• - الموافق2025/12/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
منظمة حباد.. من الدعوة لليهودية إلى هندسة النفوذ الصهيوني

تكشف قراءة دور وتأثير منظمة "حباد" خارج الأقنعة الدينية عن تنظيم أيديولوجي متماسك، لعب دورًا محوريًا في تديين الصهيونية، وتحويلها من مشروع سياسي قابل للنقاش إلى عقيدة مغلقة تُبرّر الاحتلال والعنف


لم يأتِ اسم منظمة "حباد" إلى الواجهة العالمية من فراغ، بل أعاد هجوم سيدني في أستراليا، الذي وقع خلال احتفالات عيد "الحانوكاه" اليهودي، تسليط الضوء على تنظيم ديني طالما عمل خلف واجهات الوعظ والخدمة الاجتماعية، بينما يؤدي في الواقع دورًا أيديولوجيًا وسياسيًا متقدمًا في خدمة الصهيونية المتطرفة. فـ "حباد" ليست مجرد حركة يهودية تهتم بشؤون اليهود في الشتات، كما تحاول أن تُقدِّم نفسها، بل شبكة عالمية منظمة، تتبنى خطاب أرض إسرائيل الكبرى والكاملة، وتضطلع بدور فاعل في دعم الاستيطان، وتبرير العنف، وربط العقيدة الدينية بالمشروع التوسعي الإسرائيلي. من هنا، تأتي أهمية تناول "حباد" لا بوصفها ظاهرة دينية معزولة، بل كأحد أخطر الأذرع الأيديولوجية للصهيونية المعاصرة، بما تحمله من دلالات على تديين الصراع وتحويله إلى صراع وجودي مفتوح.

مشروع أيديولوجي متطرف

لم تظهر منظمة "حباد" بوصفها ذراعًا صهيونيًا منذ لحظة تأسيسها الأولى في أوروبا الشرقية أواخر القرن الثامن عشر، إذ نشأت في سياق ديني تقليدي، هدفه الأساسي ترسيخ التديّن اليهودي ومواجهة تيارات التنوير والاندماج التي اجتاحت المجتمعات اليهودية آنذاك. غير أن التحولات الكبرى التي شهدها القرن العشرون ــ ولا سيما قيام الكيان الإسرائيلي وصعود الصهيونية بوصفها مشروعًا سياسيًا جامعًا ــ دفعت "حباد" تدريجيًا إلى مغادرة موقعها الديني المحض، والانتقال إلى فضاء أيديولوجي أوسع، باتت فيه العقيدة أداة تعبئة، والتنظيم وسيلة نفوذ، والجغرافيا ساحة اختبار دائم.

هذا التحول لم يكن فجائيًا، بل تراكميًا، تشكّل عبر مسارات متعددة:

1- انتقال مركز الحركة إلى الولايات المتحدة، وهناك وجدت "حباد" فضاءً سياسيًا واجتماعيًا يسمح بتحويل التنظيم الديني إلى شبكة نفوذ عابرة للحدود، مستفيدة من هامش الحرية الدينية، وقوة المؤسسات المدنية، وتداخل المال بالدين والسياسة، كما أتاح لها الحضور في المجتمع الأمريكي نسج علاقات وثيقة مع دوائر القرار، ومع التيارات الصهيونية النافذة، ومع جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، ما منحها قدرة استثنائية على التأثير في الرأي العام، وفي السياسات المرتبطة بالصراع في الشرق الأوسط.

 

وجدت "حباد" في البيئة السياسية والاجتماعية الأمريكية مساحة مثالية للتحرك، مستفيدة من خطاب الحرية الدينية، ومن شبكات التمويل، ومن العلاقة الوثيقة بين التيارات الإنجيلية والصهيونية اليهودية

2- توسع شبكتها العالمية، حيث اعتمدت "حباد" في توسعها على نموذج تنظيمي فريد يقوم على تصدير الأيديولوجيا عبر البعثات الدينية الدائمة، لا عبر النشاط الموسمي أو الدعوي العابر. فمن خلال إرسال عائلات كاملة لإدارة "بيوت حباد" في عشرات الدول، نجحت الحركة في ترسيخ حضور طويل الأمد داخل المجتمعات الأخرى.

3- بروز قيادات دينية ذات رؤية سياسية واضحة، على رأسها مناحيم مندل شنيرسون، الذي أعاد تعريف دور "حباد" في العالم، من جماعة حسيدية منغلقة إلى تنظيم نشط، متداخل مع السياسة، ومؤثر في مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، خصوصًا بعد حرب 1967.

4- عدم الاكتفاء بإحياء الشعائر أو خدمة الجاليات اليهودية، بل الإسهام في إنتاج خطاب ديني يشرعن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ويُقدّس السيطرة على الأرض، ويمنح الصراع مع الفلسطينيين بعدًا عقائديًا مغلقًا، تتراجع فيه السياسة لحساب الأسطورة الدينية، ويتحوّل فيه العنف إلى واجب ديني لا يقبل المراجعة.

