من ينقذ باكستان من دوامة الدماء والعنف؟
ماذا مقابل الدماء الباكستانية؟... وعود ودولارات، والخاسر هو مشروعها النووي ووحدتها.
تنذر شلالات الدماء المتفجرة في أنحاء باكستان بأنها دخلت في مراحل التصفية النهائية لمشروعها النووي من خلال تفجير صراعات ومشكلات عرقية ودينية قابلة للاشتعال بصورة أعنف ما لم تنطلق جهود التهدئة وإصلاح الخلل بوساطة إسلامية.
بعيداً عن نظرية المؤامرة واتساقاً مع القراءة التاريخية؛ فإن مسلسل العنف يشير إلى أن الأطراف الغربية لا تريد للأوضاع أن تهدأ قبل تحقيق مخططات الاستهداف؛ حتى وإن بدت العلاقات (الباكسـتانية الأمريكيــة) أكثــر قـرباً؛ إذ إن الهدف الأساسي من تلك العلاقات هو خدمة الأجندة الأمريكية التي دفعت بقوة إلى تفجير الداخل الباكستاني عبر حرق الأرض في المناطق القبلية في وزيرستان والمناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان، وهو ما ألجأ فلول القاعدة وطالبان باكستان إلى نقل معاركهم إلى داخل المناطق السكانية الآهلة بالسكان؛ لتخفيف الضغط العسكري (الأمريكي الباكستاني). وتبقى باكستان هي المتضرر الأكبر من حرب الوكالة التي تخوضها على أراضيها.
ورطة داخلية:
عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 ضغطت واشنطن على حكومة مشرف لفتح أراضيها؛ لتكون قاعدة لقواتها بعد تهديدات متصاعدة، فوجد مشرف نفسه في موقف صعب، خصوصاً أن غريمته الهند جاهزة للخدمة، وبدل أن ينهض السلاح النووي بمهمة الدفاع عن البلد من كل تهديد تحوَّل إلى مصدر ابتزاز؛ مطلوبٌ تقديمُ التنازلات لحمايته.
ومع استمرار الفشل العسكري الأمريكي في تحقيق إنجاز ملموس على أراضي أفغانستان تصاعدت الاتهامات الأمـريكــية للجـيش البــاكســتانــي بـأنه لا يقوم بما يكفي في الحرب على طالبان؛ فبدأ الإسهام الباكستاني العسكري في الحرب غير المكشوف، وهو عبارة عن تسهيلات، ثم تطور إلى ضغط ثقافي عندما وُجِّهت التهمة إلى المدارس الدينية الأهلية المنتشرة منـذ قــرون فـي أرجـاء المنطقـة، وما عُرف لهــا ولا للمعــاهد الدينية ارتبـاط بأعمـال الإرهـاب، وهو ما حمـل الدولة على التدخل لغلـق المئـات منهـا وتشريد طلبتها ومدرسيها. وبلغ هذا التدخل أوجه بالهجوم على المسجد الأحمر في العاصمة إسلام آباد؛ حيث أُزهقت أرواح كثير من طلبة العلم والمراجع الدينية، وهو ما كان له مفعول الحريق في شبكة المعاهد الدينية وطَلَبَتها، متفاعلاً مع أثر الغارات الأميركية على مناطق القبائل المتهمة بإيواء عناصر من القاعدة وطالبان؛ تلك الغارات العشوائية التي تقوم بها في أحيان كثيرة طائرات بلا طيار تبحث في كهوف شديدة التعقيد عن عناصر قيادة طالبانية أو قاعدية، وهو ما ألهب قلوب السكان غضباً، وهم على مر التاريخ لم يألفوا خضوعاً لأي سلطة مركزية بل كانت أمورهم تُدار بأنظمة عشائرية؛ فلا يكاد الناس يشعرون بشيء اسمه الدولة، وإنما ارتباطهم بها عبر خيوط دقيقة ينهض بها زعماء العشائر.
