لم يكن لدى أهل إفريقيا الغربية قانونٌ مكتوبٌ يحكمون به، ويحدد نظامهم، ويضع قواعد قضائية للقضاة؛ وإنما كانوا يحفظون في صدورهم ما توارثوه عن أسلافهم
مقدمة
أصبحت منطقة إفريقيا الغربية - خلال فترة الدراسة (بين القرنين 13 - 16
الميلاديين)، وبإجماع من معظم المؤرخين والباحثين - جزءاً من الدولة الإسلامية
الوسيطية القوية، وبذلك لم تنعزل عن تطورات العالم الإسلامي في العصر الوسيط، ومطلع
الحديث، بل ساهمت فيه وتأثَّرت بأحـداثه، فعاشت مرحلة قوَّته وتأثرت بضعفه، وهو ما
يعني بأنَّ
«تشكيل
تاريخ إفريقيا الغربية لم يتمَّ خارج، أو على هامش التاريخ الإسلامي».
فقد أصبح الإسلام مرجعية دينية للمنطقة، سواء على المستوى الرسمي (الدولة)، أم على
المستوى الشعبي؛ وما اتخاذ الدول في منطقة إفريقيا الغربية - خاصة مملكتَي مالي
وسنغاي - القضاء الإسلامي مرجعية لتسيير وتنظيم شؤون ممالكهم إلا تأكيد على ما
قلناه: بأنَ الإسلام كان له تأثير كبير على المجتمع الإفريقي في كافة المجالات
والمستويات.
أهمية الدراسة وأهدافها:
قليلة هي الدراسات والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع؛ فأكثر الأبحاث والأعمال
تناولت الجانب السياسي، والاجتماعي، وأهملت الجانب الحضاري. وتهدف الدراسة إلى:
•
معرفة طبيعة النظام القضائي في منطقة إفريقيا الغربية.
•
معرفة الأدوار التي قام بها القضاة في المجتمع، على المستوى السياسي والإداري،
وحتى الجانب العلمي، والاجتماعي.
إشكالية الدراسة ومنهجيتها:
تتلخص إشكالية الدراسة في السؤالين التاليين: ما هي أبرز ملامح مؤسسة القضاء في
منطقة إفريقيا الغربية؟
وما هي أهم الأدوار التي أنيطت بها هذه المؤسسة لتنظيم المجتمع في إفريقيا الغربية؟
وقَصْدَ معالجة الإشكالية، فقد اتبعنا المنهج السردي التاريخي، مع مقارنة المعلومات
من خلال المصادر والمراجع بغية الوصول إلى الحقيقة التاريخية.
(المبحث الأول): إفريقيا الغربية بين الإطار الجغرافي والتاريخي
أولاً : الإطار الجغرافي
يشتمل السودان الغربي أو بُلدان إفريقيا الغربية بالمصطلح الحديث، على جُلِّ
المناطق الواقعة بين حوضَي نهر السنغال والحوض الأوسط لنهر النيجر، والمجرى الأعلى
لنهر فولتا[1].
وتختص بلدان غرب إفريقيا بمميزات اقتصادية مهمة تمثلت في تنوع مناخها، وخصوبة
تربتها، ووَفْرة الثروة الحيوانية بغاباتها، والثروة السمكية بسواحلها الأطلسية
وأنهارها الداخلية (السنغال - النيجر)، هذا فضلاً عن كونها خزاناً للمعادن النفيسة
كالذهب والنحاس والحديد، التي شكَّلت رواجاً مهمّاً في تجارة القوافل الصحراوية
التي ربطت بين غرب إفريقيا وشمالها خلال العصور الوسطى[2].
كما كانت منطقة إفريقيا الغربية إلى جانب مؤهلاتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية
التي أسالت لعاب الأوروبيين، ميداناً للتثاقف والتلاقح الفكري والروحي[3].
