من يستنهض كوامن الخير في الأمة الإسلامية؟
إن المتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية والمتأمل في ما تعرضت له من هزات عنيفة على مدى التاريخ، سواء بسبب عوامل خارجية: من حروب طاحنة، ومؤامرات ماحقة، وكيد بليغ الغاية في النكاية، وعوامل داخلية: من تمزُّق وحروب، واختلاف وجهل وغير ذلك، إن المتتبع لذلك يرى أنها الأمة الوحيدة التي ظلت عصية أمام العواصف؛ فكلما أصابتها كبوة، ونزلت بها عثرة، قامت معافاة، سليمة، تستجمع قواها، وتلملم جراحها، وتستأنف السير في طريقها إلى الله، عز وجل. فلم تخضع لذوبان، ولم تدخل في قاموس قانون الحضارات التي تمر عليها سُنَّة (سادت ثم بادت) كما هو شأن كل حضارة تمر بمرحلة الشباب ثم الشيخوخة ثم الانقراض؛ فعلى الرغم مما أصابها من محاولة مسخ شخصيتها، وتعرضها للاحتلال الذي حاول أن يستلب منها كل مقومات حضارتها، وأن يذيبها في الانحلال الخلقي، وأن يصرفها عن مقومات وجودها، وعزتها، إلا أنها دائماً تنهض وتستعيد عافيتها.
ذلك أن الدرع الواقي لها من السقوط هو «العقيدة المستمدَّة» من كتاب الله - تعالى - وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما كانت القوة الدافعة لها في مواصلة السير، وتناسي الآلام والجراح، وهذا يكشل أملاً مشرقاً بمستقبل مضيء مليء بالتفاؤل.
إن هذه الأمة ذات قدرة وأهلية، على استعادة حضارتها بمقوماتها المادية والمعنوية، وأن تقوم بمهماتها في إشاعة الرحمة في العالمين، كما هو شأن دينها خاتم الأديان.
إنها وحدها صاحبة القيم المستمَدة من شرع الله، تعالى. كما أنها صاحبة الوراثة النبوية. ومعنى ذلك أنها هي المؤهَّلة دائماً لإمداد العالم بما عندها من مشارق الأنوار التي تضيء الدرب لكل سائر إلى الحق وعلى الحق. وكم رأينا على مدى التاريخ أن شمسها كلما أفلت من جانب أشرقت من جانب آخر.
وإذا كنا ندرك اليوم ندرة العلماء الربانيين المجدِّدين بسبب عوامل كثيرة عصفت بهذه الأمة، إلا أن مقومات القدرة على استعادة القوة في هذا الجانب ما تزال حية.
فعند هذه الأمة الكثير الكثير من الإمكانات التي تؤهلها إلى أن تدفع بكثير من شبابها المنطلق إلى غدٍ مشرق، المحترق على أوضاع أمته، والغيور على دينه إلى الهمم العالية وإلى أن يتسلم الراية من جديد؛ ليجدد معالم هذا الدين بعلم وبصيرة نافذة متوقدة، وعمل دؤوب، وفقه غزير ورؤية إلى الواقع صائبة، وقدرة على مواكبة الأحوال، ومعالجة المشكلات المستجدة، وإعادة الطمأنينة والثقة إلى نفوس هذا الدين وعودتهم من جديد إلى الله.
وأولى الناس بالقيام بهذه المهمة العظيمة، العلماء الربانيون الذين أخذوا على عواتقهم النهضة بالأمة في جانب العلم، والمعرفة، مدركين أن حاجة الأمة اليوم إلى من يأخذ بيدها إلى شاطئ الأمان في أمور دينها ودنياها، أشد من حاجة العطشان إلى الماء البارد في اليوم الحار.
فالأمل إذاً معقود - بعد الله - على المجددين والمصلحين في العالم العربي والإسلامي، أن ينهضوا بهذا العبء الثقيل، ذي الشرف الرفيع، في الدنيا والآخرة، وأن يسدوا هذه الثغرة العظيمة من حياة الأمة.
إن الإنسان اليوم يعاني من أزمات شتى تكاد تعصف به؛ فالخواء الروحي، والتمزق المهول، والأثرة، وتفشي الظلم، والغزائز البهيمية البارزة في مناحي الحياة، والضياع الذي تعيشه كثير من شعوب العالم، بسبب البعد عن دين الله، وشيوع الجهل، وغلبة الأهوال، واستحكام البدع، والإعراض عن الاحتكام إلى شرع الله، سبحانه. كل هذا وغيره يستدعي المبادرة إلى التفكير الجاد في تأهيل العلماء والدعاة، والمفكرين الربانيين الذي يصبحون منارة للناس، ومعالم يهتدي بهم الحيران، وقدوات سامية يحذوحذوها كل عاشق للخير والفضيلة.
