• - الموافق2024/11/01م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
{طَاعَةٌ مَّعْروفَةٌ}

ثلاث حالات تحدثت عنها الآيات في وصـف المنافقين الذين يدَّعون الإيمان بألسنتهم وينسبون أنفسهم إلى المجتمع المسلم، لكنهم في واقع الأمر يرفضون الطاعة والتسليم


في سياق الكلام عن محور العبودية العظيم (أعني السمع والطاعة لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ) جاء الحديث عن طائفة تعيش في المجتمع المسلم تدعي الإيمان وتقول إنها تشهد ألَّا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وتصلي مع المسلمين وربما تصوم معهم أيضاً، لكنها في الوقت نفسه لا تسمع ولا تطيع أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم  إلا استثناءً.

ولِـمَا يُعرف عنها من تعمُّد التملص من هذه العبودية العظيمة؛ فإنهم يحلفون بالله أنهم مستعدون لطاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم  مهما كان الثمن، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْروفَةٌ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53]. قال البغوي: «وذلك أنَّ المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أينما كنت نكنْ معـك، لئنْ خَرجت خرجنا، وإنْ أقمت أقمنا، وإنْ أمرتنا بالجهاد جاهدنا. فقال تعالى: ﴿قُل﴾ لهم ﴿لَّا تُقْسِمُوا﴾ لا تحلفوا. وقد تم الكلام، ثم قال: ﴿طَاعَةٌ مَّعْروفَةٌ﴾ أي: هذه طاعة بالقول وباللسان دون الاعتقاد، وهي معروفة أي: أمرٌ عُرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون، هذا معنى قول مجاهد رضي الله عنه»[1].

وقال القرطبي: «عاد إلى ذكـر المنافقين، فإنه لَـمَّا بيَّن كراهتهـم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم  أتوه فقالوا: والله لو أمرتنا أنْ نخرج مِن ديارنا ونسائنا وأموالنا لخرجنا، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا، فنزلت هذه الآية»[2]. فهم أساساً كارهون لحكم الله ورسوله غير مستجيبين لهما، وإنما يقولون ذلك بألسنتهم أمام الناس وفي مجامعهم، وهي ظاهرة متكررة من المنافقين عبر التاريخ؛ يُظهرون بألسنتهم، وبما يقوم مقامها كالكتابة، وبكل ما يستطيعون أنهم مطيعون لله ورسوله، وأنهم يحبون هذا الدين، وأنهم غيورون على حرماته، وأنهم حريصون على إعلاء شأنه بين العالمين، ويقسمون بالله الأيمان الغليظة على ذلك، ولربما دبجوا القول في هذا. فأمر الله تعالى رسوله أنْ يقول لهم: لا تقسموا! فلا داعي لهذه الأيمان كلها؛ فإنَّ الطائع لا يُعرَف من خلال قوله: أطعنا، ولا من تدبيج العبارات ولا من تزيين الكلمات في مجامع الناس؛ وإنما يُعرف مِن خلال الاستجابة الحقيقية، الاستجابة التي تجعله يترجم عبودية الطاعة والتسليم إلى سلوك صريح في جهاد أعداء الله تعالى والخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم  لمؤازرته في غزواته والاستعداد التام لبذل الروح رخيصة في سبيله، فضلاً عن الالتزام بالطاعة في كل أمرٍ لله ولرسوله واجتناب كل نهي لهما في كافة مناحي الحياة، فهذه هي الطاعة الحقيقة وهذا هو التسليم الصحيح.

والقول الذي أمر الله تعالى رسوله أنْ يقوله هو: لا تقسموا فقط، كما في كلام البغوي السابق إذ قال: «وقد تم الكلام»، فهي كافية في الرد عليهم وإجابتهم، وإنما يُنهون عن القسم لأنه قسم نفاق وتملُّص من التبعات والواجبات، قال الرازي: «ولو كان قَسَمُهم كما يجب لم يَجُز النهي عنه؛ لأنَّ مَن حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أنْ يُنهى عنه، وإذا ثبت ذلك أنَّ قسمهم كان لنفاقهم وأنَّ باطنهم خلاف ظاهرهم، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه لا يكون إلا قبيحاً»[3].

