انتفاضة القدس تفزع نتنياهو وتفضح عباس
تسود حالة من الذهول في الكيان الصهيوني من تعاظم مظاهرا
انتفاضة القدس،التي فاجأ تطورها وامتدادها الأجهزة الأمنية ومحافل التقدير
الإستراتيجي في الكيان. ويعجز الصهاينة عن حصر تداعيات الانتفاضة السلبية،والتي
على رأسها،حدوث كبير ومفاجئ على عدد اليهود الذين يقدمون لزيارة القدس الشرقية.
وقد أدى هذا الواقع الصحافي الصهيوني أمنون أبراموفيتش إلى التأكيد على أن الواقع
في القدس يدلل على أن قرار "توحيد" القدس الشرقية والغربية قد فشل،بدليل
أن اليهود يغادرون المدينة على هذا النحو. وحسب معطيات "المكتب الإسرائيلي
للإحصاء" فقد تعاظمت هجرة اليهود من القدس خلال عام 2014 بشكل غير مسبوق. لكن
مما يصيب القيادة الصهيونية بالحرج حقيقة أن انتفاضة القدس مست كثيراً بما تعتبره
الحركة الصهيونية "مظاهر السيادة"، سيما شبكة القطار الخفيف،التي أقامها
لكيان الصهيوني للربط بين القدس الشرقية والغربية. وقد تكبدت الشركة التي تدير
القطار خسائر كبيرة،بعد أن تحولت محطات القطار في المدينة إلى هدف لحجارة الشباب
المقدسي وزجاجاته الحارقة.
لكن مما يدلل على حالة الحرج التي أصابت القيادة
الصهيونية، هو اندفاعها لاتخاذ خطوات هستيرية، فقد أعلنت الشرطة الصهيونية أنها
تدرس اعتقال ذوي الأطفال المقدسيين وفرض غرامات عليهم لاجبارهم على منع أطفالهم من
المشاركة في مناشط الانتفاضة.
ومما لا شك فيه أن الانتفاضة كشفت لكثير من الصهاينة حجم
"الخطأ" الذي يرتكبه رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو عبر سماحه
لعدد من وزرائه ونواب حزبه الليكود محاولة تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى.
لكن مما لا شك فيه أن أكثر الأطراف تضرراً من اندلاع
انتفاضة القدس هي السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس. وكان يفترض أن تمثل انتفاضة
القدس لعباس وزمرته مناسبة لإعادة تقييم الموقف واختبار القناعات،لكنه أثبت عباس
أنه عصي على هذا النوع من المهارات. كان يفترض بعباس أن يدرك أن اندلاع انتفاضة
القدس يعني أن الشعب الفلسطيني لا يمكنه أن يقبل الاستسلام لعدمية برنامجه السياسي
من جانب، وفي الوقت ذاته القبول ما تحاول القيادة اليمينية الهاذية في إسرائيل
فرضه وإملائه. فقد هب الشعب الفلسطيني ضد مشاريع الاستيطان والتهويد وسياسة تدنيس
المسجد الأقصى، وهذا ما سيحدث في جميع أرجاء الضفة الغربية في المستقبل. انطلقت
انتفاضة القدس لأن عناصر أمن عباس لم يتمكنوا من التعرض للشباب الفلسطيني هناك،كما
يحدث في الضفة الغربية حالياً. يعي عباس أنه ليس من السهل على أجهزة عباس العمل في
القدس المحتلة،وإلا لتم رصد الكثير من الإجراءات الهادفة لردع الشباب المقدسي عن
إشعال هذه الانتفاضة. لكن الرسالة وصلت بشكل واضح وجلي، فعندما يترك للشعب
الفلسطيني حرية الخيار،فأنه يختار خيار الحياة،ممثل في المقاومة والممانعة،وهذا ما
يتسبب في كثير من الضرر لعباس وزمرته. لكن مشكلة عباس لا تكمن في صور الفتية
والأطفال والشباب المقدسي الذي يصر على الاصطدام بجنود الاحتلال، بل ما ما يصدر عن
النخب اليسارية الصهيونية التي باتت تقر علناً بأن المسار الذي يقوده عباس يضر
بالمصلحة الوطنية الفلسطينية. فقادة اليسار الصهيوني باتوا يجاهرون بالقول إن سلوك
الحكومة الصهيونية يضفي شرعية على رفض الشعب الفلسطيني لتوجهات عباس وبرنامجه
السياسي. بل أن منهم من بات يبدي تفهماً للعمليات التي تنفذها المقاومة الفلسطينية
ضد الاحتلال،وهي المقاومة التي يصر عباس على وصفها بـ "العبثية" . فقد
كتبت زهافا غلؤون،رئيسة حركة "ميريتس" الصهيونية مؤخراً: "نتنياهو
يريد أن يقول من خلال سياساته في الضفة الغربية أن التحقير فقط ينتظر المعتدلين من
الفلسطينيين، لذا لا يتردد في أن يبصق على عباس في كل فرصة ممكنة( موقع وللا،12-10).