تفاعل كل ذلك لينتج طالبان الباكستانية، وأخذ يراكم شحنات متزايدة من الثأر والنقمة على الدولة وجيشها، وفي الوقت ذاته ظل الجيش ومخابراته تلاحقهما من قِبَل التحالف تهمـة التقاعـس وحتـى التواطؤ، وأنهمـا لا ينهضان بما يجب عليهما، حتى إنه لما عقدت الحكومة مصالحة مع المناطق القبلية، بمقتضاها تَقْبَل الدولة مطلب القبائل في الاحتكام للشريعة، مقابل دخول القبائل في السلم والاعتراف بشرعية الدولة، ثارت ثائرة الإعلام الغربي ومؤسسات إيديولوجية متعصبة ضد الإسلام، فضغطت على صناع القرار السياسي في التحالف الغربي وضغط هؤلاء على الحكومة الباكستانية الضعيفة، فتراجعت عن الاتفاق؛ فعادت مراجل الغضب تغلي وتقذف حممها في مواجهة ما ينزل على رؤوس الناس من حِمَم. ولم تسلم مدارسهم ولا حفلات أعراسهم ومساجدهم وأسواقهم من القصف العشوائي المدمر، بحثاً عن طالباني أو قاعدي، وهو ما ضاعف من تصاعد الغضب ضد التحالف وضد الدولة وجيشها؛ لينخرط البلد في أتون حرب أهلية غدت معها مصداقية الجيش ومهابته محل أخذ ورَدٍّ لا سيما وقد غدت حتى مراكز قياداته وتدريبه مرمىً لطالبان التي لم تعد حركة محصورة في منطقة القبائل، وإنما انتشرت في أرجاء البلاد تضرب في كل مكان بأيدي أبناء المناطق ذاتها بما فيها منطقة البنجاب كبرى المناطق وأغناها وقاعدة الحكم والنخبة، وهو ما جعل الخطر حقيقياً على مصير البلد الذي انخرط جيشه لأول مرة في حرب شاملة مع قِطَاعَات واسعة من شعبه تحت ضغط الولايات المتحدة الذي بلغ حدَّ تقديم مشروع قانون للكونغرس، مقتضاه فرض رقابة على المساعدة المالية التي تقدِّمها لباكستان ضمن إسهامها في مجهودها في الحرب على الإرهاب، وذلك على خلفية التشكيك في أبواب صرف تلك المساعدات، ومعنى ذلك: الإمعان في التدخل في أخص خصوصيات الدولة ومقومات سيادتها، ألا وهو: جيشها.
ومع سقوط الضحايا والمدنيين وحدوث تفجيرات في كل مناطق باكستان التي أصبحت ساحة مفتوحة للحرب الأهلية التي لا تخدم سوى الهند والغرب، لم تدرك الإدارة الباكستانية أن تكاليف معارضة الإرادة الأميركية أدنى من تكاليف مسايرتها.
حصاد مُرٌّ:
ومع تصاعد الأوضاع داخل باكستان، والذي وصل في أكتوبر 2009 نحو 500 قتيل و 2000 جريح وعشرات الآلاف من النازحين عن مناطق التفجيرات، ولم تتوقف التفجيرات حتى الآن، وهو الأمر الذي يزيد عن حجم الخسائر في أفغانستان (أرض المعركة الأمريكية الحقيقية)، والتي وصلت نحو 132 قتيلاً، أمام كل ذلك تجد باكستان نفسها تقوم بالدور نفسه الذي قامت به أثناء فترة الحرب الباردة؛ إلا أن الأوضاع الإقليمية قد اختلفت تماماً؛ فعلاقات الهند والغرب باتت أكثر اتساقاً وتعاوناً وانفتاحاً، وهو ما يعمق الجرح الباكستاني الذي لن يندمل لعقود قادمة.
