تاريخ المغرب خلال القرن العاشر... التوتر والانفراج
تمهيد
منذ أن تحققت مساعي العثمانيين بإلحاق بلدان شمال إفريقيا لمجال سيادتهم، غدوا جيـراناً جدداً للمغرب. وتحتم على السلالة السعدية الناشئة - والحالة هذه - تطبيع علاقتها بآل عثمان بوصفهم أعظم قوة في العالم آنذاك.
ستكون هذه الورقة مناسبة للقيام بجولة تاريخية نحاول من خلالها ملامسة أطوار العلاقة التي جمعت المغرب ممثلاً في شخص السعديين بالعثمانيين خلال القرن السادس عشر.
مرحلة الأزمة والصراع:
بعد تمكُّن محمد الشيخ من توحيد المغرب وفتح فاس عام ٩٥٦هـ - سنة 1549م، تاقت نفسه لإحياء الدور الطلائعي للمغرب في الغرب الإسلامي، وهذا ما حدا به للقيام بحملة عسكرية على تلمسان في عام 1550م، بما يعنيه ذلك من اعتـداءٍ على الدولة العثمانية ومسٍّ بسيادتها على اعتبار أن الجزائر آنذاك ولاية عثمانية. بَيْدَ أن ردَّ الباب العالي لن يتأخر كثيراً؛ إذ تمت ملاحقة محمد الشيخ إلى فاس بل طرده منها وتنصيب أبي حسون الوطاسي اللاجئ عند الأتراك عليها.
وفي مبادرة لرأب الصدع والارتقاء بعلاقات الجوار ووحدة الدين، بعث السلطان العثماني سليمان القانوني سفارة برئاسة الخروبي سنة 1552م، يدعو فيها السلطان المغربي (السعدي) لنقش اسم السلطان العثماني على السكة، والدعاء له في المنابر، والاعتراف بالسيادة العثمانية؛ إلا أن هذه البنود لم تكن إلا لتؤجج التوتر وتزيد من حدته، حيث كان جواب محمد الشيخ: «لا جواب لك عنـدي حتى أكون بمصر إن شاء الله، وحينئذٍ أكتب لسلطان القوارب». أثارت قسوة الجواب هذه حفيظة الباب العالي، وهو ما حمله على تدبير مؤامرة اغتيال أقل تكلفة وجهداً، بعدما تبين فشل كل محاولات استمالة السلطان المغربي.
لم يكن اغتيال محمد الشيخ إلا ليذكي الصراع القائم؛ إذ خاض ابن هـذا الأخير (الغالب بالله) معركة ضارية ضد حسن باشا الوالي التركي على تلمسان بمقربة من وادي اللبن. وإذا كانت المواجهة في السابق عسكرية في عهد محمد الشيخ الأب، فإنها مع الابن الغالب بالله ستنحو منحىً آخر لا يقل أهمية عن الصراع العسكري؛ إذ تنازل - انتقاماً من العثمانيين ولضربهم بخصمٍ مناوئٍ لهم - عن عدد من الثغور المغربية لصالح الدول النصرانية لا سيما إسبانيا العدو اللدود للإمبراطورية العثمانية.
بعد استعراضنا لمختلف أشكال المواجهات بين المغرب والعثمانيين، ووقوفنا على ملامحها البارزة، نستخلص أن العلاقات (المغربية - العثمانية) دخلت منذ وقتٍ مبكرٍ طوراً من الصراع والتوتر، تعـددت أشكاله وسماته، ساهمت فيه القوى الفاعلة آنذاك (إسبانيا والبرتغال). ويبقى السؤال مطروحاً: ما مصير المغرب بعد كل تلك الأحداث التي وسمت علاقة المغرب بالعثمانيين؟
مرحلة التوازن والانفراج:
في الحقيقة لم تثنِ كل تلك الأحداث والوقائع سالفة الذكر حلمَ وأملَ الباب العالي في كسب مراهنة تحصيل المغرب إلى جانبه. فلم يبخل السلطان العثماني مراد الثالث في تقديم المساعدة للاجئَين عبد الملك وأخيه أحمد المنصور المطالبين بعرش أبيهما، بعدما استحوذ عليه عمهما محمد المتوكل، فقد استجاب لهما السلطان العثماني ودعمهما حتى استعاد عبد الملك العرش، بَيْدَ أن اتصال عبد الملك بعد ذلك بالممالك النصرانية وتقوية علاقته بهم، أقنع الباب العالي بأن تلك المراهنة كانت خاسرة، فعاد التوتر والجفاء ليطفو مرة أخرى على علاقة الطرفين.
