البُعد الاجتماعي في قصص عبد الله العريني للأديب الدكتور عبد الله بن صالح العريني
البُعد الاجتماعي في قصص عبد الله العريني
للأديب الدكتور عبد الله بن صالح العريني
محمد شلاّل الحناحنة
الأديبُ السعودي الدكتور عبد الله بن صالح العريني من الأدباء الذين
صدَر لهم عدةُ أعمال إبداعية تحتاج إلى وَقَفاتٍ وقراءاتٍ متأنيةٍ، وقد كتبَ عدة
رواياتٍ، منها: «دِفْءُ الليالي الشاتية»، و «مهما غلا الثمن»، و «مثل كل الأشياء
الرائعة». أما مجموعته القصصية «من غير كلام» فقد صدرت عام 1425هـ عن دار كنوز
إشبيليا للنشر والتوزيع بالرياض، وجاءت في خمسين صفحةً تقريباً من القَطْع المتوسط،
وضمَّت خمسَ قِصَصٍ هي: «من غير كلام 1»، و «من غير كلام 2»، و «من غير كلام 3»، و
«كان له ما أراد 1»، و «كان له ما أراد 2».
لماذا (مِن غير كلام)؟
(من غير كلام) هو عنوان هذه المجموعةِ، وقد أخذ ثلاثةَ عناوينَ
داخليةٍ لقِصص ثلاث أيضاً؛ فما المغزى من هذا؟
لا شك أن القاصَّ د. العريني جعل الأُسوةَ الحَسَنَة هي القيمةَ
المحرِّكةَ لأشخاص قِصصه الثلاثة الأولى؛ وهي قيمةٌ ذاتُ بُعدٍ إسلاميٍّ، وتأثيرٍ
عميق في الدعوة إلى الله التي ظلت مُرتَكَزاً أساسياً في مجموعته، وهنا ينتفي
الكلامُ، والتوجيهُ، والنصيحةُ المباشِرةُ التي قد تؤثِّر سلباً إن لم تُقَدَّم
بأسلوب فيه إيحاءٌ ورِقَّةٌ وصِدْقٌ، وهذا ما يتجلَّى كثيراً في واقع الدعوة.
البُعد الاجتماعي:
إن أولَ ثلاثِ قِصَصٍ من مجمـوعة (من غير كلام) تنمو من خلال
بُعْدِها الاجتماعيِّ في بلاد الغربة، في بلاد غير إسلامية حين تحاصِرُنا ذاكرةُ
المكان، وذاكرةُ الوجوه، ونكادُ نفقد حميمية الأخُوَّة والتواصل، ولكنْ قد تكون هذه
الغربةُ أعظمَ تأثيراً في النفوس كي تتآلفَ وتتآزر؛ وهذا ما نراه في قصة «من غير
كلام -1» إذ تحكي قصةَ طالب عربيٍّ مسلم يَدرُس في بريطانيا، وقد مَرِض، ودخل
المستشفى، وفي غرفته رقد إنجليزيان مريضان هما (ديفيد) و (إلن)، ومن المفارقات
كثرةُ زُوَّار هذا الطالبِ، وكثرةُ ما يُقدِّمون له من هدايا، ونقود، واهتمام،
وندرةُ زُوَّار المريضين الإنجليزيين برُغْم أنهما في بلدهما، وبين أهلهما!
وكان (ديفيد) لا يكاد يُصَدِّق ما يجري أمامه من هذه المحبَّةِ؛
لذلك نَقرَأُ في القصَّة على لسانه:
«قال لي:
- يبدو أنك شخص مهم.
أجبته:
- لا لست مسؤولاً كبيراً ولا ثرياً من الأثرياء حتى أكون مُهِمّاً؛
لكن الأمر لا يتوقف على المركز الاجتماعيِّ فقط، فربما لقي الفقيُر عنايةً أكبرَ؛
لأن الجميعَ يزورونه، ويقدِّمون له المساعدةَ رجاءَ أجر الله سبحانه وتعالى.
- لم أفهم!
- هذا جُزء من عقيدتنا، اختلط هذا المبدأُ بدمنا وعَظْمنا ولَحْمنا،
وما تراه دليلٌ على ما أقول.
- قال لي: لقد حضر إليك أصدقاءُ بعضهم ليسوا عرباً مِثلَكَ.
