لا توجد أيُّ معلومات في المصادر التاريخية تتعلق بالمراحل الأولى من حياة السمح بن مالك الخولاني، وأول ظهور له في الحياة العامة وعلى مسرح الأحداث كان بعد أن شبَّ عن الطوق، وصار رجلاً ناضجاً تمام النضج
هناك شخصيات إسلامية لعبت دوراً مميزاً في التاريخ الإسلامي، ومع ذلك فإن مصادر
المؤرخين لا تحتوي إلا على تراجم مختصرة موجَزة لهم؛ لا تتحدث عن نشأتهم وبداياتهم
الأولى وصفاتهم... إلخ، وهي بشكل عام لا تتناسب مع الأدوار التي أدَّوها، والأعمال
الخالدة التي قاموا بها. ومن هؤلاء (السمح بن مالك الخولاني) أمير الأندلس (من
رمضان 100 إلى ذي الحجة 102هـ)، وفاتح الشطر الجنوبي الأعظم من فرنسا، لذلك فقد
خصصنا هذا المقال للحديث عن تلك الجوانب من تاريخ هذا العَلَم البارز.
أولا: المناسبة التي ظهر فيها السمح بن مالك
لا توجد أيُّ معلومات في المصادر التاريخية تتعلق بالمراحل الأولى من حياة السمح بن
مالك الخولاني، وأول ظهور له في الحياة العامة وعلى مسرح الأحداث كان بعد أن شبَّ
عن الطوق، وصار رجلاً ناضجاً تمام النضج، وكان ذلك في دمشق دار الخلافة الأموية،
وتحديداً في بلاط الخليفة سليمان بن عبد الملك رابع خلفاء البيت المرواني، والسابع
من خلفاء بني أمية. وقد كان هذا الظهور محض قَدَرٍ، وفي مناسبة أو حادثة لا تخلو من
معنى. إذ كان السمح وقتها - بالنسبة لنا على الأقل - شخصية مغمورة، جاءت من صفوف
الجند أو العرب المقيمين في إفريقية موفداً مع آخرين في مهمة رسمية. وكانت بداية
تلك الحادثة ترجع إلى سُنَّة حسنة استنها الخلفاء الراشدون في عصر صدر الإسلام فيما
يتعلق بنظام قبض الخراج من ولايات الدولة الإسلامية، وتحديداً على عهد الخليفة عمر
بن الخطاب رضي الله عنه. ومضمون تلك السُّنَّة الحميدة هي أن الخلفاء من بني أمية -
حسبما ورد في لفظ إحدى تلك الروايات - كانوا إذا جاءتهم جبايات
الأموال من الأمصار والولايات التابعة للدولة الإسلامية، يأتيهم مع كل جباية وفدٌ
مكوَّنٌ من عشرة رجال على الأقل من وجوه الناس وأجنادها من العرب المقيمين في
الولاية؛ فلا يدخل بيت مال المسلمين من الجباية دينار ولا درهم مما يُرسل به الولاة
من (فائض) خراج، ولا يأتيهم إلى عاصمة الخلافة، إلا بعد أن يحلف هؤلاء العدول بأن
هذا المال ما فيه دينار ولا درهم إلا أُخِذ بحقه، وأنه المستصفى الحلال لبيت المال
بعد دفع أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية؛ أي رواتبهم التي تصرفها الدولة لهم،
وبعد خصم سائر النفقات على مصالح الولاية وشؤونها، وبعد أن أخذ كلُّ ذي حق حقه.
والمهم أنه على هذا الأساس كان يتم التعامل مع خراج الولايات الإسلامية المفتوحة
وجباياتها، قبل إدخالها إلى بيت المال في عاصمة الخلافة.