ثانياً: الإطار التاريخي
قامت في منطقة إفريقيا الغربية خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين 13 - 16
الميلاديين ممالك تُعتَبَر بإجماعٍ من المؤرخين أزهى عصور تاريخ إفريقيا الغربية
على الإطلاق؛ وتبرز أهمية الفترة بالخصوص على مستوى بلورة المؤسسات، وخلق الدول،
وإقامة علاقات منتظمة مع العالم الخارجي. كما تسجل الفترة الاهتمام المتزايد للآخر
بما يجري في إفريقيا الغربية، والذي عبَّرت عنه المصادر العربية والأوروبية من خلال
تعدد الإنتاج وتنوعه، وعن طريق هذه المصادر - العربية منها - استطعنا أن نرسم صورة
قد تكون مكتملة عن العالم السوداني. وتعتبر مملكتا مالي وسنغاي من أهم الممالك التي
قامت في منطقة إفريقيا الغربية خلال فترة الدراسة.
المبحث الثاني: انتشار الإسلام والثقافة العربية الإسلامية
حين يريد شخصٌ مَّا أن يتحدث عن انتشار الإسلام وحضارته وثقافته في المنطقة؛ فلن
يجد أكثرَ من ثلاثة عناصر بشرية، هي التي كانت وراء هذا الانتشار الواسع، وهي:
العنصُر المشرقي، والعنصُر المغربي، والعنصُر الإفريقي المحلِّي.
فأما العنصر المشرقي: فكان له الفضْلُ في إيصال الرسالة المحمدية وحَمْلها من
مَبعثها في المشرق ووضعها في يد الذين استَلَمُوها من بعده من أهل المغرب في الشمال
الإفريقي. فقد كان دورُه التبليغَ وقد بَلَّغَ[4].
أما العنصُر الإفريقي المحلِّي، فهو المتمثِّلُ في أولئك الأفارقة أنفسهم الذين
أسلَموا وحسُن إسلامُهم، واعتنقُوا هذا الدين عن حُبٍّ وإقبالٍ وطواعية، لِـمَا
وجدوا فيه من فضل وعدلٍ ومُساواةٍ وتكريمٍ لإنسانيتهم، ومؤاخاةٍ لهم مع غيرهم من
أبناء الشعوب الإسلامية الأخرى على اختلاف أجناسهم لا فضل لبعضهم على بعضٍ، ولا
للَونٍ على لونٍ... فقاموا من جانبهم أيضاً بإتمـام تبليغـه لِـمَن حولَهـم ولِـمَن
بعدَهــم ووراءهم بكل وسائل التبليغ الممكنة: بالدعوة والموعظة الحسنَة أحياناً،
وبالجهاد إن اقتضى الأمرُ ذلك أحياناً أخرى.
أما المغاربة، فقد قاموا بدور الوسيط الذي أوصل الرسالة إلى أهل إفريقيا الغربية،
كما قاموا بدورٍ آخر وهو رعايةُ الإسلام في تلك الديار بحكم القرب والجِوار، وحماية
ظهره والدفاع عن وجوده والعمل على ترسيخ جذوره وتثبيت دعائمه وتصحيح مسيرته
باستمرار. ولذلك فإن الحضور المغربي وتأثيره القوي كانا متميِّزَينِ عبر التاريخ عن
باقي المؤثِّرات الأخرى.
المبحث الثالث: القضاء الإسلامي في منطقة إفريقيا الغربية نتيجة حتمية لتجذر
الإسلام وترسيخه
يعتبر القضاء من الوظائف الحساسة المتعلقة بنظام الملك، الذي لا تستقيم أمور الدولة
إلا به؛ لأنه أمر ضروري لأحوال الرعية في شؤونهم الدينية والدنيوية، ولم تخوَّل هذه
المهمة من منطقة إفريقيا الغربية إلا لمن توفرت فيه شروط معيَّنة مثل الكفاءة
والعلم، وذلك نظراً لمكانة مؤسسة القضاء وأهميتها في الإسلام، التي تستند على
الأحكام الشرعية المأخوذة من الكتاب والسُّنة، ومن ثَمَّ فهو حُكم الله في أخطاء
البشر، ويعتبر هذا النظام من أهم الأنظمة والمؤسسات التي فرضت وجودها في المجتمع
الإسلامي. وأما في منطقة إفريقيا الغربية فهناك نوعان من المؤسسات القضائية: القضاء
التقليدي الذي يستند على العرف في بثِّ أحكـامه؛ والذي كان يرأسه الملك أو رؤساء
العشائر. والقضاء الإسلامي الذي يستند إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها مرجعية
أساسية في أحكامه.
