8 ) .

• وجعل الحق والعدل فوق كل فوارق التمييز والعنصرية المهلكة : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ( الأنعام : 152 ) ، { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } ( النساء : 135 ) .

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ( المائدة : 8 ) .

والمعنى : لا يحملنَّكم بُغْض المشركين على الجور ، بل اعدلوا حتى مع هؤلاء الأعداء الذين يحادُّون الله ورسوله .

ومن هذه الرحمة المهداة كان فرض ( الجهاد ) لحماية الدين والأنفس ، مع غاية العدل والإنصاف : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ( البقرة : 190 ) .

إننا لا نقصد إلى المقارنة أو الموازنة بين الحق الإلهي واللغو البشري ، وإنما أردنا التذكرة بجلال الحق الإلهي المنير ، ليزداد الذين آمنوا إيماناً ، وكي لا ينخدع أحد من المسلمين بأضاليل الجاهلية الجهلاء :

وما يستوي وحي من الله منزَّل      وقافية في العالمين شرود

رابعاً : مراتب التكليف :

ومن إعجاز هذا التشريع الإلهي الشامل ، وامتيازه ، وتفوقه ، وقيامه على تمام الحكمة والرحمة : أن الله - عز وجل - جعل هذا ( الشمول التشريعي ) على مراتب متعددة ، وعلى درجات متنوعة ، وعلى صفات متكاملة متماسكة ، تيسيراً على عباده ، وشحذاً لهمم الراغبين في الترقي ، ورفعاً لدرجاتهم في حياة ( الخلود الأبدي ) التي تسقطه مذاهب البشر من حساباتها المادية الغليظة ؛ فتحرم أتباعها من سعادة الدارين .

لذلك تضمَّن هذا ( الشمول الإسلامي ) تشريعات إلهية متعددة الجوانب ، ففيه :

• تشريعات للأفراد بأعيانهم كلٌّ بما يناسبه : كالصلاة ، والزكاة ، والصيام .

• وتشريعات للجماعات فيما لا يستطيعه الإنسان بمفرده .

• وتشريعات للحكومات لتكتمل دائرة الإصلاح في الأمة الواسعة .

وجعل الله - تعالى - تشريعاته تدور بين ( الفرائض ) الملزِمة ، وبين الواجبات المقرَّرة ، أو بين الممنوعات المحرمة والمباحات المتعددة ، أو المندوبات والنوافل التي يغري ثوابها الجزيل بمزاولتها وفعلها ، عن رضاً واختيار وتطوع .

واختص - سبحانه وتعالى - بتحديد الحلال والحرام ؛ لأنه يملك - وحده - العلم المحيط ، والحكمة المطلقة ، والقدرة الشاملة ، لذلك أنكر أشد الإنكار على المخلوقات ، أن تزاول هذه المهمة البالغة ؛ لأنهم محدودون علماً وحكمةً ، قاصرون فهماً وإحاطةً ، قابلون للتأثُّر بالأهواء والمصالح ، والوقوع في المظالم ، وأخطرها مظالم التشريع ومناهج الحياة التي تؤثِّر في ( ملايين ) البشر في أجيال متعددة !

قال - تعالى - : { قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } ( يونس : 59 ) .

{ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ( النحل : 116 ) .

وقد جاء بيان مراتب التكليف في القرآن الكريم ، والسُّنة المطهرة ، كما قال - تعالى - : { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ( النساء : 11 ) .

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } ( البقرة : 183 ) .

( وكتب ) مثل ( فرض ) وزناً ومعنى .

ويقول - تعالى - في الطواف : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ } ( الحج : 29 ) .

وفي التطوع منه يقول - تعالى - : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 158 ) .

ومِن أَجْمَع الآيات الكريمة لمراتب التكليف ، وأنواعه ، وشُعبه الجامعة أية البر : { وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( البقرة : 177 ) فهي شاملة لأصول الإيمان ، وعقائد الدين : وتجمع شعب الإيمان كلها : من الإيمان ، إلى الأخلاق ، والعبادات ، والمعاملات .

وهي تذكر الفرائض العليا ، ثم التطوعات ، مثل : الزكاة المفروضة ،والحقوق المالية الواجبة ، والصدقات .

وهي تنبه على أصول الأخلاق بنوعيها : الفرائض والفضائل كالوفاء بالعهود ،والصبر ، والصدق .

وقريب من هذا ( الشمول ) التشريعي الجامع قوله - صلى الله عليه وسلم -:« إن الله فرض فرائض ، فلا تضيعوها ، وحد حدوداً ، فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها ».[3]

وقد نُقِل عن السمعاني قوله : « هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين » .

وحكى عن غيره : « ليس في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد أَجْمَعُ بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة الخشني » .

وقال أبو واثلة المزني : « جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الدين في أربع كلمات » .

وقال الحافظ ابن السمعاني : « فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدين ؛ لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة »[4] .

فالحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا الحق المبين . وصلى وبارك على محمد رسوله الأمين ، الذي بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة . ورضي الله عن الصحابة أجمعين . وعلى ورثة الأنبياء من العلماء العاملين .

وهدى الله أمة الإسلام إلى أحسن الإيمان ، وخير الأعمال ... آمين .

 

 


(1) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب شعب الإيمان : 1/46 ، ورواه البخاري كتاب الإيمان ، باب أمور الإيمان : 1/9 بلفظ : « بضع وستون شعبة » ورواه أصحاب السنن الثلاثة بلفظ : « بضع وسبعون شعبة » بالجزم ، والمراد بالإيمان هنا : الدين الإسلامي كله .

(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 1/52 ، 53 بتصرف يسير .

(3) رواه الدارقطني وغيره ، وحسنه النووي في الأربعين ، وحسنه قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في أماليه ، كما قال ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم ج 2) .

(4) راجع في هذا ، كتاب : الجامع في شرح الأربعين النووية ، للشيخ محمد يسري : 2/1081 وما بعدها .

 

 

 

أعلى