فإن إنجازات الصحوة الإسلامية بمختلف أطيافها الفكرية وتشكلاتها
الإدارية ، كثيرة جدًّا ؛ ومن العدل المأمور به شرعًا الاعتراف بالفضل لأهله ؛ امتثالاً
لقول الحق - جلَّ وعلا - : { وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ } ( البقرة : 237 ) .
ومع تلك الإنجازات المحمودة المشكورة : هل نستطيع القول بأن
الصحوة الإسلامية تعيش أزمة ؟ وما معالم تلك الأزمة ومظاهرها ؟ وما السبيل لعلاجها
؟ والجواب : بالتأكيد هناك أزمة متعددة المظاهر والمعالم
، سوف نقف في هذه الافتتاحية على مشكلتين من أخطر
المشكلات التي تواجهها :
المشكلة الأولى : اضطراب الخطاب الدعوي :
وجد الإسلاميون أنفسهم بعد أحداث الحادي
عشر من سبتمبر في بؤرة الاتهام ، فاستُهلكت طاقات كثيرٍ منهم في دفع الشبهات والتُّهَم
التي أُثيرت حولهم ، وسادت لغة الهزيمة الاعتذارية ، واستُدرج بعضهم إلى سجالات عقيمة
؛ ليقع في مآزق فكرية لم يحسب لها حسابًا .
ومن السهل عند غياب المنهج أو ضعفه ، أن ينجرَّ الخطاب الإسلامي
بعيدًا عن ميدانه ، ويتيه في غير سبيله .
وفي هذه الأثناء تجددت الدعوة إلى بناء خطاب دعوي عصري يستوعب
التحديات السياسية والثقافية التي تواجهه ، وهذا حَسَن بلا شك ؛ فالتجديد مطلب شرعي
، وأساليب الخطاب وقضاياه وأولوياته ينبغي أن تتجدد من عصر إلى عصر ، ويخاطَب الناس
على قَدْر عقولهم ، ولا يجوز الانكفاء أو الانغلاق على أسلوب واحد مهما كان ناجحًا
في وقت من الأوقات .
لكنَّ بعض المهتمين بشأن تجديد الخطاب الدعوي يغفلون عن قضية
من أهم المرتكزات المنهجية ، وهي : أن التجديد لا يعني تحريف الدين ، أو كتم بعض أحكامه ومعالمه ، أو تطويعه ؛ ليتوافق مع أهواء الناس وقيم الفلسفة
البشرية .
كما أن التجديد لا يعني التكلُّف في مداراة الفكر الغربي
ومجاراة التيارات العلمانية والليبرالية في شعاراتها وقيمها المادية ، كما قال المولى
- جلَّ وعلا - : } فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } ( الشعراء : 150-152 ) ، وكما قال - سبحانه وتعالى - : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى
شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
}
( الجاثية
:
18 )
.
لقد ركب هذه الموجة ثُلة من المفكرين المحسوبين على الصحوة
الإسلامية ، وكانت البداية في ترجيح الاختيارات الفقهية الضعيفة بحجة التيسير ، دون
التزام المنهج العلمي عند الفقهاء والأصوليين ، ثم انتهى عند بعضهم إلى الوقوع في إشكالات عقدية تناقض أصول أهل السُّنة والجماعة المتفق عليها
.
إن الاضطراب والتذبذب في خطابنا الدعوي من علامات ضعف اليقين
وقلَّة البضاعة ، وليس أضرَّ على الأمة من التفريط بثوابت الدين ومحكَمات الشريعة ،
وقد أدى هذا الاضطراب إلى تضييع الفرص ، وتشتُّت الجهود ، وانتشار الحيرة والقلق في
صفوف كثير من أبناء الأمة ، خصوصًا عند النوازل والمسائل الكبيرة !