رددتُ عليه بأن المسلمين إخوةٌ مَهْمَا كانتْ جنسيَّاتُهم وبلادُهم
وألوانُهم».
وبعد مُضِيِّ زمنٍ فوجِئ هذا الطالبُ برسالةٍ من (ديفيد) تبدأ بـ
(بسم الله الرحمن الرحيم) يخبره بإسلامه، وأنه مَدِينٌ له بذلك بعد تلك الأيامِ
التي قضاها في المستشفى معه، ورأى ما رأى من حبٍّ وإيثار وأُلْفَةٍ بين المسلمين،
وهو ما جعله يَقرَأ في هذا الدينِ، ويُعْجَب بأفكاره، ويُسْلِم أخيراً.
ولم تغادِر قصة «من غير كلام -2» هذا الحِسَّ الدَّعْوِيَّ،
والبُعْدَ الاجتماعيَّ؛ فهي تُبْرِز إحسانَ جار مسلم مُغتَرِب يَدرُس في مدينة
أمريكية لجاره غير المسلم الذي غاب عن منزله مدَّةَ أسبوعين، وقد عَرَف بطلُ
القصَّة ذلك من خلال تكاثرِ زجاجاتِ الحليب التي تضعُها شركة الحليب كلَّ يوم عند
باب جاره إلى درجة تُثير وتنبِّه من يمرُّ أمام هذا البيتِ.
والشركة لا يُهِمُّها بالطبع؛ أُخِذَتْ تلك الزجاجاتُ أو لا! أما
تَرْكُها على باب المنزل فله دَلالةٌ على أنه غيرُ موجود، وهو ما اضْطَرَّ هذا
الجارَ المسلم أن يجمعَ هذه الزجاجاتِ ويضعَها في ثلاجته، وكُلما انتهت صلاحية
واحدةٍ تَخَلَّص منها كي تتسعَ الثلاجةُ لغيرها، وحين حضرَ هذا الجارُ الأمريكيُّ
ذهب إليه، وقصَّ عليه ما فعله خوفاً على بيته من السرقة؛ لأن تَجَمُّعَ هذه
الزجاجاتِ رسالةٌ صريحةٌ لأي لِصٍّ لدخول المنزل مستغِلاً غَيبته عنه.
وقد سُرَّ هذا الجارُ بهذا الفعلِ، ودعاه إلى بيته أكثرَ من مرة،
وعرَّفَهُ بزوجته الرَّاهِبَة، وقد بَيَّن الجارُ المسلم لجاره أنه لم يفعل ذلك إلا
استجابة للدين الإسلامي الذي يأمر بالإحسان للجار، وشَرَحَ عِدَّةَ آياتٍ وأحاديثَ
تُوصِي بالجار وتُعَظِّمُ من حقوقه، وهو ما جعلهما يستغربانِ ظانَّيْنِ أن
المسيحيةَ وحْدَها هي دينُ المحبة، ثم طلب منه الزوجُ بعضَ الكتب الإسلامية
ليَتَعَرَّف على الإسلام، فأحضر له ذلك من المركز الإسلامي في تلك المدينةِ.
وبعد مدة قصيرة اتصل به أحدُ أصدقائه من المركز الإسلامي يخبره بأن
لديهم حفلةَ إسلامِ جاره وزوجته اللَّذَينِ حدثهم عنهما، وهو ما أسْعَدَه كثيراً،
وجعله يَتَكفَّل بهذا الحفلِ العظيمِ.
أما قصة «من غير كلام -3» فهي شهادةٌ عظيمةٌ من شهادات برِّ
الوالـدَين، وهي تُحدِّثنا بضمير المتكلم، كالقصتَيْنِ السابقتَيْنِ عن شابٍّ مسلم
مغترِب للدراسة في ألمانيا بارٍّ بوالدته المُقْعَدَةِ، فهو يَخْدِمُها،
ويُخْرِجُها معه بسيارته، ويأخُذُها إلى الحديقة، ويقبِّل يدَيْها ورأسَها دائماً،
طالِباً رضاها، وكان جاره الألمانيُّ رجلاً كبيرَ السنِّ، يعيش وحدَه بعد أن طلَّق
زوجتَه، وتُرِكَ من ابنه وابنته، كان يُراقِب هذا المشهدَ العجيبَ من البِرِّ
يوميّاً، فسأل جارَه عن هذه المرأةِ التي يَخْدُمُها دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ، وكم
تدفع له من الأجرة؟
فقال له: هي والدتي. ودعاه للدخول عنده، وشُرْبِ فنجان منَ
القَهْوَة، ثم حدَّثه أن بِرَّه بوالدته من أساسيات الدين الإسلامي مستجيباً لأمر
الله ورسوله # وأنه يَعُدُّ ذلك نِعْمَةً كبيرةً أنْعَمَها اللهُ عليه لينال رضا
اللهِ، ثم رضا هذه الأمِّ، وهو يَبَرُّها بِكُلِّ سعادة ومحبة، سائلاً اللهَ أن
يَبَرَّه أبناؤه عندما يَكْبر، وهو ما جعل هذا الألماني يَقرَأُ عن الإسلام،
ويُعْجَبُ به، ثم يُعْلِن إسلامَه.
