ساعدني - أيها القارئ الكريم -
لتخطِّي التفاصيل الكثيرة التي تثيرها مفردة (الأسلمة)، وأمتع بصرك معي بالمعنى
الجميل الذي يبهر الناظرين في جمالية هذه الأسلمة؛ ما أروع انجذاب النفوس إلى
دينها وحرصها الشـديد على انسجام حياتها مع ما يريده الله منها، إن حضوره العميق
يجعل أي سلوك أو منتَج مخالف للدين سبباً لإثارة الوخز والتأنيب الذي يشتعل في
الضمائر فلا يتوقف إلا بإصلاح هذا السلوك، وهو ما أحيا أي مشاريع تسعى للأسلمة
مهما كان اختلافنا في تقويمها.
لم تقف ظاهرة الأسلمة على البحث في
مشروعية بعض المنتجات والمتغيرات المعاصرة، بل شملت حتى الأفكار والاتجاهات
المنحرفة؛ فالصوت الفكري الذي كان يقدم نفسه ندّاً للخطاب الإسلامي ويسلك مساراً
معاكساً للرؤية الدينية، رجع صداه ليبحث في التراث والنصوص والأقوال الإسلامية عما
يسند اتجاهاته لتكون مقبولة لدى الناس، فشملتهم ظاهرة الأسلمة في من شملت، فلله در
المسلمين أيُّ عظمة للإسلام تسكن في ثنايا نفوسهم.
المثير للانتباه: أن ظاهرة الأسلمة
شملت حتى الفكرة العَلمانية ذاتَها، فالفكر العَلماني الذي نشأ منابذاً للخيار
الإسلامي تحديداً، ما دار عليه الزمان حتى صار العَلمانيون يقدمون أنفسهم مجتهدين
في فهم النص الشرعي ومستمسكين بتفسير من تفسيراته معتمدين على أقوال المذاهب
وفتاوى العلماء.
يعني هذا: أن جمال هذه الأسلمة يجب أن
لا يخدع العين عن إبصار أشكال التحريف التي تأتي على الأحكام الشرعية في ثناياها،
بغضِّ النظر عن الدوافع النبيلة التي قد تحركها.
أسلمة العَلمانية تأتي
على مستويين:
مستوى
العلمانية المتطرفة:
التي تحتفظ بموقف عدائي تجاه الدين وتشمئز من كافة مظاهر للتدين، فهذه عَلمانية
مكشوفة وغير جذابة، ومحاولةُ أسلمتها بجعلها غير معادية للإسلام عملية استهلاك
رخيصة لا تتجاوز في تأثيرها حدود مساحة التصوير التي تتحر ك فيها.
مستوى
العلمانية الأقل تطرفاً: وهي التي تتفهم وجود الدين، وتؤمن بضرورة مراعاته مكوناً
للمجتمع في ما دون مستوى القانون والإلزام؛ فهو موجود خياراً شخصياً وقيماً محفِّزة
نحو العمل والتنمية؛ لكنه مقصىً تماماً عن التأثير على القوانين أو الحريات أو أي
تفسير لها.
هذه الدرجة العَلمانية هي المفهوم
الخطر الذي تسرَّبت مفاهيمه لدى بعض الناس من دون أن يشعر، حتى جاءت بعض المحاولات
والتفسيرات التي تسعى لأن تجعل مثل هذا التصور العَلماني مقبولاً ومفهوماً في
التصو ر الإسلامي، فاندفعت مجموعة من التفسيرات المختلفة التي تسعى لتقديم النظام
السياسي الإسلامي بكيفية متلائمة مع هذا التصور العَلماني.
من هذه التصورات
المؤسلِمة للعلمانية:
التصور
الأول:
أن النظام السياسي في الإسلام جاء بمبادئ وكلِّيَّات عامة ولم يأت بأحكام وتشريعات
محدَّدة، فالواجب هو تطبيق المبادئ العامة: من العدل والحرية والشورى والمساواة،
وأما كيفية ذلك، فهذا مما يُختلَف في تقديره كل عصر.
وهذا تصوُّر لذيذ جداً للفكرة
العلمانية؛ لأن مشكلتهم مع بعض الأحكام والتفصيلات الشرعية، وأما المبادئ والكليات
فمن خاصيتها أنها واسعة ومرنة؛ يمكن الدخول والخروج منها بكلِّ اطمئنان، وحين
نقول: إن الإسلام جاء بمبادئ ولم يأتِ بتشريعات. فنهاية هذا الكلام: أن الإسلام لم
يأتِ في النظام السياسي بشيء؛ لأن هذه الكليات موجودة عند كل الأمم والحضارات، ولا
يوجد أحد في الدنيا لا يأخذ بهذه المبادئ، غير أن لكلِّ ثقافة تفاصيلها
ومحدِّداتها لهذه المفاهيم، وحين نلغي الأحكام الشرعية المفصَّلة لهذه المبادئ
فإننا في الحقيقة قد ألغينا الحكم الإسلامي؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من
استحلَّ أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباعٍ لما أنزل الله فهو
كافر)[1]؛
لأنه في الحقيقة لم يأخذ من الإسلام بشيء؛ فالكليات معنى ذهنيٌّ تجريديٌّ لا يقوم
بدون تفصيلات وتفريعات.