تجديد الخطاب الدعوي المأمور به شرعًا ، إنما يكون على منهاج
النبوة بالوحي المنزَّل ؛ وذلك بفهمه وتعظيمه والاستسلام لأمره ونهيه ، وعدم التقدم
بين يديه ، وتنقيته من شوائب الضلالة ومفاسد أهل الأهواء ، ثم بحُسْن توظيف قواعده
وكلياته ، وتنزيل أحكامه ومقاصده على واقع الأمة بفهم وبصيرة
.
قال الله - تعالى - : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
} ( الأنعام : 153 ) .
فالاستقامة على الهَدْيِ النبوي والتمسك بمحكمات الشريعة
من الكتاب والسنة الصحيحة ، هي الطريق الصحيح لبناء
خطاب دعوي متماسك يواجه طوفان الشبهات التي يثيرها بعض أدعياء الليبرالية ورءوس التغريب في مجتمعاتنا
.
المشكلة الثانية : الأزمة الأخلاقية :
اذهب إلى أي بلد شئت ، وتأمَّل حال
الدعاة بمختلف أطيافهم الكبيرة والصغيرة ، المنظمة
أو غير المنظمة ، فإنك ستجد شرخًا متجذرًا فَرَّق الصفوف ، وأذهب ريح الأمة ؛ فبين آونة وأخرى نسمع عن خلافات حادة بين الرموز
الدعوية القيادية - فضلاً عن القواعد والأنصار -
ثم تمتد هذه الخلافات والنزاعات إلى وسائل الإعلام
التي تجد فيها مادة مثيرة للتسويق والتصعيد ، فيزداد التشنج والانفعال ، وتُشحَن الساحة الدعوية بالقيل والقال ،
وتنتهي بعد ذلك إلى تصدُّعات وانشقاقات صاخبة .
ومع شدة المراء والجدل تبدأ بعض كوامن النفوس المريضة بالظهور
؛ فيعلو صوت الأثرة والأنانية ، ويكثر التهارش والتدابر
والبغي ، وتُغلق أبواب الحوار والتصالح ، وربما
تطلَّع بعضهم إلى الصدارة والرئاسة .
لقد عشنا فترة من الزمن نتألم من الخلاف والصراع الذي قد
يحدث بين بعض السلفيين والإخوان ، وندعو إلى الحوار
الجاد بعلم وعدل ، ونسعى لرأب الصدع وتقريب الإخوة
لبعضهم ، ثم ها نحن نسمع الآن عن تصدعات مؤلمة داخل التيار السلفي نفسه من جهة ، وداخل التيار الإخواني من جهة أخرى ، ليس في
بلد واحد فقط ، بل في عدد من البلدان .
ما الذي يجري أيها العقلاء ؟ لقد زهَّد بعضهم بالتربية ،
وأُهمِلَت مناهجها الدعوية ، وهُجِرَ كثير من محاضنها
الجادة ، ثم استُهلكت طاقات الدعاة في جوانب مفضولة لم تتذوق فيها حلاوة العبادة ، وأنس الصلة بالله ، جلَّ
وعلا .فكانت هذه بعض الثمار .
إنها حقًا أزمة أخلاقية تؤكد أن التربية الإيمانية هي الركيزة
الأساس التي ينبغي أن تُبنَى عليها الدعوات .
نعم ! إنها التربية التي تهذِّب النفس البشرية ، وتداوي أمراضها
، وتكبح جماحها ، وتسمو بها بعيدًا عن الحظوظ والشهوات ، وهي الضمانة الحقيقية التي
تبني الصف وتوحد القلوب ، حتى عند الاختلاف وتباين الاجتهادات
.
إنها مهمة عظيمة شُرِّف بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام
- كما قال الله - تعالى - : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .
وفلاح الأمة أفرادًا وجماعات منوط بتزكية النفس وتطهيرها
.
قال الله - تعالى - : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس :9-10 ) .
فهل يدرك الدعاة هذه الغاية العظمى ويجعلونها أصلاً أصيلاً
في برامجهم الدعوية ؟