سِـوار الوَهْـن
في إطار اهتمام مجلة البيان بتبصير القارئ العربي المسلم بما يحيط به من أمواج متلاطمة من العقائد الضالة والأفكار المنحرفة، تبرز أهمية وجود نواة لدراسة متخصصة في عقائد الغرب، من شأنها أن تُسهم في نقلِ المعركة الفكرية إلى ساحة الخصم، فتحرِّرَ المسلم من الأزمة الدفاعية الاعتذارية، وتُصحِّحَ بعض المفاهيم الخاطئة لديه، والتي تراكمت من جراء كتاباتٍ مُرتَجَلة، كما تلقي الضوء على دَوْر هذه العقائد في توجيه المجتمع الغربي «رؤساء ومرؤوسين»، وترصد الجديد في هذا الميدان. من هنا جاءت فكرة زاوية «الغرب: دراسة عقدية» بذرةً جديدةً تغرسها المجلة في بستانها الوارف عسى أن تؤتي أُكُلها، ولو بعد حين.
وبينما كنت أُزوِّر كلماتٍ أستهِلُّ بها هذه الزاوية، إذ دعاني أحد الإخوة إلى مكتبه ليريني شيئاً مقلقاً هذه المرة، بعد أن كان نحَلني نسخة من كتاب «هركولوبوس أو الكوكب الأحمر» لـ «ﭪ. م. رابولو». أدخل صاحبي يده في درج مكتبه وأخرج صندوقاً صغيراً. ناولني الصندوق قائلاً: «شاع هذا بين الشباب، فأحببت أن أُطلعك عليه؛ ولنتحدث حوله في الأسبوع القادم إن شاء الله».
خالجني شعور غريب عندما قلَّبت محتوى الصندوق الذي بدا مألوفاً جداً. كان الصندوق يحوي سواراً وعِقداً صُنعا من أنبوب مطاطي تصل طرفيه قطعةٌ معدنية. كُتِب على الصندوق بالإنجليزية «Energy Ring»؛ أي: «سِوار «أو حلقة» الطاقة»، وفيه نشرة تؤكد على أن السوار والعِقد يحويان «مواد طبيعية»، «تلك المواد لها خواص غامضة؛ حيث إنها تستطيع امتصاصَ الطاقة الطبيعية وتكديسَها وتكثيفَهـا ثم إعادة بثِّها مضاعفة مئات المرات»؛ فما حقيقة هذا السوار؟
إن الدارس للعقائد الباطنية يجد أن «سوار الطاقة» المعروفَ منذ القِدَم، يقوم على مبدأ وثني يزعم أن كل شيء في الوجود – بما في ذلك الإنسان – تنساب فيه «قوة خفية» تدعى باللاتينية: «نومن» Numen. وأن هذه القوة أو الطاقة ذات ارتباط بالآلهة التي هي الجـن فـي الحقيقة؛ فمن استطاع أن يحرك تلك القوى الخفية استطاع أن يتحكم في العالم المادي المرئي بشكل يُحصِّل له أعلى قَدْر من النفع. وهذا المعتقَد الباطني أصلٌ عند القائلين بوحدة الوجود وتناسخ الأرواح.
فإذا نظرنا إلى الهندوسية - مثلاً - وجدناها تعتقد وجود «طاقة كونية» تسمى: «برانا» Prana تنساب في الهواء الذي نستنشقه. ولهذا نجد جُل ممارسات ما يعرف بـ «الـيوجا» Yoga يعتمد على هذا المبدأ؛ فهذه الممارسات – كما يزعم أصحابها – تركِّز هذه الطاقة المنتشرة في الهواء لتوزعها في الجسد؛ فـ «الـيوجا» ليست مجرد ممارسات رياضية لزيادة مرونة الجسم، بل هي معتقَد يَسعى «اليوجيُّ» من خلاله إلى «الاتحاد» مع الإله؛ ولذا فإن الأوضاع المختلفة التي يتخذها تسمى بأسماء الآلهة. ويشترك مع الهندوس في هذه الطقوس البوذيون والجَينيون[1].