وأقبل خراج ولاية إفريقية في ذات يوم من أيام خلافة سليمان بن عبد الملك، وذلك أن
ولاية إفريقية لم تكن يومئذٍ ثغراً؛ بمعنى أنها كانت قد صارت مصراً، فكان ما فضل من
الخراج بعد أعطيات الأجناد وفرائض الناس ينقل إلى الخليفة، أو بكلمة أدق: لبيت مال
المسلمين في دار الخلافة، وأقبل مع ذلك الخراج عشرة من وجوه الناس وعدول الجند من
العرب المقيمين في الولاية كما قد جرت العادة. ولما أمرهم الخليفة أن يحلفوا بالله
الذي لا إله إلا هو، ويدلوا بشهاداتهم على صحة هذا المال وحلاله، حلف ثمانية من
أعضاء الوفد، ونَكَل اثنان، وهما: إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر مولى بني
مخزوم، والسمح بن مالك الخولاني. وكان ذلك بحضور عمر بن عبد العزيز، فأعجبه هذا
الموقف منهما فضمهما إلى نفسه، وبعد أن تولى الخلافة عيَّن أحدهما والياً على
إفريقية وهو إسماعيل بن عبيد الله، والآخر والياً على الأندلس، وهو السمح بن مالك
الخولاني.
ثانيا: مصادر هذه الرواية
هذه الرواية لم ترد سوى في عدد قليل من المصادر، والمصادر التي وردت فيها حصراً -
حسب علمنا - أربعة، هي:
•
كتاب (رحلة الوزير في أفتكاك الأسير): تأليف السفير محمد بن عبد الوهاب الغساني.
وهو يتضمن رواية رحلته الرسمية إلى إسبانيا سنة 1103هـ/ 1691م، وأورد هذه الحكاية
ضمن ما نقله حول فتح الأندلس عن محمد بن مزين، الذي نقل بدوره عن قطعة عثر عليها في
إحدى مكتبات إشبيلية سنة 471هـ/1078م من كتاب مفقود اسمه (كتاب الرايات)، ألَّفه
محمد بن موسى الرازي سنة (277هـ)، وهو تاجر من أهل الري قَدِم الأندلس سنة 250هـ في
عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273هـ) ولم يذكر في كتابه هذا سوى ابن مزين.
وكذلك ضمن ما نقله الغساني عن المؤرخ الكبير أحمد الرازي (344هـ) من أحد كتبه
المفقودة. والرواية السابقة نقلها الغساني عن هذا المؤرخ تحديداً، كما صرَّح هو
بذلك في بدايتها. هذا، وكان كتاب الغساني آنفُ الذكر قد سبق أن نُشِر تحت عنوان
(الرسالة الشريفية)، ذيلاً لكتاب ابن القوطية (تاريخ افتتاح الأندلس) في مدريد سنة
1926م من قِبَل المستشرق الإسباني خوليان رايبيرا (1933م) دون ذكر اسم مؤلفه.
•
كتاب (أخبار مجموعة في فتح الأندلس وذكر أمرائها) لمؤلف مجهول. وتاريخ هذا الكتاب
مختَلَف فيه؛ فبعض الباحثين يجعله في القرن الرابع الهجري وبعض آخر يجعله في القرن
الخامس. وقد نشر هذا الكتاب لأول مرة وترجمه إلى الإسبانية لا فونتي الكنترا في
مدريد سنة 1867م.
•
كتاب (فتح الأندلس) لمؤلف مجهول أيضاً! ويحدد العالم الإسباني (غارسيا غومس) أنه
أُلِّف بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وقد نشر هذا الكتاب
المستشرق الإسباني دون خواكين دي كونثاليث في الجزائر سنة 1889م.
•
كتاب في التاريخ لابن أبي الفياض (419هـ) يُعتقد أن اسمه (العبر)، وهو مفقود للأسف!
ولكن الدكتور عبد الواحد ذنون طه عثر على قطعة مخطوطة منه في مكتبة الأسكوريـال
بمدريد، فقام بنشرها في مجلة المجتمع العلمي العراقي، وتحتوي هذه القطعة المنشورة
على جزء من تلك الحكاية، وهو الذي يهمنا هنا. على أن فيها إضافة مهمة؛ فقد جزم ابن
أبي الفياض بأن الوفد كان يمثل المغرب والأندلس، وكذلك المال. وهذا مقبول لأن
الأندلس كانت تابعة لإفريقية حينذاك، ولم تكن منفصلة عنها.