وقفات وإشراقات:
استطاع القاصُّ د. عبد الله العريني أن يَرْبِطَ رَبْطاً مُحْكَماً
بين قِصصه؛ فالجوُّ العامُّ جوٌّ واحدٌ، هو جوُّ الغربة، أما العلاقاتُ الاجتماعية
بين أبطال قِصصه والآخَرِينَ فكانت علاقاتٍ باردةً في كثير من الأحيان، وكان هؤلاء
الأبطالُ يبادرون بالفعل، لا بالقول؛ لإنعاش هذه الصلاتِ مع الجيران، وهم يُلِحُّون
على عَظَمَة القِيَم الإسلامية من: تآزُرٍ، وأُخُوَّةٍ بين المسلمين، وإحسانٍ
للجيران، وبرٍّ بالوالدين، وتسامحٍ، وحبِّ الهداية للآخَرِينَ، وقد وُفِّقَ القاصُّ
في المزاوجة بين السرد الوصفي والحِوار في نُمُوِّ الأحداث وتطوُّرها.
كما بدَتْ لغتُـه سهلةَ التراكيب، عفويةً دون تكلُّفٍ أو غوص إلى الغرابة.
أما صورة الآخَرِ فهي صورةٌ متوجِّسةٌ في فهمها للإسلام، غريبةٌ عن
فكره وأحكامه وقِيَمِه، ولكنها بحاجة إلى المبادرة والجلاء والإقناع - وهذا ما
تجلَّى في مشاهدَ كثيرةٍ في القِصص - مستجيبة لدعوة الإسلام.
ولعل ما يؤخذ على القاصِّ في القصَّة الثالثة تدخُّلُهُ في
الخاتَمَةِ فنقرأ:
«ولم يُخَيِّبِ اللهُ رجائي؛ إذ لم تمضِ ثلاثة أشهُرٍ إلا وهو يأتي
إليَّ يُعْلِنُ فيه رغبَتَه في اعتناق الإسلام. هذه الرغبة التي أشعلَتْها في نفسه
- بعد توفيق الله - رؤيته لرعايةِ والدتي بكلِّ حُبٍّ وحنان. لقد جاءت به المشاهدُ
التي رآها لمعاملتي لوالدتي ليكونَ من المسلمين من غير أن أُكَلِّمَه بأيِّ كَلِمَة
عنِ الإسلام!».
وأرى أن القصَّة انتهت بعبارة:
«يُعلِن فيه رغبتَه باعتناق الإسلام» لتكون أكثرَ وقْعاً وعَفْويةً
وإشراقاً، أما ما تلاها من عباراتٍ فيها شرحٌ وتسويغٌ لإسلام هذا الألماني، فقد
أَثْقَلَت القِصَّةَ، وجاءت مباشِرَةً قَسْرِيَّةً، ولو تأمَّلها القاصُّ بِحِسِّه
الفنِّيِّ المرهَفِ لحذفها بكل اطمئنان، وهذا ما وجدناه في قصَّتَيْهِ
السابقتَيْنِ.