العقيدة بوصفها أداة

يستند الخطاب الفكري لمنظمة "حباد" إلى قراءة انتقائية للنصوص الدينية اليهودية، خصوصًا أدبيات القبّالة والتفسير الحسيدي، حيث يُعاد توظيف مفاهيم "الشعب المختار" و"أرض الميعاد" ضمن بناء أيديولوجي صارم، يُقصي الآخر، وينزع عنه أي قيمة إنسانية أو أخلاقية. ولا يقتصر هذا الخطاب على الوعظ الداخلي، بل يُقدَّم في صيغة تبريرية للسيطرة والهيمنة، سواء في فلسطين المحتلة أو في الوعي اليهودي العام.

وتكشف نصوص مركزية في أدبيات حباد، وعلى رأسها كتاب بعنوان "التنْيا"، وهو كتاب أساسي في فكر حباد، ألّفه مؤسس الحركة "شنور زلمان من لياودي" في أواخر القرن الـ18، عن رؤية ثنائية حادة للعالم، تُقسّمه إلى يهود وغير يهود، حيث يُمنح اليهود قيمة روحية عليا، بينما يُختزل الآخرون في صورة دونية، تُستخدم لاحقًا لتبرير الإقصاء والعنف. هذه الرؤية، حين تُنقل من المجال الديني إلى الواقع السياسي، تتحول إلى قاعدة فكرية داعمة للاستيطان، ورافضة لأي تسوية تقوم على مبدأ التعايش أو الاعتراف بالحقوق الفلسطينية.

ولعل أخطر ما في هذا الخطاب، أنه لا يُقدّم بوصفه اجتهادًا سياسيًا قابلًا للنقاش، بل كحقيقة دينية مطلقة، ما يجرّد أي معارضة له من مشروعيتها، ويحوّل الصراع إلى معركة صفرية، لا مكان فيها للحلول الوسط أو التسويات التاريخية. وهنا تتلاقى "حباد" مع أكثر تيارات الصهيونية تطرفًا، في تحويل الدين إلى وقود دائم للصراع.

شبكة عالمية منظمة

ما يميّز "حباد" عن غيرها من الجماعات والمنظمات الدينية اليهودية، ليس فقط خطابها، بل بنيتها التنظيمية المحكمة، وانتشارها العالمي الواسع، فالحركة تعتمد على نظام "المبعوثين" أو "الشلوحيم"، وهو النظام الذي ابتدعه الحاخام مناحيم مندل شنيرسون ابتداءً من أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، حيث تُرسَل عائلات كاملة إلى عشرات الدول لإدارة ما يُعرف بـ "بيوت حباد"، التي تُقدَّم رسميًا بوصفها مراكز دينية واجتماعية، لكنها تؤدي في الواقع أدوارًا أيديولوجية وسياسية غير معلنة. وهذه البيوت ـ المنتشرة في أكثر من 80 دولة ـ تشكل شبكة نفوذ ناعمة، تعمل على ربط الجاليات اليهودية بالمركز الأيديولوجي للحركة، وتعزيز الولاء لإسرائيل بوصفها الوطن الروحي الجامع. وفي كثير من الحالات، تتحول هذه المراكز إلى منصات تعبئة سياسية، وجمع تبرعات، ودعم معنوي ومادي للجيش الإسرائيلي والمشاريع الاستيطانية، خاصة في أوقات التصعيد العسكري.

 

ومع تصاعد العدوان على غزة، برز حضور "حباد" بشكل أكثر وضوحًا، من خلال دعمها العلني للجيش الإسرائيلي، ومشاركتها في حملات جمع التبرعات، وتبريرها للقتل الجماعي

ولا يمكن فصل هذا الانتشار عن السياق الأمريكي تحديدًا، حيث وجدت "حباد" في البيئة السياسية والاجتماعية الأمريكية مساحة مثالية للتحرك، مستفيدة من خطاب الحرية الدينية، ومن شبكات التمويل، ومن العلاقة الوثيقة بين التيارات الإنجيلية والصهيونية اليهودية، ما منحها قدرة استثنائية على التأثير، تتجاوز حجمها العددي الحقيقي، وقد أشارت تقارير إلى أن شخصيات بارزة مثل جاريد كوشنر (صهر الرئيس الأمريكي) شارك في دعم مالي كبير للحركة، وهو ما يلقي ضوءًا على العلاقات بين الحركة ودوائر نفوذ أمريكية قوية.

تُعدّ أوروبا الغربية، وخصوصًا المملكة المتحدة وفرنسا، من أهم المناطق التنظيمية لحركة حباد خارج الولايات المتحدة. ففي لندن وباريس تخدم جاليات يهودية كبيرة ومؤثرة، وتمتلك موارد اجتماعية وسياسية. كما تمثّل دول مثل الأرجنتين والبرازيل في أمريكا اللاتينية منطقة نفوذ مهمة للحركة، إلى جانب أستراليا حيث تتمركز الحركة بشكل قوي في مدن مثل سيدني وملبورن.