هذه هي المصادر الأربعة التي وردت فيها هذه الرواية، وهي جميعاً من مصادر تاريخ
الأندلس. في حين لم يذكرها أحد من مؤرخي المشرق القدماء وكذلك لم ترد في الكتب التي
تناولت سيرة عمر بن عبد العزيز؛ كسيرة ابن عبد الحكم، وسيرة ابن الأثير، كما لم
يذكرها ابن عبد الحكم أيضاً في كتابه (فتوح مصر والمغرب والأندلس)، وهو أول كتاب
وصل إلينا عن تاريخ المغرب والأندلس. وقد يكون السبب في ذلك أن انتشار هذه الرواية
قد اقتصر على الأندلس فقط، ولم تنتشر في المشرق، ولا حتى في مصر، التي كانت مركزاً
لما كان يُكتَب من أخبار المغرب والأندلس.
ثالثا: سبب النكول عن القَسَم
إن المصادر التي أوردت هذه الرواية لم تذكر لنا السبب في تراجعهما عن القَسَم، مع
أن هذا - والله أعلم - كان هو الغرض الأساسي لوفادتهما من ولاية إفريقية إلى دمشق.
ويمكننا أن نستنتج ذلك من خلال أمرين:
الأول: سياق الرواية السابقة ذاتها؛ وتحديداً في قوله:
«فلا
يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد بالله الذي لا إله إلا هو
ما فيها دينار ولا درهم إلا أُخِذَ بحقه، وإنه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة
والذرية، بعد أن أخذ كل ذي حق حقه».
الثاني: ما يتضمنه معنى كلمة (النكول)؛ وهو أنه يحدث بعد عزم، أو توجه نحو العزم
على القسم، أو حلف اليمين. وفي معجمي (العين، ولسان العرب): نكل عن اليمين حادَ
عنه، وجبن... والنكول عن اليمين: الامتناع منها. قال ابن الأثير: النكل بالتحريك من
التنكيل وهو المنع والتنحية عما يريد، ومنه النكول في اليمين وهو الامتناع منها،
وترك الإقدام عليها. وفي (معجم لغة الفقهاء): النكُول بالضم مصدر نَكَلَ: رجع عن
شيء قاله، أو عن عدو قاومه، أو شهادة أرادها، أو يمين تعيَّن عليه أن يحلفها. ثم في
الفقرة التالية، يحدد معنى النكول بأنه الامتناع عن أداء الشهادة أو حلف
اليمين.
فواضح إذن - من خلال ما سبق - أن المعنى المراد بالنكول في الرواية هو الامتناع عن
أداء الشهادة التي عزم أن يدلي بها، أو حلف اليمين الذي تعيَّن عليه أن يحلفه، وترك
الإقدام على ذلك.
ونعود فنتساءل: ما السبب يا ترى في نكول السمح ابن مالك وصاحبـه عن حلف اليمين
وإقرار صحـة وحِلِيَّة ذلك المال؟
في الحقيقة، إن مصادر المؤرخين التي أوردت هذه الرواية لم تذكر لنا سبب ذلك النكول،
لكن المؤرخ حسين مؤنس استنتج في كتابه (فجر الأندلس) أنها
«رواية
تدل على صحة ما كان يُتَّهَمُ به ولاة إفريقية للأمويين؛ من سوء التصرف في أموال
البلاد، وإرهاق أهلها بالمغارم والجبايات، والمبالغة في مقادير ما يرسلونه إلى دمشق
من الأموال والألطاف».
إلا أنَّ كلامه هاهنا عام وغير مدعم بشاهد معيَّن. ونحن نرى أن ذلك الموقف قد يكون
جاء بشكل عفوي، ولم يكن بدافع خفي من حب الظهور وابتغاء الشهرة، ولم يصدر عن نية
مبيَّتة واتفاق مسبق بينهما لإحراج الأعضاء الآخرين في الوفد أو للإيقاع بالوالي أو
بعمال الخراج في الولاية. ونرى - وَفْقاً لحوادث أخرى مشابهة - أنهما قد يكونا
امتنعا من القسم وتركا الإقدام عليه تورعاً واحتياطاً لأنفسهم، نتيجة للضمير الحي
واليقظ الذي يتمتع به كلٌّ منهما، وتحريهما الحق والعدل واستشعارهما الخوف الدائم
من الله سبحانه وتعالى. علماً بأن التجاوزات والممارسات الخاطئة في هذه الوظيفة
المالية الهامة جداً مسألة ورادة، و قد تكون التجاوزات إما في عملية فرضها، وإما في
عملية جبايتها، وإما في عملية توزيعها، وإما في هذه الحالات كلها، وقد تتمثل في
واحد أو أكثر من الأمور التالية: زيادة الفئة المحددة للخراج، جباية الخراج في غير
وقت الحصاد، عدم مراعاة مبدأ المقدرة على الدفع، لدى دافع الخراج، عدم العدل عند
فرض الخراج، القسوة في جباية الخراج، عدم إعطاء كل ذي حق حقه من الخراج.