هذا المبدأ الذي تقـوم عليـه تلك الطقـوس هو عين ما يعتمده مُروِّجو «سوار الطاقة» ذي «الخواص الغامضة «التي تستطيع» امتصاص الطاقة الطبيعية وتكديسها وتكثيفها ثم إعادة بثِّها مضاعفة مئات المرات». ولهذا نص أحد المواقع الإلكترونية التي تبيع مجوهرات الطاقة على أن سوار الطاقة - بالتحـديد - يوظِّــف مبـدأ: «التقــاء الطبيعـة بما وراء الطبيعة» وأنــه يُستخدَم من قِبَل حكماء «ريكي» Reiki وحكماء «تْشَكرا» [2]Chakra، وكلتاهما من الممارسات الباطنية الشرقية التي تعتمد مبدأ الطاقة الخفية في «الأثير» وأن للإنسان المادي المحسوس «توأماً روحياً» في الفضاء؛ فمتى أمكن الوصول إلى ذلك التوأم الروحي عن طريق الطقوس الباطنية وبعض الطلاسم انعكس ذلك على طاقة الجسد المادي، فشعر بالخفة. وقد لقيَتْ هذه الترهات رواجاً في بلاد الغرب[3].
وهناك ممارسة رائجة أخرى تُعرَف بـ: «كُنداليني» Kundalini وتقوم على مبدأ مماثل، هو: أن العمود الفِقْري للإنسان يحوي طاقة كامنة تمتد من عَجْبِ الذَّنَب إلى أعلى الرقبة. فإذا تخللت الـ «برانا» المنتشرة في الهواءِ العمودَ الفِقْري عن طريق بعض الممارسات الباطنية نهضت عند المرء «كُنداليني» - التي هي: «إلاهة، أفعى» تلتف في قاع العمود الفِقْري، ممتدة إلى أعلى الرقبة فيشعر المرء بنشوة و «استنارة»[4].
لقد بدأت الدعوة إلى الباطنية والسحر باسم الطاقةِ وتحريكِ كوامنها تأخذ أشكالاً عدة، لعل شكلاً منها يرُوج بين أهل الإسلام، فيصــابون في مقتــل. مــن هــذه الأشــــكال ما شاع بين النــاس من خبـــر «الكوكب الأحمر» الذي «يوشك» أن يصطدم بالأرض! وكان سبب هذا الإرجاف المؤلِّــف البـاطنــي: «ﭪ. م. رابولو» وكتـابـه «هركـولـوبوس أو الكوكـب الأحمر» الذي وُزِّع مجاناً بلغات شتى.
يزعم «رابولو» في كتابه أن كوكباً أحمر يُدعى: «هركولوبوس» يوشك أن يصطدم بالأرض، وأنه لا ملجأ من هذه القارعة إلا ما يسميه: «الكشف أو «الإسقاط» النجمي» Astral Unfolding) Projection) الذي يرتكز حول «الجسد النجمي» في «البعد الخامس»؛ حيث القوى الباطنية الخفية التي بـ «الإمكان إخضاعها للقوى البشرية». ثم يعرِّف هذا «الجسد النجمي» بأنه: «جسد شبيه تماماً بالجسد المادي، ولكنه مصنوع من الطاقة وهو يسير بسرعة هائلة كما تسير الفكرة»[5]. ولممارسة «الإسقاط النجمي» والخلاص من تلك القارعة يمكنك ربط جسدك المادي بالجسد النجمي المصنوع من الطاقة ومن ثَمَّ بالقوى الخفية «الجن والشياطين» في «البعد الخامس» عن طريق ترديد بعض «الكلمات السحرية، ومتى شعرتَ بأن تياراً يسري في جسدك كله من أخمص قدميك حتى قمة رأسك، فانهض واقفز إلى أعلى قليلاً وسترتفع في الحال»[6]. وهو كما ترى شعوذة تدور حول مبدأ الطاقة الخفية والتوأم الروحي.
إن مثل هذه الشعوذات التي تدَّعي حبس الطاقة وبثَّها في الجسم البشري، ينبغي ألا تجد طريقها إلى قلوب أهل التوحيد، كما ينبغي أن ينبَّه لخطرها الآباء والأمهات على وجه الخصوص؛ فنحن نرى أشكالاً مختلفة لها فيما يُعرض للأطفال في الرسوم المتحركة من قيام البطل - مثلاً - برفع يده ذات السوار فتتركز حوله أطياف النور الأخَّاذة الباهرة ويُشع سواره بالطاقة التي اكتسبها من الطبيعة، وبذا يصبح قادراً على سحق خصمه، بل لقد رأيت بعض الشخصيات الكرتونية تطلب من الطفل المشاهد أن يركض معها ليُكسِب سوارها مزيداً من «الطاقة»!