يقولون: نأخذ بـ (الكليات دون
الجزئيات) و بـ (الأصول دون الفروع) أو بـ (المبادئ دون التشريعات) و بـ (المقاصد
دون الوسائل)... كلها صيغ مختلفة لإشكالية واحدة، إشكالية إبعاد بعض الأحكام
الشرعية عن التأثير، وحين تبتعد الفروع والجزئيات فإن الكليات والمقاصد التي يؤتى
بها تكون مقاصد وكليات أخرى ليست هي الكليات والمقاصد الشرعية؛ فالمقصد الشرعي
والكلي الشرعي معتمَد ومفسَّر بجزئياته وفروعه الشرعية[2].
لا تقل: هـذا حكـم جـزئي أو ظنـي أو
مختلَف فيـه، فأبداً - والله - لا يمكن أن يهون في قلب مسلم إبعادُ أو تحريفُ أي
حكم شرعي لأي سبب كان وهو يقرأ قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ
الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
التصور
الثاني:
أن النظام السياسي في عصر الإسلام كان يقوم على رابطة دينية مرتبطة بظرف ذلك
الزمان، وقد تغير هذا الوضع في عصرنا؛ فأصبحت الرابطة التي تجمع أفراد الناس هي
الرابطة الوطنية لا الدينية، وحينها فكافة الأحكام الشرعية المتعلقة بالجانب
السياسي هي أحكام تاريخية، ومعها سيتم التخلص من إشكالية حضور الدين في النظام
السياسي.
وحين نمسك خيوط لوازم هذا القول فلن
نصل إلى نهايتها إلا بعد أن نكون قد نكثنا الغزل عن رسالة الإسلام بالكلية؛ لأن
بإمكان أي أحد أن يلغي أي حكم شرعي أراد بسبب أن هذا الحكم كان مرتبطاً بظرف زمني
قد انتهى، بل حتى الصلاة والزكاة والصيام والحج يمكن أن يقال: إنها عبادات نشأت في
ظرف زمني كان الناس فيه بحاجة إلى التعبد بطريقة معيَّنة[3]. فحقيقة هذا القول أنه فرع من تفسير تاريخية النص، الذي يجعل
النص الشرعي فاعلاً في مكانه وزمانه وما عاد له وجود في هذا الزمان كما هي رؤية
العَلمانية المتطرفة.
هذا التفسير يتصور أن الدين كان
هو رابطة المسلمين في ذلك الزمن مصادفة وتوافقاً مع الظرف التاريخي ليس إلا؛ فهو
في الحقيقة - وإن لم يرد - ينطق بالمفهوم العَلماني في جعل الدين علاقة فردية لا
تتصل بالسلطة، فحين ارتبطت فإنما كان لظرف زمني معيَّن.
لازم هذا الكلام: أن أحكام الشريعة
المتعلقة بالكفار والجهاد والحريات ونحو هذه المعاني الدينية المحضة، إنما كانت
استثناء فرضتها ظروف ذلك الزمان، فهذا يستبطن انتقاصاً لها؛ حيث لم يلتزم بها
المسلمون لكمالها وشرفها؛ وإنما لحال زمانهم فقط، وهي تنظر للإسلام بالعين
العَلمانية التي لا تفقه من مصالحها إلا ما كان متعلقاً بمعيشتها الدنيوية {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ
الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧]، وتنسى في غمرة انبهارها بالنموذج
السياسي المادي: أن المصالح الدينية هي الأصل والغاية في رسالة الإسلام تحقيقاً
لغاية الله في الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فمصلحة الدين هي الأصل في الرسالة،
وليست استثناء عارضاً جاء لظروف الزمان.
التصور
الثالث: أن
الإسلام ليس فيه إلزام وإكراه وإجبار؛ وإنما هو اختيار ورغبة؛ فهو دين دعوة لا
قضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس إلا نصحاً وتذكيراً وليس فيه منع أو
إلزام. وتسير معهم في هذا المضمار حتى تصل وإياهم إلى أنه لا وجود لإلزام أو منع
منطلق من رؤية دينية، فيتم تخفيض الحكم الإسلامي من خاصية القانون والنظام إلى
مستوى النصح والتذكير والدعوة، وهو مستوى يروق جداً للنخب العَلمانية لكنه منابذ
لشريعة مَن يقول: «من رأى منكم منكراً فَلْيغيره بيده...» فجعل أُوَلى درجات
التعامل مع المنكرات هو التغيير بالقوة، وليس ثَمَّ إشكال في تقييد استعمال القوة
لتكون بيد السلطة، أو يكون ثَمَّ ضوابط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكن هذا
كله إن أدى إلى إزالة خاصية المنع والإلزام في النظام السياسي فهو في الحقيقة قماش
أسلمة يستر المحفور من العلمَانية.