لكن الحلقة الأهم في تاريخ العلاقات المغربية العثمانية، ستظهر مع شخصية أحمد المنصور الذهبي، الذي سيغير بعد وصوله للحكم مسارها ويوجهها على أساس أبعاد أخرى؛ فقد فطن لبناء سياسة تقوم على (اللعب على الحبلين). ولعل ذلك ما سنلاحظه إثر تثاقل هذا الأخير عن إجابة مراد الثالث، الذي اقترح عليه عقد حلف عسكري ثنائي ضد إسبانيا، وهو ما حدا بالسلطان العثماني إلى تكليف علوج علي باشا لتجهيز حملة اكتساح ضد هذا البلد (المغرب) الذي طالما أعاق تحقيق أهداف الدولة العثمانية في غرب المتوسط. في هذه الأثناء تحركت الآلة الدبلوماسية والحنكة السياسية للمنصور لاتقاء هذا الخطر الجارف؛ فبعث بسفارة على وجه الاستعجال إلى القسطنطينية برئاسة التمكروتي، لشرح دواعي التراخي المذكور، كما تحججت السفارة بصغر سن المنصور وقلة إلمامه بآداب مخاطبة الملوك العظام. تزامن كذلك مع هذه السفارة إيفاد المنصور لسفارة أخرى إلى ملك إسبانيا فليب الثاني، يمنِّيه فيها بمدينة العرائش، ليكون المسعى واحداً، ألا هو حماية وحدة المغرب واستقلاله من السيطرة الخارجية عثمانية كانت أم إسبانية.
هكذا يبدو أن علاقة المغرب بالدولة العثمانية، انتقلت عن سكَّتها الأولى الموسومة بالصراع، ونحت سبيلاً آخر دشنه المنصور بدبلوماسيته الفذة، وهو ما جعل المغرب بهذا النهج، وفي ظل المتغيرات والصراعات الدولية الدائرة في الساحة المتوسطية آنذاك، في منأىً عن الأخطار الخارجية من خلال تحكيم مسألة (موازين القوى) أثناء اتخاذ القرارات الحاسمة، في التعاطي مع التهديدات العثمـانية من جهة، والأطماع التوسعية الإسبانية من جهة أخرى. لعل هذه الإستراتيجية الممنهجة من قبل السلطان أحمد المنصور الذهبي، هي التي عبَّر عنها خوان دي سيلفا في رسالة بعثها إلى ملك إسبانيا فليب الثاني قائلاً: «إن إمبراطور المغرب يسخر منا فهو متأرجح بين مصانعتنا ومصانعة الأتراك، فعندما يطالبه صاحب الجلالة بالعرائش يقول له: هيا بنا إلى الأتراك في الجزائر، وعنـدما يهدده الأتراك يقول لهم: هيا بنا إلى إسبانيا». هكذا استطاع أحمد المنصور أن يدشن عهداً جديداً في علاقة المغرب بالعثمانيين، وتمتين أواصر المودة والعلاقات الطيبة، كما يظهر من رسالة مراد الثالث لأحمد المنصور إذ جاء فيها: «لك على العهد أن لا أمـد يدي إليك إلا للمصافحة، وأن خاطري لا ينوي لك إلا الخير والمسالمة».
خلاصة
لم تقدر الدولة السعدية الناشئة في المغرب خلال القرن 16، على إجادة أسلوب التخاطب الدبلوماسي وتطبيع العلاقة مع الأتراك العثمـانيين، الجار الجديد للمغرب، فطُبعت علاقة الجانبين في مرحلتها الأولى بالتوتر والصراع، ولم تصل إلى مستوى الارتقاء والنضج إلا مع السلطان أحمد المنصور الذهبي، الذي عمل جاداً على تحسين هذه العلاقة والنهوض بها، وجعلها في خدمة المغرب ومصالحه، فتبدلت ملامحها من طابع العنف وشدة اللهجة إلى مستوى الصداقة وحسن الجوار.
المراجع:
- الإدريسي، الفقيه، (الدبلوماسية السعدية خلال القرن السادس عشر: بين التهديدات العثمانية والأطماع الأوربية، السياق والحصيلة)، ندوة المغرب - المشرق، قضايا ومواقف، المنظمة بتاريخ 24 فبراير، 2000، مطبعة أوزود، بني ملال.
- التازي، عبد الهادي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، المجلد الثامن، مطابع فضالة، المحمدية، 1988م.
- الناصري، أحمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، الجزء 5، منشورات وزارة الثقافة والاتصال، 2001م.