قبل الدخول في التفاصيل، نرى أنه من المفيد إلقاء الضوء وإن بشكل سريع على طبيعة
النظام القضائي في منطقة دراستنا، في عصر ما قبل الإسلام، وذلك حتى تتكون لدينا
الصورة بشكل أوضح وأشمل.
القضاء في مجتمعات غرب إفريقيا الوثنية وهنا نتحدث عن (القضاء والعرف):
لم يكن لدى أهل إفريقيا الغربية قانونٌ مكتوبٌ يحكمون به، ويحدد نظامهم، ويضع قواعد
قضائية للقضاة؛ وإنما كانوا يحفظون في صدورهم ما توارثوه عن أسلافهم، من أساطير
وأعراف متواترة بينهم، وهي التي كانت تُعدُّ بمثابة أنظمة وقوانين ثابتـة، لا يجوز
مخالفتها، لأنها أساس القضاء عندهم[5].
وقد ارتبط القضاء قبل ظهور الإسلام بشخص الملك، لا لكونه يجسد العدالة في بُعدها
الاجتماعي فحسب؛ وإنما لكونه رمزَ القوى الحيوية التي تتحكم في العلاقات بين أفراد
المجتمع، لذا كانت القـوانين القائمة على العرف إلزامية؛ لا يمكن الإخلال بها مهما
كانت الأسباب. كما أنَ احترام الناس للأعراف كان مصدره شدة المحن التي يمر بها
المدَّعى عليه، لإجباره على الاعتراف بجنحته، ثم قسوة العقوبات التي تنزل
بالمذنبين، كما هو الحال في مملكة غانا[6].
القضاء في عهد مملكة مالي (الأدوار والمهام):
مع تجذُّر الإسلام واتساع رقعته في مملكة مالي، أصبحنا نلمس قضاءً إسلاميّاً بكل ما
تعنيه الكلمة من معنى؛ مبنياً على الأحكام الشرعية المستمدة من الدين الإسلامي.
فتؤكد نصوص ابن بطوطة على البُعد الاجتماعي لمؤسسة القضاء، ذلك أن رفاهية الشعوب
وأمنها كانت تعتبر رهينة بعدالة الملك.
إن شيوع الأمن والعدل في مملكة مالي يعتبر ظاهرة صحية لمؤسسة القضاء التي يرأسها
الملك، ويعتمد في أحكامه على العرف. واهتم ملوك مالي بنشر العدل، وتطبيق أحكام
الدين الإسلامي بين الرعية، فعيَّنوا القاضي في العاصمة نياني، وفي المدن الأخرى،
كما وجدت في المملكة محكمتان: محكمة عُليا برئاسة الملك، وأخرى برئاسة القاضي، الذي
يعيِّنه الملك، وهي تختص بالنظر في القضايا العامة، والجُنَح بين المواطنين، أما
الجرائم السياسية وجرائم الجنايات الكبرى، فهي من اختصاص المحكمة الملكية العليا
التي يرأسها الملك؛ فقد حاكم السلطان منسى سليمان بنفسه الذين اشتركوا في مؤامرة
عزله، ومنهم زوجته قاسا، وكان الحُكم متناسباً كلٌّ حسب جريمته. كما يروي العمري عن
الشيخ سعيد الدكالي الذي أقام في العاصمة نياني مدة خمس وثلاثين سنة، أن الملك يحكم
بالقصاص على كل من تسبب في قتل شخص بالسحر، وتعتبر هذه من أكثر القضايا التي تُعرَض
أمام منسى مالي[7].
بَيْدَ أنَ الملك لم يكن يدير مؤسسة القضاء وحده، بل وُجِد إلى جانبه فقهاء قضاة
تزايدت أهميتهم بتزايد الحضور الإسلامي في الديار الإفريقية؛ فأينما وُجِد المسلمون
في مدن إفريقيا الغربية، إلا كان فيها قاضٍ، أو فقيهٌ يتولى النظر في أمورهم
الدينية والدنيوية.
