ما الاستراتيجية الجديدة التي تتبعها إسرائيل لتعويض تراجع الدعم الأميركي والغربي، وكيف توظّف التحالفات الانتقائية وبيئات الفوضى الإقليمية لتأمين نفوذها في الشرق الأوسط وامتداداته البحرية؟
تواجه الدولة العبرية في
العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين مفترق طرق استراتيجيًا حاسمًا، مع تراجع
الدعم الأميركي التقليدي وتذبذب الموقف الغربي إزاء مصالحها الإقليمية. فقد أظهر
تقرير معهد الأمن القومي الصهيوني
(INSS)
أن الدعم داخل الولايات المتحدة لم يعد
ثابتًا كما كان، إذ انخفضت مستويات الدعم بين الجمهوريين الشباب والديمقراطيين على
حد سواء، كما أظهرت استطلاعات الرأي أن أجيال الشباب الأميركيين لم تعد ترى في دعم
الدولة العبرية أولوية، بينما تواجه أوروبا أزمات متعددة تجعل اهتمامها بالشرق
الأوسط محدودًا. هذا التراجع في الدعم الأميركي والغربي، وفق التقرير، يضع الدولة
العبرية أمام واقع جديد، فقد أصبحت الحكومة الصهيونية غير قادرة على الاعتماد
حصريًا على الضمانات التقليدية لحماية أمنها القومي، مما استدعى البحث عن أدوات
بديلة لتعويض هذا الفراغ وضمان حماية مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
لقد سعت الدولة العبرية
خلال السنوات الأخيرة لتعويض هذا التراجع عبر مشروع التطبيع الإقليمي، المتمثل في
اتفاقيات أبراهام مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، والتي أُعلن عنها
باعتبارها خطوة نحو بناء نظام أمني إقليمي متكامل سيوفر لها شبكة أمان عالية تم
اختبارها خلال الحرب الإيرانية الصهيونية الأخيرة. لكن هذا المشروع لم ينجح في
تأسيس قاعدة أمنية مستدامة، إذ لم تنضم إليه دول مركزية مثل السعودية رغم الضغوط
التي تعرضت لها من قبل الإدارة الأمريكية، بينما ظل دور مصر والأردن محدودًا على
صعيد التوازنات الأمنية الحيوية. وقد كشف هذا الفشل أن التطبيع وحده لا يكفي لبناء
شبكة أمان إقليمية طويلة الأمد، وأن الاعتماد على الاتفاقيات الثنائية أو التفاهمات
الجزئية لن يوفر حماية طويلة الأمد لمصالح الدولة العبرية.
في هذا السياق، اتخذت
الدولة العبرية مسارين متوازيين لتعويض هذا النقص. المسار الأول قائم على التحالفات
الانتقائية مع الدول الإقليمية، بينما المسار الثاني يعتمد على إدارة بيئات الفوضى
المحلية والهشة، بما يشمل دعم فصائل وكيانات غير مركزية تساهم في الحفاظ على هامش
الحركة الاستراتيجي للدولة العبرية. على صعيد التحالفات، برزت شراكات استراتيجية مع
اليونان وقبرص في شرق المتوسط لمواجهة النفوذ التركي بالإضافة إلى تعميق العلاقات
مع أذربيجان من خلال إتفاقيات دفاعية مختلفة، وهي دول تُستخدم منصة لردع أنقرة على
صعيد الطاقة والسياسة والأمن البحري، بما في ذلك خطوط أنابيب الغاز إلى أوروبا، ما
يوفر للدولة العبرية بديلًا جزئيًا عن الضمانات الغربية المباشرة.
على الصعيد المحلي، استغلت
الدولة العبرية بيئات الهشاشة والفوضى في عدة مناطق. في سوريا، قدمت دعمًا غير
مباشر للأكراد في شمال البلاد، ما ساعد على خلق مناطق نفوذ مضادة لإيران وتركيا، مع
الحفاظ على قدرة الحركة دون مواجهة مباشرة مع الحكومة السورية. وفي الجنوب السوري،
أعطى دعمها للطائفة الدرزية في السويداء الأبعاد الاستراتيجية نفسها، إذ أسهم في
إبقاء الجنوب هشًا نسبيًا، ما يوفر للدولة العبرية سيولة حدودية في الجولان المحتل.