ومحاضن التربية الجادة القائمة اليوم في عدد من أقطار العالم الإسلامي، قادرة على أن تسهم إسهاماً كبيراً في إنجاح هذا الهدف العظيم إذا ما تآزرت كلها في تحقيق هذه الأهداف الجسيمة، ثم من خلال: «المشاركة في تأهيل الرعيل المطلوب»؛ إذ بعد المرحلة الأولى التي تكون حافلة بالتأهيل من خلال التلقي، والحفظ، يدخل الشاب الناشئ مرحلة أخرى لا تَقِل عن سابقتها، وذلك من خلال حَمْله على ممارسة الحياة العلمية في جوانب كثيرة، خاصة في المستجدات التي تستعصي على كثير من الناس كيفية التعامل معها من الناحية الشرعية حتى تتفتح الآفاق أمام الشاب، ويستطيع من خلالها الوقوف على قدميه.
إننا نحن نرى واقع الأمة الإسلامية وكيف أنها قد أصيبت بقلّة العلماء الربانيين؛ لعدم وجود منابع للعلم تنتج النوعية المثالية من العلماء، إلى جانب ما يلامسه الجيمع من عزوف الشباب عن الانكباب على طلب العلم لوجود عوامل كثيرة في العصر الحاضر، الذي فُتن فيه كثير من الناس بكثير من مظاهره، وفُتِحت الدنيا عليهم، فأنصرفوا إليها يبحثون عن شيء من متاعها، وزينتها في تنافس محموم، مع غياب القدوة الحسنة التي تضرب الأمثلة الرائعة، فتجدد بذلك منهج وسلوك السلف الصالح.
إن التجديد يعني إحياء ما اندرس من معالم الدين في حياة الناس، وما اندرس كذلك من علوم الشرع، بسبب ندرة حَمَلته الربانيين.
وما تزال النفوس مطمئنة كل الإطمئنان إلى وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتخلف وذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»[1].
والسعي إلى إيجاد العلماء الربانيين، هو سعي إلى تحقيق من يسد ثغرة في حياة الأمة؛ إذ التجديد لدين الله - عز وجل - يفتقر إلى من يتمتعون بصنوف كثيرة من أمور الدين: كالعلم، والجهـــاد، ونشــر العدل، والدعــوة إلى اللـــه - عز وجل - وغير ذلك.
قال الإمام النووي في حديث الطائفة[2]: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة في أنوع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدِّثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف، وناهون عن المنكر، ومنهم أهــل أنــواع أخــرى مــن الخيــر، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض[3]. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح بعد أن ذكر كلام الإمام النووي: ونظير ما نبَّه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد؛ إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز؛ فإنه كان القائم على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدُّمه فيها. ومن ثَمَّ أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه. فعلى هذا كل من كان متصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدَّد أم لا» انتهى باختصار[4].
وقال المناوي تعليقاً على قول السيوطي: «الحمد لله الذي بعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها». قال: «أي مجتهداً واحداً، أومتعدداً، قائماً بالحجة، ناصراً للسُّنة، له مَلَكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات من نصوص الفرقان، وإشارته ودلالته، واقتضاآته: من قلب حاضر، وفؤاد يقظان». وعند قوله: «أَمْر دينها» قال: أي ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن وخفي من العلوم الدينية الظاهرة والباطنة، حسبما نطق به الخبر الآتي، وهو: «إن الله يبعث... إلى آخره»[5]؛ وذلك لأنه لما جعل المصطفى خاتم الأنبياء والرسل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد، ومعرفة أحكام الدين لازمة إلى يوم التناد، ولم تفِ ظواهر النصوص ببيانها، بل لا بد من طريق وافٍ بشأنها، اقتضت حكمة الملك العلاَّم ظهور قَرم[6] من الأعلام في غرة كل قرن ليقوم بأعباء الحوادث إجراء لهذه الأمة مع علمائهم مجرى بني إسرائيل مع أنبيائهم» انتهى[7].
وقال في عون المعبود بعد أن سرد أقول كثير من أهل العلم في معنى التجديد: «فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه، وهمته، آناء الليل والنهار، إحياء السنن ونَشْرها، ونَصْر صاحبها، وإماتة البدع، ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، أوتصنيف الكتب، والتدريس، أوغير ذلك. ومن لا يكون كذلك لا يكون مجدِّداً البتة، وإن كان عالماً، مشهوراً بين الناس مَرْجعاً لهم»[8].
إن وجود علماء ربانيين يتولون القيام ببيان حكم الله - تعالى - بالاستناد إلى كتاب الله - تعالى - وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومراعاة المقاصد الشرعية، والمصالح المرعية، وخضوع الحاكم والمحكوم لهذه الأحكام، كفيل بإشاعة الأمن والطمأنينة، وحماية الأرواح، والدماء، والأموال، والأعراض، والظفر بالحياة الكريمة الآمنة.
ومن خلال ذلك تبرز محاسن الإسلام ومكارمه التي طَمَرها فشوى الجهل، وغياب أهل العلم، وعدم سلامة التطبيق في ممارسات الناس، وهو ما أوجد ثغرة لأعداء الإسلام ينفذون من خلالها لتشويه الإسلام والتشكيك في عالميته، وفي صلاحيته لكل زمان ومكان، وفي قدرته على مسايرة الأحداث وتطورات الحياة. والجميع يدرك أن الأمم تتداعى على أمة الإسلام اليوم، وأن كل شيء في هذا الدين أصبح مستهدَفاً، حتى وُجِدت معاول الهدم من داخل بيئة المسلمين.