ولما تصفَّحت بعض مواقع الإنترنت التي تروِّج لمثل هذه الزندقة وجدت الكثير منها يبيع أَسوِرة الطاقة وقلائدها جنباً إلى جنب مع الطلاسم والتمائم، بل إن منها ما يُصرِّح بأنها تُحصِّن حاملها من الشرور وتمنحه قوة سحرية. ولعل هذه الصراحة هي ما دعا المتربصين بالإسلام إلى أن يستـــبدلوا بـ «سوار الطاقة» سواراً آخر عَلَّه يكون أكثر رواجـــاً، فظهـــر ما يعرف بسوار «ابن سينا» الطبي، ولا أدري لِمَ اختير «ابن سينا» ليكون «علامة تجارية»؟ أَلِأنه كان طبيباً؟ أم لأنه كان باطنياً؟
يكاد «سوار ابن سينا» يطابق في شكله ومضمونه السوار النحاســـي Copper Bracelet الــــذي تسوِّقـــه مواقع الـ «أيورفيدا»[7] والـ «يوجا» الهندوسية[8]. كما أنه شبيه بما يُعرف في القبالاه (الباطنيةِ اليهودية) باسم: «سوار القبالاه» The Kabbalah Bracelet. ولا شك عند المختصين أن كليهما من قبيل الشعوذة باسم «الطب البديل»؛ فها هو أحد المتاجر الإلكترونية يصف أحد أسورته بأنه: «يساعد على التواصل مع الإله ويربط الفردَ بالفيض الروحي الذي ينساب في الحقيقة حولنا»[9]. وهذا «الفيض الروحي غير المتناهي» من حولنا هو ما يحاول البعض تزويقه باسم: الطاقة المنسابة في الطبيعة. ولسوار القبالاه - خاصةً - انتشاره بين «نجوم» الرياضة و«الفن».
إن وراء هذا الترويج للوثنية والسحر حركةً عالميةً تُعرَف بـ: «حركة العصر الجديد» New Age Movement أو: «الوثنية المُحدَثة» Neo - Paganism تسعى إلى إحياءِ الِملَل الباطنية والقضاء على توحيد الله، عز وجل. وقد آلمني أن زلَّت في هذا المقام أقدام بعض المسلمين فنعتوا «سوارَ الطاقة» بالفاعلية، بل توهم بعضهم أنه آنَسَ خفة وارتياحاً منذ أن لبسه بسبب ما يحويه من «مواد طبيعية»! ولم أكن أظن أن شاباً مسلماً في بلاد التوحيد يعود ليتعلق حلقةً من صُفْر[10] يستجلب بها «الطاقة» ويدفع بها الوهـــن؟ «انزعـــها! فإنهـــا لا تزيدك إلا وهناً؛ فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً»[11].
[1] Tigunait, Rajmani. Seven Systems of Indian Philosophy, (Honesdale, Pennsylvania: Himalayan Institute Press, 1983), p. 171.
[2] http://www.energy-ring.com/
[3] Leadbeater, C.W. The Chakras (Wheaton, Illinois: Theosophical Publishing House, 1926), p. 1.
[4] Krishna , Gopi & James Hillman. Kundalini: The Evolutionary Energy in Man (Taylor & Francis, 1971), p. 98.
[5] فكرتا: «الجسد النجمي» و«التوأم الروحي» شبيهتان بنظرية «المُثُل» عند أفلاطون، والتي تذهب إلى أن المحسوسات مجرد ظِلال للحقائق الأسمى المجردة التي لا نحسها.
[6] . م. رابولو. هركولوبوس أو الكوكب الأحمر (A. Prats Publishers)، ص 45، 46.
[7] أيورفيدا (Ayurveda): هو الطب البديل المبني على عقائد الهندوسية.
[8] http://ayurvedayogashop.com/ayurvedic-magnetic-copper-bangle-p-591.html
[9] http://www.hibuki.com/servlet/the-106/72-Names-Kabbalah-Bracelet/Detail
[10] الصَّفْر: النحاس الجيد، لسان العرب مادة: صَفَرَ.
[11] أخرجه أحمد: 4/445، وابن حبان: 7/628، والحاكم: 4/216 .