حباد والاستيطان والجيش

تتجلى العلاقة العضوية بين "حباد" والمشروع الاستيطاني الإسرائيلي في مواقفها العلنية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان. ترفض الحركة بشكل قاطع أي تسوية سياسية تُفضي إلى قيام دولة فلسطينية. وقد لعبت دورًا بارزًا، خصوصًا بعد حرب 1967، في الضغط على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لضم الأراضي المحتلة، معتبرة ذلك واجبًا دينيًا لا يقل أهمية عن الالتزام بالشعائر. كما شارك أتباعها في تأسيس مستوطنات، ودعم أخرى قائمة، سواء عبر التمويل أو التعبئة أو توفير الغطاء الديني للمستوطنين.

إحدى أخطر زوايا تأثير "حباد" تكمن في علاقتها بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. فبحسب تقارير متعددة، تشرف الحركة على نسبة كبيرة من الفعاليات الدينية داخل الجيش، وتوفر حاخامات يرافقون الجنود، ويؤدون دورًا تعبويًا، لا يقتصر على رفع المعنويات، بل يمتد إلى شرعنة العنف، وتقديم الحرب بوصفها مهمة دينية.

وفي السنوات الأخيرة، ومع تصاعد العدوان على غزة، برز حضور "حباد" بشكل أكثر وضوحًا، من خلال دعمها العلني للجيش الإسرائيلي، ومشاركتها في حملات جمع التبرعات، وتبريرها للقتل الجماعي بوصفه دفاعًا عن النفس أو حربًا مقدسة، هذا التداخل بين الدين والسلاح يُنتج نموذجًا بالغ الخطورة، حيث يُنزَع عن الجندي أي شعور بالمساءلة الأخلاقية، ويُقدَّم له القتل كفعل طاعة، لا كجريمة محتملة. وفي هذا السياق، تصبح "حباد" شريكًا مباشرًا في إنتاج العنف، لا مجرد داعم فكري أو معنوي.

سيدني والعودة إلى الواجهة

أعاد الهجوم الذي وقع في مدينة سيدني الأسترالية، خلال احتفالات عيد "الحانوكاه" اليهودي، اسم "حباد" إلى واجهة النقاش الدولي، ليس فقط بسبب سقوط أحد قادتها بين الضحايا، وهو الحاخام إيلي شنلَنغر، بل لأن الحدث كشف مجددًا طبيعة الدور الذي تلعبه الحركة خارج فلسطين المحتلة. فالحادثة سلطت الضوء على حضور "حباد" المكثف في المجتمعات الأخرى، وعلى الجدل المتزايد حول أنشطتها، وحدود دورها الديني، وصلتها بالمشروع الصهيوني. وفي هذا السياق، لا يمكن فصل تصاعد استهداف رموز الحركة عن تصاعد الغضب العالمي من السياسات الإسرائيلية، ولا عن إدراك متزايد بأن "حباد" لم تعد مجرد منظمة دينية، بل جزء من شبكة أوسع تُسهم في تأجيج الصراع، وتبرير العنف، وتصدير خطاب كراهية مقنّع بالدين.

هجوم سيدني لم يكن الوحيد، فثمة حوادث أخرى سابقة استهدفت أعضاء وبيوت حباد؛ ففي 1994 في نيويورك، تعرّض طلاب الحركة لإطلاق نار على جسر بروكلين أدّت إلى مقتل وإصابة عدد منهم، وفي 2008 في مومباي (الهند)، كان بيت حباد من بين المواقع المستهدَفة في هجمات متعددة، وراح ضحيتها الحاخام غافرييل هولتزبرغ وزوجته، هذه الحوادث لا تدعها الحركة تمر كحوادث أمنية عابرة، بل توظفها في خطابها لربطها بما يُصوَّر كتهديدات عالمية تواجه اليهود، وهو ما عزز من حضورها في الإعلام وفي دوائر الدعم السياسي والمالي.

تكشف قراءة دور وتأثير منظمة "حباد" خارج الأقنعة الدينية عن تنظيم أيديولوجي متماسك، لعب دورًا محوريًا في تديين الصهيونية، وتحويلها من مشروع سياسي قابل للنقاش إلى عقيدة مغلقة تُبرّر الاحتلال والعنف. فمن خلال شبكة عالمية، وخطاب ديني انتقائي، وعلاقة وثيقة بالمؤسسة العسكرية والاستيطانية، أسهمت "حباد" في إعادة إنتاج الصراع على أسس وجودية خطرة، ولا شك أن فهم هذا الدور، ومواجهته بوعي ومنهجية، يشكّل خطوة أساسية في مواجهة الصهيونية المتطرفة، وكشف أدواتها، التي تعمل باسم الدين، لكنها تخدم في جوهرها مشاريع العنف والقتل والاحتلال.

أعلى