ويضيق الجنرال شاؤول أرئيلي،القائد الأسبق لقوات جيش الاحتلال في قطاع غزة، وأحد
منظري "معسكر السلام" الصهيوني الخناق على عباس،عندما يدلل على أن
اصراره على التعاون الأمني مع إسرائيل لم يسفر إلا عن مصادرة مزيد من الأراضي
الفلسطينية وتهويدها. فقد كتب أرئيلي،: "نتنياهو حعل من عباس أضحوكة في نظر
أبناء شعبه، فبدلاً من ان يكافأه على ضبط الأوضاع الأمنية في الضفة في ذروة الحرب
على غزة وفي ظل تواصل الاستيطان، فأنه يعاقبه بمصادرة اراضي الضفة (هارتس،18-9 ).
ويذسف يوسي ميلمان، معلق الشؤون الاستخبارية في صحيفة "معاريف" مزاعم
عباس بأن التعاون الأمني مع الكيان الصهيوني في مواجهة المقاومة، يخدم المصالح
"الوطنية" للشعب الفلسطيني. فقد كتب ميلمان: "إسرائيل معنية بضرب
حماس، لكنها في الوقت ذاته معنية بتكريس مكانة السلطة ككلب حراسة يلتزم بتعليمات
إسرائيل، التي تجد نفسها في حل من تقديم أية تنازلات"(معاريف،7-9). ويؤكد
حنان كريستال معلق الشؤون السياسية في سلطة البث الصهيونية، وذو التوجهات
اليسارية، أن محصلة التعاون الأمني الذي يعكف عليه عباس مع إسرائيل ستكون دوماً
صفر بالنسبة للفلسطينيين. ويكرر كريستال في الآونة الأخيرة عبارته القائلة:
"لو قدم عباس رؤوس قادة حماس على طبق من ذهب لنتنياهو فلن يوقف الاستيطان ولن
يسمح بإقامة دولة فلسطينية".ويبدي الكاتب رويت هيخت خيبة أمل من حرص عباس
الشديد على تقديم بوادر حسن النية للكيانا لصهيوني،على اعتبار أنها تفضي إلى نتائج
عكسية. فقد كتب هيخت، وهو من منظري اليسار الصهيوني: "حرص عباس على التقرب من
نتنياهو لا يدفع نتنياهو إلا لتوجيه مزيد من الاهانات له،عباس يبدي ميلاً واضحاً
للتصالح ونتنياهو يصر على الرفض"(هارتس،21-6). لكن مما لا شك فيه أن أكثر ما
صدر عن نخب اليسار الصهيوني ويمثل احراجاً كبيراً لخطاب عباس،الذي ما فتئ يهاجم
المقاومة "العبثية"، يتمثل في سلسلة المقالات التي كتبها مؤخراً رئيس
الكنيست الأسبق أبراهام بورغ،والذي كان أحد قادة حزب العمل، ويعد حالياً من رواد
مدرسة "ما بعد الصهيونية". فقد كتب بورغ: "الاحتلال هو المسؤول عن
دفع الفلسطينيين لعمليات الاختطاف، إن كنا نغضب لخطف جنودنا ومستوطنينا فأننا
نختطف المجتمع الفلسطيني بأسره منذ عشرات السنين، ولا يمكن مطالبة الفلسطينيين
بوقف سلوكهم هذا قبل تخليصهم من الاحتلال"(هارتس،18-6). ولا داعي هنا للتذكير
بالتصريح الشهير الذي أطلقه رئيس الوزراء الأسبق إيهود براك، عندما تسرح من الجيش
عام 1991،حيث قال: "لو ولدت فلسطينياً لكان من الطبيعي أن انضم لإحدى
المنظمات الإرهابية الفلسطينية". وكان يتوجب على عباس الاستماع للشهادة التي
قدمها حاييم غوري،أشهر شعراء إسرائيل،الذي نقل عن رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأول
دفيد بن غوريون قوله أن استشهاد الشيخ عز الدين القسام،الذي سقط عام 1935مقاوماً للانتداب والوجود الصهيوني، يعد
"أكبر حدث أخلاقي يسفر عنه السلوك العربي حتى الآن". إن كان عباس لا
يريد الاستماع للدعوات التي تنطلق حتى داخل حركة "فتح" لإعادة تقييم
برنامجه السياسي،فليفكر بما يقوله جلساؤه من الصهاينة.