هذه السياسات توضح كيف تستخدم الدولة العبرية الفوضى المحلية كأداة لنفوذ غير مباشر
بدل الاعتماد على القوة المباشرة أو الاتفاقيات الإقليمية.
في اليمن، يعد المجلس
الانتقالي الجنوبي
أحد أبرز الأمثلة على بيئات الفوضى التي يمكن للدولة العبرية استغلالها. يسيطر
المجلس على معظم محافظات الجنوب، بما في ذلك عدن وحضرموت والمهرّة، ويشكل القوة
الفعلية هناك، وقد أظهر التقدير الاستراتيجي أن المجلس يدرس ربط استقلال الجنوب أو
حكم ذاتي موسّع باتفاقيات تطبيع محتملة، بما في ذلك مع الدولة العبرية، ما يتيح لها
وجودًا استراتيجيًا قرب مضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم.
في القرن الإفريقي، أثار
الاعتراف بالدولة العبرية بصومالي لاند كدولة ذات سيادة في ديسمبر 2025 ردود
فعل قوية من دول مركزية مثل مصر والسعودية وتركيا، واعتُبر انتهاكًا لوحدة الدولة
الصومالية وتهديدًا للاستقرار الإقليمي. ورغم ذلك، يُنظر إلى هذا الاعتراف كخطوة
استراتيجية تمنح الدولة العبرية وجودًا مؤثرًا في موقع جيوسياسي حيوي بالقرب من باب
المندب، ما يعكس سعيها لتثبيت موطئ قدم في بيئات لم تعد تضمنها الاتفاقيات
التقليدية.
أما في السودان، فتشكل
مليشيات الدعم السريع
جزءًا من
بيئة عدم استقرار واسع، حيث يتقاطع تدخل القوى الإقليمية مع الصراع الداخلي، ما
يجعلها نموذجًا إضافيًا للفوضى التي يمكن للدولة العبرية استغلالها بطريقة غير
مباشرة لتعقيد التوازنات الإقليمية ولحماية أمنها الإقليمي بعد أن كانت الدولة
السودانية أكبر حواضن المقاومة الفلسطينية في الخارج. وبالمثل، ليبيا، يساهم
استمرار الانقسام في الشرق الليبي والفوضى المحلية في إبقاء السلطة المركزية ضعيفة،
ما يتيح للدولة العبرية وإطراف إقليمية أخرى حرية التحرك دون مواجهة مباشرة، فقد
أقرت المقاومة الفلسطينية في عدة تصريحات أن ليبيا كانت من أكبر المساهمين في دعمها
خلال العقود الماضية من خلال عمليات تهريب من شرق ليبيا باتجاه صحراء سيناء لذلك
يجد الإنفصال الليبي دعما صهيونياً غير مباشر.
وفي سياق الدول المستقرة
مركزياً، اعتمدت الدولة العبرية سياسات تحييد ذكية، خاصة مع مصر والأردن. فقد مثّلت
اتفاقية الغاز بين الدولة العبرية ومصر، التي تتيح توريد الغاز من حقل
ليفياثان إلى مصر بقيمة نحو 35 مليار دولار حتى عام 2040، أداة لتعزيز الاعتماد
الاقتصادي المصري على الدولة العبرية، ما يحد من قدرة القاهرة على اتخاذ مواقف
سياسية حادة. أما في الأردن، فقد ساهم الربط الاقتصادي عبر اتفاقيات الطاقة في
تقليل هامش الحركة السياسي، إذ أصبح أي تصعيد سياسي مكلفًا اقتصاديًا داخليًا.
مجمل هذه العناصر يوضح أن
الدولة العبرية، بعد فشل مشروع التطبيع الشامل، تبنت سياسة متعددة الأدوات، تشمل
إدارة الفوضى في بيئات هشة، التحالف الانتقائي مع الدول المستقرة جزئيًا، التحييد
الاقتصادي عبر مصر والأردن، وبناء موطئ قدم استراتيجي في البحر الأحمر والقرن
الإفريقي. الفوضى ليست هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لإبقاء بيئات عدم الاستقرار تحت
السيطرة، ومنع تشكل توازنات إقليمية قوية قد تقوض مصالحها، مع الحفاظ على هامش حركة
أوسع في ظل ضعف الدعم الأميركي والغربي كما أشار تقرير معهد الأمن القومي الصهيوني.