فرغم الوعود الأمريكية بالمساعدات الاقتصادية لتطوير شريكها في الحرب على ما يسمى: (الارهاب) ما زال الانحياز الأمريكي والغربي لصالح الهند في قضية استقلال كشمير ومَنْع أهلها من ممارسة حق تقرير المصير، وكذلك في ميادين التسلُّح وعلى صعيد التبادل التجاري، وإن تأجيل إعادة فتح الملف النووي لم يكن حبّاً بباكستان، بل موازنة مع التسابق الإيراني النووي في المنطقة.
الحوار والتنمية والردع:
إن الحكومة الباكستانية تعيش حالة من الشلل السياسي لدرجة دخولها في مرحلة انعدام القرار في ضوء توالد أحداث العنف بصورة مخيفة؛ إذ إن الحرب أو الحملة العسكرية التي تستهدف أية مجموعة ترفع السلاح لا بد أن تنتهي إلى نتيجة سياسية يرافقها هدوء على الأرض، لكن الحال مختلف هنا؛ فرغم إعلان رئيس الوزراء الباكستاني (يوسف رضا جيلاني) أمام مؤتمر دافوس الاقتصادي العام الماضي: أن حكومة بلاده رفعت شعارات جديدة في سبيل مواجهة العنف و (الإرهاب) تتمثل في الحوار والتنمية والردع؛ إلا أنه لا توجد دلائل ملموسة على الأرض لخريطة طريق تمكِّن الحكومة من إنجاز تلك الشـعارات والأهــداف، في ضــوء ما تشهده باكستان من كارثة على المستوى الإنساني، في ظل تزايد أعداد اللاجئين والمهجَّرين والعاطلين عن العمل.
الخِيار العسكري لا يحل الأزمة:
لعل تحوُّل المجتمع الباكستاني إلى الدعم اللوجستي لطالبان باكستان والقاعدة، هو الرد الطبيعي على سياسة الجيــش الباكسـتاني الذي يعتمــد ســـياسـات عســكرية بلا خيــارات أخـرى؛ وكــأن الحـرب مـع دولـة أجنبيـة وليسـت مع سكان ورعايا الدولة نفسها، وذلك ينذر بتصاعد موجات العنف والعنف المضاد، وهو ما يستوجب الإسراع بجهود وإستراتيجية حكومية جديدة وعدم الارتهان إلى خيارات إطلاق العِنان للجيش الباكستاني في إدارة الأزمة التي تعصف بالبلاد، والتي يمليها تحالف السلطة الباكستانية مع بعض القبائل والأحزاب التي تسعى لتحصيل أكبر الفوائد السياسية على حساب الدم الباكستاني.
ومن ثَمَّ؛ فإن كافة الأطراف مطالَبة بالتهدئة السريعة والجلوس على مائدة مفاوضات بوساطة إسلامية من السعودية (التي طالبها أوباما بالتدخل للتفاوض مع طالبان) أو منظمة المؤتمر الإسلامي للحفاظ على مشروع الدولة الباكستانية التي تسير بخطىً متسارعة على الطريق العراقي، ولا يستفيد من تفتُّتها سوى الهند التي تمسك بقواتها عن الخوض في معارك في أفغانستان رغم تحالفها الإستراتيجي مع واشنطن والغرب في ملفات تجارية وعسكرية كبيرة.
وليتأكد صانعو القرار الباكستاني أن باكستان في غنىً عن الحروب الأمريكية والمساعدات الأمريكية على السواء، ولكنها ليست في غنىً عن هويتها وشعبها أو أي فئة من فئات هذا الشعب، ولا ينبغي توقُّع جديد من الجهود الأمريكية الأخيرة الرامية إلى تنفيذ (إستراتيجية تجميل) لمرحلة تالية يسري عليها ما يسري على ما سبقها من مراحل توظيف باكستان؛ لتحقيق (أغراض أمريكية) تحت رداءٍ تختلف (زركشته) في عهد أوباما عمَّا كان في عهود أسلافه.