• - الموافق2025/12/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
خواطر من الروضة النبوية الشريفة

تجربة روحية غامرة في الروضة الشريفة تُلامس القلب، يعيش فيها الزائر حضور النبي وصحابته وكأن الزمن يعود، لتفيض سكينة لا تُوصف، وتترسخ في النفس مشاعر الشوق والمحبة والرجاء في صحبته يوم القيامة.


كنتُ يومًا أجلس في الروضة النبوية الشريفة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، بعد صلاة المغرب من يوم السبت 10 جمادى الأولى 1447هـ الموافق 1/11/2025 وكنت أترقّب صلاة العشاء وقلبي يخفق كأنه يستعد لولادة لحظة لا تُشبه شيئًا مما أعرفه من قبل. وما إن وضعتُ قدميّ على رحابها الطاهرة حتى شعرتُ أنّ الأرض ليست الأرض التي أعرف، وأن الهواء ليس له شبهٌ في الدنيا، وأن الأنفاس تتغيّر حين دخلت نطاق هذا النور العظيم. وكأنّ بوابة غيبية تُفتح، ليدخل منها قلبي قبل جسدي، ويتخفف من ثقل العالم وهمومه لينسلّ إلى عالم أصفى وأرقّ وأطهر مما يخطر على قلب بشرِ ضعيف مثلي.

إنها روضةٌ من رياض الجنة، كما أخبر بذلك سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، ولكنّ العجب أنني حين جلست في الدوحة النبوية أدركت أنّ الجنة ليست وعدًا يُنتظر، بل نفحة تُذاق، وسكينةٌ تحسستها حين لامست قدماي بساط الروضة في هيئة نور كأنّه تغشّاني من كل جنباتي.

وجلستُ في تلك الأمسية الماتعة أستند إلى ساريةٍ من سواري الروضة، وأتأمل الجدران التي شربت من تاريخ النبوة وأنوار الوحي، وأشعر أن شيئًا غير مرئي يلامس روحي، ويربت على قلبي بحب غامر، وكأنّ المكان يعرفني ويحتضنني ويقول لي: (مرحبًا بك في حضرة النور، فأنت الآن في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم).

ولمّا حضر وقت صلاة العشاء، أخذني الحنين إلى زمنٍ لم أعشه، لكنه يعيش في داخلي وفي وجداني منذ أن عرفتُ معنى (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين)، فأغمضتُ عيني لحظة وإذا بالأزمان تتفتح أمامي كأبواب، وإذا بالماضي ينساب نحوي كأنه يريد أن يكتمل بناظريّ إليه.

وكأنّي أرى الصحابة الكرام وهم يعودون للحياة أمامي، ويصطفّون للصلاة، ثم جلستُ بينهم، ولم أكن غريبًا، بل كنتُ واحدًا من عشاق ذلك الجيل، وواحدًا ممّن تمنّوا لو رأوا الحبيب صلى الله عليه وسلم ولو لحظة من الزمن، فإن تلك اللحظة تعدل الدنيا بكل زينتها وكنوزها وبهرجتها.

وكأنّي أرى بلال بن رباح رضي الله عنه واقفًا عند باب النبي صلى الله عليه وسلم، ووجهه يشعّ بخشوعٍ لا يُنسى، وصوته الندي ينساب من فمه قبل أن يصل إلى المآذن صوتٌ طاهر يوقظ القلوب: (الصلاة الصلاة يا رسول الله)، يا الله كيف اخترق النداء قلبي كما اخترق زمن الصحابة؟ وكيف استشعرتُ أن النداء موجة نورٍ عبرت كل القرون لتستقرّ في روحي؟!

ومضت روحي إلى أهل الصُّفّة هؤلاء الفقراء الذين كانوا أغنى الخلق بالله، وجوههم تشبه السراج في ليلٍ مظلم، وقلوبهم تشبه السحاب الهاطل بالغيث، وكأنّي أنظر إليهم يجلسون على طرف الروضة، يحملون الدنيا في قبضة زهد، ويحملون الآخرة في عيونٍ لا ترى إلا الله.

وكأنّي أناظرّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أقرب الأصحاب الى رسول الله.. يا لسكينته! ويا لطمأنينته والهيبة والوقار والإيمان الذي استقر في أعماق فؤاده! وكأنه يمشي في روضة النور، فإذا المكان يهدأ، وإذا النفوس تطمئن، وإذا السكينة تتنزل مع خطاه، وكأن الدوحة النبوية تناديه تقول له: (على الرحب والسعة يا صديق رسول الله، ويا صاحبه في الغار، ويا أقرب العباد إلى قلبه صلى الله عليه وسلم).