التصور
الرابع:
لا شك بوجود أحكام متعلقة بالنظام السياسي غير أن كونها محرَّمة أو واجبة لا
يجعلها قيد التنفيذ إلا بعد أن يقرها الناس ويختاروها. أما قبل اختيار الناس فلا
يتم فرض أي حكم مهما كان؛ ليس لأنه غير شرعي؛ بل لأن الفرض السياسي يحتاج هو إلى
مشروعية أخرى، وهي تحديداً لا تكون مستمدة إلا من الناس.
هذا التصو ر يقوم على اعتبار أن ثَمَّ
مشروعيتين: مشروعية دينية يكون النص هو الذي يفسرها، ومشروعية سياسية تأتي
وتُستمَد من الناس، وهذه فلسفة منبثة عن الوعي العَلماني الذي يعزل الدين عن الحكم
السياسي فيجعل مشروعيته منفكة عن المشروعية السياسية، وأما في التصور الإسلامي
فليس ثَمَّ مشروعيتان؛ إنما هي مشروعية واحدة؛ فما حرَّمه الله فهو حرام على الفرد
والمجتمع، وما أوجبه الله فهو واجب على الفرد والمجتمع، فدور الناس هو تنفيذ
الأحكام الشرعية لا في تشريعها ابتداء. فالمحرمات الشرعية يجب منعها والواجبات
الشرعية يجب القيام بها، والمسلم حين يدخل في الإسلام فإنه ضرورة يكون ملتزماً بأن
الإسلام هو الذي يحكمه فلا حاجة لأن يسأل أو يبحث معه عن رغبته في حكم الإسلام.
هذا التفسير يثير شهية العَلمانيين
كثيراً؛ لأنه أولاً: ينطلق من ذات الوعي العلماني
الذي يقزِّم الحكم الشرعي عن المستوى السياسي، وثانياً:
لأن الذكاء العلماني مستوعب أن الناس لا يختارون في الفضاء المجرد؛ وإنما يوضَع
لهم الإطار المقيد الذي يصوتون فيه ولا يخرجون عنه؛ فحين يقوم الإسلاميون بإبعاد
الشريعة عن الإلزام إلا بعد اختيار الناس فالذي يحصل هو أن الشريعة لم تعد هي التي
تضع الإطار، ليكون من السهل جداً بعدها أن تأتي المنظومة الفكرية الأخرى التي تملأ
هذا الإطار الذي يصوت الناس فيه، فيكون إطار التصويت بيد المنظومة الفكرية
الليبرالية، وحينها فلن يُعرَض الحكم الشرعي - أساساً - على الناس لينظر في
اختيارهم؛ لأن الحكم الشرعي سيكون حينها منافياً للحريات والحقوق التي تحكمها
المنظومة العَلمانية التي وضعت الإطار الذي يحكم اختيار الناس.
هذه بعض التفسيرات المؤسلِمة للفكرة
العلمانية، تتفق جميعاً على محاولة التلفيق بين النظام السياسي الإسلامي والفلسفة
العلمانية، لكنها تصطدم بالأحكام الشرعية الملزمة في النظام السياسي الإسلامي،
والأحكام المنبثقة من تصوُّر ديني ما عاد محبَّذاً في الثقافة العلمانية المعاصرة،
بدلاً من التسليم لهذه الأحكام والانقياد لها وأن يقول المسلم ما أمره الله: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ
الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن
يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، فقد
تحوَّلت هذه الأحكام لإشكالية لا بد من إعادة قراءتها وفحصها للخروج منها بالهندام
اللائق، وعظمة الله في قلب المؤمن تُرعِد فرائصه وتُرهِب أركان قلبه من التسامح مع
أي تحريف لأي حكم شرعي. والغيورون على دين الله من الدعاة
والعاملين لنصرة الإسلام هم أَوْلى الناس بتعظيم أحكام الإسلام وتقديرها حقَّ
قدرها، وحين يضيق الواقع ويتعسر الحال في تطبيق أي حكم شرعي فلهم في أحكام الضرورة
والحاجة مندوحة عن تحريف أي حكم شرعي؛ فالمتغيرات لها اجتهادها الخاص من دون أن
ترجع على المفاهيم والمعاني الشرعية بالتغيير والتحريف.
[1]
منهاج السنة: 5/130.
[2]
ينظر في موقع الجزئيات والفروع من المقاصد: الموافقات للشاطبي: 2/372 - 374.
[3]
وقد قيل.