هل تأخر الغيث؟ تأمل الأسباب التي ذكرها الله في كتابه: الاستقامة، والتقوى، وشكر النعم، وكثرة الاستغفار، والدعاء بيقين… فبها تُستجلب الرحمة، ويُستنزل الغيث، وتُبارك الأرزاق.
الحمد لله الغني الكريم؛
جزيل العطاء، كثير النوال، يرزق العباد في الليل والنهار، فلا تنفد له خزائن، ولا
ينقطع له عطاء، ولا ينقص شيء من ملكه، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يحب من عباده حسن الظن به، وصدق التوكل عليه،
والضراعة إليه، وكثرة الإلحاح عليه، ودعاءه في الكربات، واللجوء إليه في الملمات،
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يخرج بالناس إلى المصلى للاستسقاء إذا أمسكت
السماء، وأجدبت الأرض، يصلي ويستغفر ويدعو، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعبدوه واستغفروه، وادعوه واسألوه، واستسقوه واستغيثوه
﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ * وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ
فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾
[الأعراف: 56- 57].
أيها الناس:
جعل الله تعالى للغيث المبارك أسبابا ذكرها في كتابه الكريم؛ ليأخذوا بها، فتمطر
أرضهم بإذن الله تعالى، وينبت زرعهم، وتشبع نعمهم، ويكثر خيرهم، ويبارك لهم
في رزقهم؛ فإن الرزق من الله تعالى، يبسطه لعباده بما يصلح لهم، ولو زاده عليهم
أفسدوا وبغوا ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي
الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ
بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]، وبعد هذه الآية مباشرة آية إنزال الغيث؛
ليعلم العباد أن الله تعالى ينزله برحمته، ويحبسه بحكمته ﴿وَهُوَ الَّذِي
يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28].
ومن أسباب نزول الغيث:
الاستقامة على أمر الله تعالى؛ فقد أُمرنا بذلك ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [هود:
112]، وفي كونه سببا لنزول الغيث قول الله تعالى ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا﴾ [الجن: 16].
ومن أسباب نزول الغيث:
تحقيق الإيمان والتقوى، والعمل بالشرع الحنيف؛ كما قال الله تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96]. وفي آية أخرى قال تعالى ﴿وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا
مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة: 65- 66].
ومن أسباب نزول الغيث:
شكر الله تعالى على نعمه؛ فإن الشكر يقيد النعم الحاضرة، ويجلب النعم الغائبة. كما
أن كفر النعم يزيل النعم الموجودة، ويمنع النعم المرجوة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7]، ومن العذاب حبس القطر، وجدب الأرض، وجفاف الضرع، ويبس
الزرع، وليس لله تعالى حاجة في تعذيب عباده، ولكنها عقوبات على ما اجترحوا من
السيئات ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ
وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 147]، ولا يصابون إلا ببعض ذنوبهم
وليس بجميعها وإلا لهلكوا ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، وقال تعالى ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾: [الشورى 30]. ومن شكر
الله تعالى نسبة الأرزاق إليه سبحانه، وعدم نسبتها للخلق ﴿هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ [غافر: 13]،
وقال تعالى ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22]،
وقال تعالى ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة:
82]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
«تَجْعَلُونَ
شُكْرَكُمُ التَّكْذِيبَ».
وفي الحديث القدسي قَالَ الله تعالى:
«أَصْبَحَ
مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ
اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ
قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ
بِالْكَوْكَبِ»
رواه مسلم.
ومن أسباب نزول الغيث:
كثرة الاستغفار؛ لقول الله تعالى على لسان نوح عليه السلام ﴿فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ
وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12]. وقوله تعالى على لسان هود عليه
السلام أنه قال لقومه ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].
ومن أسباب نزول الغيث:
الاستسقاء بالصلاة والدعاء ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا
اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ
عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]. واستسقى النبي صلى الله
عليه وسلم بالدعاء يوم الجمعة على المنبر، وخرج بالناس وصلى بهم الاستسقاء ودعا
الله تعالى حتى سقوا، فادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة، وأكثروا التضرع
والاستغفار؛ فإن ربكم كريم قريب مجيب.
نَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَنَتُوبُ
إِلَيْهِ.
اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ
الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا
قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا.
اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا.
اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا، هَنِيئًا مَرِيئًا، مَرِيعًا غَدَقًا،
مُجَلَّلًا عَامًّا، طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا
تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إِنَّ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ
وَالْبَهَائِمِ وَالْخَلْقِ مِنَ اللَّأْوَاءِ وَالْجَهْدِ وَالضَّنْكِ مَا لَا
نَشْكُوهُ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ، وَأَدِرَّ لَنَا
الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ، وَأَنْبِتْ لَنَا مِنْ بَرَكَاتِ
الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ، وَاكْشِفْ
عَنَّا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا
نَسْتَغْفِرُكَ إِنَّكَ كُنْتَ غَفَّارًا؛ فَأَرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا
مِدْرَارًا.
اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَكَ، وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ، وَأَحْيِ
بَلَدَكَ الْمَيِّتَ.
اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، لَا عَذَابٍ وَلَا بَلَاءٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا
غَرَقٍ. وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
عِبَادَ اللَّهِ:
حَوِّلُوا أَرْدِيَتَكُمْ تَفَاؤُلًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيُغَيِّرُ
حَالَنَا، فَيُغِيثُنَا غَيْثًا مُبَارَكًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَادْعُوهُ مُسْتَقْبِلِينَ
الْقِبْلَةَ، وَأَيْقِنُوا بِالْإِجَابَةِ، وَأَكْثِرُوا الصَّدَقَةَ
وَالِاسْتِغْفَارَ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى
الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.