ثم تلفتُّ وكأنّي أرى الفاروق عمر رضي الله عنه واقفاً كأنه سورٌ يحمي حمى الدين، وخشوعه ووقفته، وقوته ودمعته، ورهبته، كلها واضحة للعيان، وبدا لي كأنه يستعد للصلاة بكل ما فيه من صدق، ويقف أمام الله كما يقف الجندي أمام قائده الأعلى، لا يملك إلا قلبًا خاشعًا، ودمعة حبّ، ونية صافية.

ثم حوّلت أنظاري الى سواري الروضة وكأني أرى أنساً بن مالك وزيداً بن ثابت وهما يضعان الطيب على جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعرتُ لحظتها أن العبق الذي يفيض من المكان الآن، ليس عبقًا من عطرٍ يُشترى، بل من ذكرى طيبٍ لامس أطهر جسد من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.

ثم بدا لي كأنّ عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يناول السواك لرسول الله، بيدٍ ترتجف هيبةً ومحبة ووقاراً، كأني به وهو يقول: (ليتني أستطيع أن أقدّم لك قلبي بدل السواك).

وكأنّي بابن عباس وهو يتتبع أثر النبي يتقدم لإمامة الصحابة، وكأنه يخطو خلفه يخشى أن تضيع منه خطوة واحدة، كأنه يتعلّم من أثر القدم ما هو أعظم من الكتب كلّها.

ثم تخيلتُ الأنصار، ويا لعظمة حضورهم! وكأنّهم يتجمعون ويرصون الصفوف، ويعلنون للدنيا أنهم قومٌ إذا أحبّوا أخلصوا، وإذا بايعوا صدقوا، وإذا وقفوا بين يدي الله لا تثنيهم النوائب، وكأنّي أسمعهم يقولون بأرواحهم قبل ألسنتهم: (طبتَ وطابت بك المدينة يا رسول الله).

ثم التفتُّ حولي، وكأنّي بصفوف الصحابة تمتدّ، وتمتدّ، وتكبر حتى صارت تطوّقني، فشعرتُ أنني لست زائرًا في الروضة الشريفة فحسب، بل شاهدًا على زمنٍ تعود لي فيه الحياة، وكأن الروضة فتحت لي بابًا لأرى ما لا يُرى، ولأعيش ما لا يُعاش، حينها قلت في نفسي: (إن كانت الجنة تشبه ما أشعر به في هذه اللحظة، فنعيمها لا يُوصف أبداً، بل يُعاش حتى يُوصف).

        ثم رددت قول الله جلّ وعلا: ﴿وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده﴾ [الزمر: 74]  يا الله ما أعظم نعمتك! كيف جعلت لهذه البقعة قدرةً على جمع القلب المكسور، وشفاء الروح المتعبة، وغسل الحزن من صدرٍ لم يجد الا لذّة القرب من الله.

الحمد لله على نعمة الجلوس في هذا المكان المبارك، والحمد لله على لحظة امتلأ فيها القلب قربًا وخشوعًا ودمعًا لا يشبه دموع أهل الدنيا، ولسان حالي يقول: (يا رب، لا تحرمني لذّة القرب منك)، ثم وجدت نفسي أردد دون شعور قول الله جلّ وعلا: ﴿تلك الدار الآخر نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ﴾ [القصص: 83]

ثم أدينا صلاة العشاء، وسلمت على رجل يجلس عن يميني من أهل السودان قد تأثر لحالي، وخرجت للسلام على رسول الله وصاحبيه رضي الله عنهما، ورفعت رأسي وأديت السلام على رسول الله وصاحبيه وخرجت، وقلت في داخلي: (صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، ما عرفتك القلوب إلا اشتاقت لك، وما ذكرك الذاكرون إلا بكوا، وما أحبك أحد إلا شعر أن الدنيا لا تساوي شيئًا بدونك).

اللهم يا ربَّ الروضة، ويا ربَّ البيت الذي عاش فيه نبيك، يا رب المنبر الذي صدح منه نور الهداية، اجعلنا ومن نحب من أصحابه ورفقائه، ومن الذين يشربون من حوضه، ومن الذين تُفتح لهم أبواب الفردوس الأعلى معه. اللهم لا تجعل بيننا وبينه حجابًا، ولا تجعل يومًا يمرُّ بلا شوقٍ إليه، ولا قلبًا يخلو من ذكره، وارزقنا اتباع سنته في الدنيا وصحبته يوم العرض عليك.. اللهم آمين.



أعلى