ويلاحظ أن النظام القضائي في مملكة مالي قد تأثَّر تأثُّراً كبيراً في تنظيماته
بمصر وبلاد المغرب، ولعل ذلك راجع إلى حجة السلطان منسى موسى إلى الديار المقدسة،
ومروره بمصر؛ إذ اصطحب معه عدداً من الفقهاء ممن كانوا قد تتلمذوا على يد علماء
مالكيين من فئة القضاة، إضافة إلى تلك الرحلات العلمية التي كان يرسلها المنسى إلى
مدينة فاس المغربية، وما قام به من علاقات سياسية مع حُكام المغرب من بني مرين،
وصلت إلى حدِّ تبادل الوفود والسفارات، نقلت من خلالها تأثيرات تنظيمية شملت خطة
القضاء[8].
القضاء في عهد دولة الأساكي:
عرف القضاء الإسلامي قفزة نوعية مع وصول الأساكي إلى سدة الحُكم؛ ذلك أن الأسكيا
محمد الأول قرر بناء دولة جديدة ترتكز على شرائع الإسلام، وعلى الفقه الإسلامي؛
وخاصة المذهب المالكي. واعتمد في تطبيق مشروعه على فقهاء المالكية الأجانب،
كالمغيلي فقيه توات، والسيوطي فقيه مصر، ناهيك عن نخبة معتبَرة من مشاهير الفقهاء
الإفريقيين، وهي النخبة التي تكونت في جامعات تنبكت وجني، والتي ساهمت بشكل كبير في
نشر الإسلام، وفي إرساء قواعد المذهب المالكي في منطقة إفريقيا الغربية. وهي مِن
أُوْلَى الإجراءات التي اتخذها الأسكيا بمجرد وصوله إلى السلطة، تكريساً للبعد
الإسلامي الذي اختاره لمؤسساته[9].
اعتبرت مهمة القاضي رمزاً من رموز الإسلام؛ اعتباراً لكون العدالة برزت في الفكر
الإسلامي كصفة من الصفات الإلهية، ولعله المفهوم الذي كوَّنه فقهاء منطقة إفريقيا
الغربية عن هذه الوظيفة، ومن ثَمَّ أيضاً انبثق تخوفهم منها، ورفضهم توليتها إلا
بعد إلحاح كبير، حتى أن السلطان كان يضطر إلى استعمال القوة في بعض الأحيان لتعيين
القاضي، الذي كان يتهرب من هذا المنصب، لخوفه من الوقوع في غضب الله، ولِعِظَم
مسؤولية هذه الوظيفة أمام الله، ولزهدهم فيها على الرغم مما لهذه الوظيفة من
صلاحيات التقرب من السلطان، ومن ناحية أخرى، نرى أن إلحاح الأساكي على هؤلاء
الفقهاء دليل على رغبتهم في إصلاح حال الرعية، بتعيين قضاةٍ مشهودٍ لهم بالورع
والثقة، لأنَّ ثقة القاضي من ثقة الحاكم.
لقد كانت مدينة جني من أكثر المدن تعرُّضاً لهذه الأزمة، ذلك أنه في سنة 1539م عقب
وفاة قاضي المدينة، أرسل أسكيا إسحاق الأول أحد موظفيه الكبار من أجل إرغام العالم
الكبير محمود بن أبي بكر بغيغ لتولي هذا المنصب، يقول عبد الرحمن السعدي في كتابه
(تاريخ السودان) في ذلك:
«أمر
بتقديم القاضي محمود بغيغ، وأرسل أحد أعيانه من جيشه ليقدمه قاضياً أحبَّ أم
أُكرِه، فأتى الرسول وجمع أهل البلد وفقهاءها، وأحضروا محمود بغيغ وهو لا يشعر
فأخذوه وأمسكوا به، وجعلوا قمصان الأسكيا في عنقه الذي أرسل إليه، وعمموه وهو يصرخ
ويبكي بكاء الصبي، وقدموه جبراً وقرؤوا عليه كتاب الأسكيا، فلما دخل بيته استقبلته
زوجته، وقالت له: لم رضيت القضاء، فقال لم أرضَ بذلك؛ وإنما أجبروني بها وكلفوني،
فقالت: لو اخترت الموت لكان أحسن منه»[10].