وكان لهُ ما أراد:
(وكان له ما أراد) عُنْوانُ آخِرِ قصَّتَيْنِ في مجموعة الأديب
الدكتور عبد الله العريني، أمَّا القصَّة الأولى فهي عن رجل خفيف الظلِّ، لديه
قدرةٌ كبيرةٌ على إضحاك الآخَرِين، وكان يشكو اضطراباً في الهضْمِ، وحين عرض نفسَه
على الطبيب نَصَحَه بِحِمْيَة تقتصر على الخَضْرَاواتِ المسلوقة، والفواكِهِ،
والقليلِ من الدسم، وهو ما أثار سُخْرِيَتَه؛ لأنه لا يستطيع الصبرَ عن الأكل؛ لأنه
أكولٌ بطبعه، وقد ازداد الألمُ والاضطرابُ لديه، فعاد ثانيةً للطبيب، فحذَّره مما
يُعانِي، وأن عليه الالتزامَ بالحِمْيَة، ولما أبدى له عدمَ قدرته وصبرِه أشار إليه
أن يَدخُل المستشفى لتطبيق ذلك، فدَخَلَه متحسِّراً، وكان يؤلمه أن يرى الآخَرِين
يأكلون المشوِيَّاتِ والحلوى، وهو محرومٌ منها، وكان يتنَقَّل بين طَوابِق
المستشفى، وحين وجد أن مَرْضَى الكُسور تُوَزَّعُ عليهم وَجَباتٌ دَسِمَةٌ من
اللحوم تمنَّى ودعا الله أن يُصاب بكسر ليَأْكُل مِثْلَ أَكْلِهِم، وقال ذلك
مازحاً، ولكنَّ اللهَ استجاب دُعاءَه بعد خروجه من المستشفى، بعد أن خَفَّتْ آلامُ
سوءِ الهَضْم، فعاد ثانيةً إلى قِسْم العظام في المستشفى بعد أن أصيبَ بكسر في
حادث، وفي هذه المرةِ سَمَح له الطبيبُ أن يأكُل ما يشاء.
وجاءت القصَّة الأخيرة لتُؤكِّد العنوانَ أيضاً؛ فهي تَحْكِي قصَّة
رَجُلٍ مَفْتُون بحب المال برُغْم أنه ليس فقيراً، ولديه من الرزق الشيءُ الكثيرُ،
إلا أنه كان في صراع مع زوجته في حبِّه العظيم للمال؛ إذ كانت امرأةً تقيَّة
صالِحةً تخشى على زوجها ونفسها وأولادها من فتنة المال، وفي يومٍ شاهَدَ دِعايَةً
في التلفاز، وقُدِّمت الجائزةُ الأولى بمليونِ ريالٍ، وحينها - وبعد حِوار ساخن مع
زوجته - دعا الله أن يرزقَه مليونَ ريالٍ، ولْيَكُنْ بعد ذلك ما يكـون حتى لو
أُصِيبَ بمرض السرطان، وبعد سنواتٍ معدودة رزقه اللهُ من خلال تِجارته مليونَ ريال،
ولكنها أيامٌ قليلة، وإذا به يُصاب بالسرطان، فندِمَ ندماً عظيماً على دعوته، ولكن
أنَّى ينفعُ النَّدمُ؟!
وعموماً تظل القصتانِ نموذجاً حياً للنفوس البشريَّة الضعيفة أمام
سَطْوَة الشهوة.
التأثر بقَبَس القرآن الكريم:
القاصُّ د. عبد الله العريني له رؤاه ولغته الخاصة؛ فهو لا يُوْغِل
في الصُّوَر الفنية في قِصصه، ولكنه يتحرَّى الواقعية، فنجد التبايُن في لغةِ ورؤى
شخصيَّاتِه حَسَبَ مستوياتها وفِكْرها؛ فالشخصياتُ الأجنبية في قِصصه تنُمُّ رؤاها
عن الحَيْرَة والدهشة والاستغرابِ أمام قيم الدين الإسلامي، في حين نرى الشخصياتِ
الدعويةَ في قصصه الثلاث الأولى، تُشرق دائماً بآثار القرآن الكريم وأنواره في
مضامِينِها الفكرية وأساليبها الجمالية، ولم يكن هذا ممكناً لولا تسخيرُ قدراتِه
الفنية، وفكره الواعي فيما يهْدف إليه، ولم تخرج القصتانِ الأخيرتانِ عن هذا الحسِّ
الدعْوِيِّ السامي الذي ينتظم نسيجَه القَصصيَّ، فقد نهى الرسول # عن الدعاء على
النَّفس والأهل والأبناء، وهو توجيهٌ نَبَويٌّ ما أعظمَ أن نتَدَبَّرَه!
أخيراً تبقى هذه القِصصُ وَمَضاتٍ فنيَّةً راقيةً في فضاء القصَّة
الإسلامية.