رابعا: تاريخ الحادثة وما ترتب عليها
في الواقع فإن تاريخ هذه الحادثة غير معروف على وجه الدقة، لأن المصادر التي أوردت
هذه الرواية لم تحدد السنة؛ وإنما اكتفت بالقول إنها حدثت في خلافة سليمان بن عبد
الملك؛ ذلك أن صاحب كتاب (أخبار مجموعة) قد اكتفى بالقول إنها حدثت في زمان سليمان
بن عبد الملك، بينما ذكر أحمد بن محمد الرازي في روايته عن ابن حبيب، أنها حدثت في
آخر أيام سليمان بن عبد الملك. علماً بأن مدة خلافة هذا الأخير، لم تتجاوز سنتين
وثمانية أشهر؛ إذ إن سليمان بن عبد الملك (54 - 99هـ) تولى الخلافة بعد وفاة أخيه
الوليد في منتصف جمادى الآخرة سنة 96هـ، وتوفي في صفر سنة 99هـ. وقال القلقشندي عند
الحديث عن خلافة سليمان:
«وبويع
له بها، أي بدمشق، بعد موت أخيه الوليد يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة ستٍّ
وتسعين، وبقي حتى توفي بدابق من أرض قنسرين، لعشرٍ خَلَوْن من صفر سنة تسع
وتسعين... وكانت خلافته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام».
والقول بأنها وقعـت في آخر أيام سليمان بن عبد الملك فيه نظر؛ لأن سليمان في آخر
خلافته كان مرابطاً في معسكر دابق في شمال الشام لمتابعة أخبار الحملة العسكرية
الضخمة (البرية - البحرية) التي وجَّهها لفتح القسطنطينية، وبقي هناك حتى توفي.
ونحن نميل إلى القول - بناء على الوقائع والشواهد التي سنذكرها -: إن تلك الحادثة
أو المناسبة وقعت في عام 97هـ؛ أي في أواخر عهد ولاية عبد الله بن موسى بن نصير على
إفريقيا؛ فإن هذا الأخير - كما يذكر المؤرخون - كان من رجال الفتح في إفريقيا مع
أبيه موسى الذي استخلفه على القيروان عندما سار إلى الأندلس سنة 93هـ، ثم ثبَّته في
ولايته أثناء عودته إلى المشرق في آخر عام 95هـ، وبقي والياً عليها حتى عزله
الخليفة سليمان بن عبد الملك عـام 97هـ. وغير بعيد أن تكون الحادثة المذكـورة آنفاً
هي التي أدت إلى عزل عبد الله بن موسى بن نصير عن ولاية إفريقيا، ومن ثَمَّ قيام
الخلافة بتعيين محمد بن يزيد مولى قريش والياً عليها في ذي الحجة سنة 97هـ، وذلك
بتزكية من قبل التابعي الجليل رجاء بن حيوة الكندي (36 - 112هـ). ولم يخيِّب هذا
الوالي ظنَّ رجاء بن حيوة والخليفة سليمان بن عبد الملك به؛ إذ تذكر المصادر أن
محمد بن يزيد والي إفريقيا (97 - 100هـ) عُرِف بسيرته الحسنة واعتدال سياسته في
ولايته، حيث ساد السلم والأمن والهدوء جميع أنحاء المغرب، فنعم السكان خلال حكمه
بالاطمئنان والعدل، اللهم إلا ما أخذه بعض المؤرخين على محمد بن يزيد من أخذ آل
موسى بن نصير في إفريقية بالشدَّة والعنف، وقتله عبد الله بن موسى بن نصير، إن صح
هذا الخبر، وهو - غالباً - غير صحيح، لأن هناك روايات تذكر أنه كان حيّاً في سنة
101هـ؛ أي في خلافة يزيد بن عبد الملك، وأن حادثة مقتله - كما جاء في كتاب فتوح مصر
لابن عبد الحكم - وقعت بعد ذلك، وتحديداً في سنة 103هـ، في أيام ولاية بِشْر بن
صفوان الكلبي على إفريقية.