وقد سمحت لنا الحوليات الإفريقية بتكوين لوائح تكاد تكون مكتملة لقضاة القرن السادس
عشر في مدينتَي تنبكت وجني، نستخلص من خلال قراءتنا لها، أن القضاة في تنبكت
انحصروا في أفراد أسرة أقيت التي قدمت أشهر علماء جامع السنكري، ويعتبر الفقيهان
محمود وابنه العاقب أكثر الأئمة والقضاة شهرة، وأوفَرَهم حظوة ورِفعة لدى الخاصة
والعامة خلال هذه الفترة، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على مدى تفاعل أبناء
المنطقة مع الإسلام وثقافته. وصف المؤرخ عبد الرحمن السعدي القاضي محمود بن عمر بن
محمد أقيت، بأنه
«عالم
التكرور وصالحها ومدرِّسها، وفقهيها وإمامها بلا مدافع، كان من خيار عباد الله
الصالحين العارفين به... اشتهر علمه وصلاحه في البلاد، وطار صيته في الأقطار شرقاً
وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وظهرت بركته على ديانة وصلاح وزهد ونزاهة، لا يخاف في
الله لومة لائم».
ولم يكن الفقيه محمود قاضياً وأستاذاً فحسب، وإنما حاكماً حقيقيّاً على مدينة تنبكت
بترخيص من الأسكيا ذاته، وقد ظل في منصبه حتى وفاته سنة 1548م. درس العلوم الدينية
بالحجاز بعد أن حج بيت الله الحرام، وحصل على إجازات من علماء كبار في المذهب
المالكي، ثم عاد إلى تنبكت حيث تربع للتدريس في مساجد المدينة، وارتأى في بادئ
الأمر إصلاح وترميم هذه المساجد، فعمل على بناء الجزء الأكبر من مسجد السنكري الذي
كان يشرف على إمامته، وهو البناء الذي أحدث أزمة بينه وبين الأسكيا داوود. وبعد
موته ظل منصب قضاء تنبكت شاغراً حتى سنة 1585م، حيث عين الأسكيا الحاج أخاه أبا حفص
عمر أقيت الذي اعتُبر آخر قاضٍ تولى قضاء تنبكت في عهد السنغاي؛ إذ في سنة 1592م
ألقى المغاربة القبض عليه، وسيق أسيراً إلى مراكش، فكانت بذلك نهاية هيمنةِ أسرة
أقيت على القضاء في تنبكت، متزامنة تقريباً مع نهاية دولة السنغاي في غاو[11].
ومما يستوقفنا في هذا الجانب، أنَّ فقهاء جني كانوا أكثر تهرُّباً وابتعاداً عن
تحمل مسؤولية القضاء أكثر من غيرهم في المدن الأخرى، وهو ما يفسر شغور المنصب لعدة
مرات، الأمر الذي كان يحتِّم على الملك تعيين القضاة قهراً في هذه المدينة.
وبالمقارنة بقضاة تنبكت الذين وُصِفوا بسعة الحال، ونيلهم ما شاؤوا من دولة ورياسة،
كالقاضي العاقب، وُصِف قضاة جني بالمقابل بالزهد في الدنيا، والاعتكاف على أمور
الدين، والقيام بالأعمال الخيرية لفائدة المحتاجين والمعوزين.
لقد كان القضاة مستقلين في أحكامهم طيلة عهد الأساكي، وقد فَصَلوا بصفة رئيسية في
القضايا الشعبية من عقار وإرث، وديوان، وزواج، وفي المسائل التي لها صفة أخلاقية،
أما الجنايات الكبرى والأعمال السياسية التي يُحكَم فيها بالإعدام عادة فهي تُعرَض
عليهم في أغلبيتها، ولكن يرجع أمر تنفيذها إلى السلطان.
كما سعت السلطة الحاكمة لاختيار القاضي وَفْقَ أحكامٍ وشروطٍ تمثلت في الكفاءة،
والخبرة العلمية، والتمرس في الحياة، وسنوات التجربة، فجعلت من هذا الأخير المثل
الأعلى في مجتمعه، الذي شكَّل همزة الوصل بين الحاكم والرعية. كما كانت السلطة
حريصة على أن يكون القاضي من فئة العلماء، والفقهاء المشهود لهم بالتقوى والورع،
وتحري العدل.