إن المسلمين اليوم لا بد أن يدخلوا في حقبة جديدة متميزة من تاريخهم؛ بحيث يستعيدون مجدهم وعزتهم، ومكانتهم السابقة بين الأمم، وأن لا يظلوا دائماً في مؤخرة الركب، وهم أصحاب والريادة والقيادة للإنسانية كلها.
لا بد للأمة اليوم أن تتجاوز حدود الجهود الفردية في معالجة مشكلاتها، وأن تتضافر الجهود في النهوض بالأعباء الجسمية التي تحتاج إلى صبر، وجَلَد وتضحيات، وذلك شرف وأي شرف يحظى به الصادقون المخلصون من أبناء هذه الأمة.
إن تضافر الجهود في خدمة الإسلام يعبر تعبيراً صادقاً عن وحدة الأمة الإسلامية وتماسكها، وحُسْن تعاملها وتعاونها على البر والتقوى، وشعورها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها.
إن نداءات المشفقين اليوم من هذه الأمة تتداعى لإعادة النظر في أحوال الأمة والقيام من الكبوة التي وقعت فيها، والالتفات إلى ما أكرمها الله به من مقومات وكفاءات في مجالات شتى، يمكنها أن تفعل الكثير في خدمة الإسلام وإعادة الصف، وجمع الكلمة، وشدِّ آصرة الأخوة الإيمانية، وحل المشكلات.
إنني أعتقد جازماً أن الهموم مشترَكة، وأن الحديث عنها قد فاض واستفاض، غير أن الأمر يحتاج إلى همم عالية؛ ذلك أن العجز والكسل، ليس من طبيعة المؤمنين، وكما أن الله - تعالى - لا يمكن أن يهب النصر والتمكين لأمة استسلمت لهذين الدائين العظيمين (العجز والكسل)، فكذلك التفاؤل، وعدم اليأس، هوالأصل في شأن المؤمن الصادق الواثق بوعد الله، المعتصم بالله، المتمسك بحبله، السائر على هداه.
لقد كان الناس ييأسون من ثمرة اللقاءات المتنوعة التي تُعقَد هنا وهناك بين الحين والآخر لِـمَا يرون من عدم الجدية في العمل لِـمَا تخرج به من قرارات وتوصيات، ونحن لا نريد أن يكون أهل العلم، والمعرفة، من المساهمين، في صنع اليأس في النفوس، بل يجب أن يكونوا مثالاً يحتذى، وأن يخرجوا من إطار الشكليات والأنماط المتكررة الممجوجة إلى الجد وصدق العزم والبدء بخطوات عملية تنتقل بالأمة من إطار الكلام، والحوار، والنقاش، وتسويد الصفحات، إلى التطبيق والعمل الجاد المثمر.
إن (العلم) هوالقاعدة الصلبة التي تقوم عليها نهضة الأمم والشعوب، لكن لا على أنصاف المتعلمين، ولا على المتعالمين. وإنما على أصحاب الرسوخ في العلم، وأعني بـ (العلم) هنا: معناه الشامل الذي يخدم كل مصالح الدين والدنيا.
وبهذا يمكــن الدفــع بالأمـــة إلى حياة أفضل في مستقبل مليء بالخير والأمن، والاستقرار، والعدل الوفير، وكل هــذا لا يمكن تحقيقه إلا بإشاعة الأخوة الإيمانية، وأن تهيل التراب على التعصب الممقوت بكل أشكاله وصوره. قال - تعالى -: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: ٠١].
ولا يفوتني هنا أن أُشيد بالجهود الإصلاحية التي يقوم بها كل غيور على دين الله - عز وجل - ممن آثروا الآخرة على الدنيا، وتطهرت نفوسهم من درن حظوظ النفس واستعلت هممهم على الاستشراف إلى حطام الدنيا: من جاه، أوسمعه، أومال... أوغيرها.
كما أقول للذين سقطوا في حمأة السراب الساطع، إيثاراً للسلامة وحباً للدعة، وانطواءً على النفس، أقول لأمثال هؤلاء، مذكراً بقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: ٨٣]، وقوله - تعالى -: {إلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: ٩٣]. وقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: ٤٥].
اللهم! اعصمنا من الزلل، واستعملنا في أحب الأعمال وأرضاها إليك، ولا تَفْتنا بهذه الحياة الدنيا، ونعوذ بك من أن ننشغل بها عن الآخرة آمين.
[1] أخرجه أبو داود في الملاحم: 2/512/4291، والحاكم: 4/522، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة: 512.
[2] إشارة إلى حديث: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين لا يضرهم من خذلهم... الحديث.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم: 13/67/1920.
[4] فتح الباري: 13/295.
[5] إشارة إلى الحديث المتقدم.
[6] في القاموس: القرم (بالفتح) السيد.
[7] فيض القدير شرح الجامع الصغير: 1/9.
[8] عون المعبود شرح سنن أبي داود: 11/263-264، رقم الحديث: 4291. كتاب الملاحم.