خامسا: أبرز ما نستنتجه من هذه الحادثة
1- موطن السمح بن مالك الخولاني:
أول ما نستنبطه من هذه الرواية هي أن السمح بن مالك الخولاني، كان من عرب إفريقية
ومن أجنادها؛ أي من العرب الذين توطنوا إفريقية منذ أيام الفتح العربي للمغرب،
وانتسبوا لهذا الموطن الجديدة، فصاروا يُعرَفون بها، فيقال: عرب إفريقية أو جند
إفريقية
«ولم
يكن ذلك - كما قال ابن خلدون في المقدمة - لاطِّراح العرب أمر النسب؛ وإنما كان
لاختصاصهم بالمواطن بعد الفتح حتى عرفوا بها، وصارت لهم علامة زائدة على النسب
يتميزون بها عند أمرائهم».
فهي تدل، بكل وضوح، على أن أولئك الشهود العدول الثقاة، الذين يصاحبون المال، إنما
يكونون من أهل البلد التي يجبى منها الخراج؛ أي من المقيمين فيها، من كبار العرب
وثقاتهم، ويمكن - في هذا الصدد - الاستشهاد بالرواية التي وردت في كتاب الخراج
للقاضي أبي يوسف؛ فقد روى عن أحد أشياخه أنه قال:
«سمعت
ميمون بن مهران يحدِّث أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يجبي العراق كل سنة مئة
ألف ألف، ثم يخرج عشرة من أهل الكوفة، وعشرة من أهل البصرة، يشهدون أربع شهادات
بالله أنه من طيب، ما فيه ظلم مسلم ولا معاهَد».
2- علاقة السمح بن مالك بأعمال الدولة:
كما يظهر من هذه الحادثة أن السمح بن مالك الخولاني، لم يكن يومئذٍ رجلاً عادياً،
أو مغموراً، أو بعيداً عن أعمال الدولة، وعن مسرح الأحداث السياسية، والإدارية،
والثقافية في الولاية التي كان يتوطن فيها؛ وإنما كان أحد كبار الجند، وأحد وجوه
عرب إفريقية الذين كانوا يمثلون الدولة، أو بالأحرى، كانوا حلقة وصل بين الدولة
ورعاياها في هذه الولاية. ومن الواضح - بناء على الاستنتاج الذي توصل إليه المؤرخ
العسكري الدكتور محمود شيت خطاب، في ترجمته للسمح بن مالك الخولاني، في الجزء
الثاني من كتابه (قادة فتح الأندلس) - أن السمح:
«كان
يعمل في إفريقية على عهد سليمان بن عبد الملك، وأنه كان بارزاً بين العاملين هناك،
فيكون أحد أفراد الوفد الذين يحملون الخراج من إفريقية إلى عاصمة الخلافة في دمشق،
ممثلاً لوالي إفريقية ومَن معه من الأجناد وأهل البلاد».
3- الصفات المميزة لشخصية السمح بن مالك:
كان السمح بن مالك - طبقاً لهذه الرواية - من العدول. والعدالة: مَلَكَة أو صِفة
راسخة في نفس الإنسان تحمله على التقوى؛ بأداء الواجبات، واجتناب الكبائر والرذائل
المخلة بالمروءة، وعدم الإصرار على الصغائر، والترفع عما فيه خسة من التصرفات. وكون
السمح كان من العدول؛ فمعنى ذلك أنه كان من الذين لا تُرد شهادتهم، ولا يُطعن في
نزاهتهم، ولا يُخشى منهم جور إذا حكموا. لكن مع كل ذلك تبقى الصفة الأخلاقية
البارزة التي كان يتحلى بها السمح بن مالك وتشكِّل أبرز المعالم لشخصيته - وَفْقاً
للحادثة السابقة - هي الجرأة في الحق:
«والجرأة
- كما عرفها أحد الكتاب -: قوة نفسية ضرورية يستمدها الإنسان من إيمانه بالله
الواحد القهار، ومن الحق الذي يعتنقه، ومن القَدَر الذي يسلم به ويستسلم له، ومن
المسؤولية التي يستشعرها. وعلى قدر نصيبه من ذلك تكون جرأته في الحق، وقدرته على
الجهر بالرأي الحر».