أما طريقة التعيين، فكانت تتم وَفْقَ مراسم خاصة في المسجد، بعد إحدى الصلوات
الخمس، بحضور السلطان، في يوم مشهود؛ حيث يأتي الفقيه الذي يريد أن يُنَصَّب قاضياً
فيحلف أمام الحاكم بالله، أو باسم من أسمائه الحُسنى، أنه سيلتزم في أحكامه بما جاء
في كتاب الله وسنة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يخاف في الله لومة
لائم.
خاتمة:
نستخلص مما تقدم، أنَّ القضاء كانت له مميزات خاصة في منطقة إفريقيا الغربية خصوصاً
في فترة حُكم الأساكي؛ إذ كان القاضي يتمتع بسلطات واسعة مدنية وأحياناً سياسية ذات
حظوة معيَّنة، الأمر الذي أكسبه ثقة العامة من جهة، واحترام الملوك وتقرُّبهم إليه
من جهة أخرى. وبحكم موقعه استطاع أن يلعب القاضي دور الوساطة بين السلطة والمجتمع،
ويحقق نوعاً من التوازن بين فئتين غير متكافئتين على مستويات عدة، بين السلطة التي
كانت تطمح إلى ضمان الأمن والاستقرار، وبين المجتمع الذي كان يتوقُ إلى إيجاد من
يحمي حرياته، ويصون أرواحه وممتلكاته، بوضع رقابة على الحُكَّام الطغاة، والمعتدين
من أعوانه. وما العدل الذي كان سائداً في مجتمع إفريقيا الغربية، إلا دليل على
أهمية مؤسسة القضاء في تنظيم المجتمع، وفق المنظور الإسلامي الصحيح، الذي يستند على
الشريعة الإسلامية، وعلى سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
[1] عبد الله عيسى، 2017م، الإسلام وبدايات التدخل الأوروبي في إفريقيا الغربية ما
بين القرنين 15 - 17، القاهرة: منشورات المكتب العربي للمعارف، ص5.
[2] أبو القاسم محمد بن حوقل، 1979م، صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص98.
[3]
Delafosse, (M), Haut Sénégal
–
Niger, 1972, Paris ;
Maisonneuve et Larose, Vol 3, p24.
[4] أحمد الشكري،
«التأثيرات
الثقافية المتبادلة ما بين المغرب و دول إفريقيا جنوبي الصحراء (الإسلام واللغة
العربية)»،
ضمن ندوة التواصل الثقافي بين ضفتي الصحراء الكبرى في إفريقيا، طرابلس الجماهيرية،
دار الوليد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2004م، ص272.
[5] محمد مولاي، القضاء والقضاة في السودان الغربي من أواخر القرن التاسع الهجري
حتى الثاني عشر، أطروحة دكتوراه في التاريخ الحديث، جامعة وهران1، الجزائر، السنة
الجامعية ( 2018 - 2019)، ص73.
[6] أبو عبيد البكري، 1965م، كتاب المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، وهو الجزء
الخامس من المسالك والممالك، باريس: ميزونوف، حققه وترجمه للفرنسية دوسلان، ص197.
[7]
Madina (L .T),1991,
Un islam militant en Afrique de l’Ouest
au XIXe siècle
: la Tijaniyya de Saïku
Umar Futiyu contre les pouvoirs traditionnels et la
puissance coloniale, p. 87.
[8] ابن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأبصار، (بيروت: مؤسسة
الرسالة، 1985م) ، الجزء الثاني ، ص788.
[9] محمود كعت، 1981م، تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وآكابر الناس وذكر
وقائع التكرور وعظائم الأمور وتفريق أنساب العبيد من الأحرار، باريس، ميزونوف؛ وهي
النشرة الثانية عن الطبعة الأصل الصادرة عام 1913-1914م. وقف على طبعه من تغيير نصه
مع ترجمته للفرنسية أوكتاف هوداس وموريس دولافوس، ص 59.
[10] عبد الرحمن السعدي، 1981م، تاريخ السودان، ترجمه من الفرنسية أوكتاف هوداس
بمشاركة تلميذه السيد بنوة، باريس، ميزونوف، ص38.
[11]
Mauny, (R), 1961, Tableau Géographique
de l’Ouest
Africain au Moyen-âge.Mem,
de l’IFAN.B.
No 61, Dakar, p. 505.