وإنما جاءت ﴿طَاعَةٌ مَّعْروفَةٌ﴾ تعقيباً ربانياً يوجز القضية؛ فهي من الجُمل التي تجري مجرى الأمثال إيجازاً، وتضميناً للمعاني الكبيرة، وهذا من الأبواب النادرة في كلام بلغاء العرب وقد تفوق القرآن فيه عليهم بابتكار جُمَلٍ؛ هذه إحداها[4]، قال الشوكاني: «طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد»[5]، ومفادها أنَّ طاعتكم التي تزعمون - أيها المنافقون - معروفة لدينا، ومعروفة لدى الناس إذا سبروا تاريخ وجودكم في المجتمع المسلم وما فيه من مواقفكم تجاه دعوتكم إلى طاعة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . فلديكم سجل مملوء بإعراضكم عن حكم الله ورسوله، وانتهازيتكم المعهودة في المواقف، وتملصكم من أداء الواجبات، وهذا السلوك المتنوع يدل على كذبكم في تلك الأيمان التي بذلتموها وتلك العبارات التي دبجتموها، «قد كنا نعرف منكم التثاقل والكسل من غير عذر، فلا وجه لعذركم وقَسَمكم، إنما يحتاج إلى ذلك من كان أمره محتملاً وحاله مشتبهة، فهذا ربما يفيده العذر براءةً، وأما أنتم فكلا ولما، وإنما يُنتظَر بكم ويُخاف عليكم حلول بأس الله ونقمته، ولهذا توعدهم بقوله: {إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم عليها أتم الجزاء»[6].

انتهازيون فحسب:

وهذا الأمر يجعلنا نعود إلى موضوع أحوال المنافقين حيال مسألة التسليم للنص والطاعة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ القرآن الهادي قد بيَّن لنا في الآيات التي سبقت هذه الآية أحوال المنافقين حيال ذلك، قال الله تعالى:

{لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 46 وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ 47 وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ 48 وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [النور: 46 - 50].

ثلاث حالات تحدثت عنها الآيات في وصـف المنافقين الذين يدَّعون الإيمان بألسنتهم وينسبون أنفسهم إلى المجتمع المسلم، لكنهم في واقع الأمر يرفضون الطاعة والتسليم:

الحالة الأولى: هي التولي عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى طاعة غيره، وتقديم رأي غيره على رأيه، وقبول حكم غيره دونه، بل يدعون إلى الاستضاءة بهدي غيره دون هديه والاحتكام إلى قانونٍ غير حكمه، وهي حالة مَرَضية تشمل مناحي الحياة، وهل يستضيء الناس في هذه المناحي بنور الله تعالى أم أنهم يقدمون ما أنتجته العقول البشرية من أفكار على ذلك النور؟

وعلى المسلم دوماً أنْ يقف نفسه أمام أيِّ نتاج بشري مهما كان نوعه، سائلاً نفسه: هل هذا النتاج ذاته مما يتعارض مع شريعة الإسلام وهدي النبي صلى الله عليه وسلم  أم لا؟ ليتخذ بعد ذلك قراره السلوكي الصائب. ذلك أنك إذا علمت أنَّ النفاق حالة قلبية وعملية في آنٍ معاً؛ فعليك أنْ تتوقَّ أحوال النفاق في سيرك إلى الله تعالى.

وهذا التولي منهم سلوكٌ ابتدائيٌّ وليس هو مجرد رد فعل، أي هذا هو ديدنهم رغم أنهم يقولون بألسنتهم أنهم يطيعون أمر الله ورسوله، ولذلك جاء التعبير بفعل المضارع في قوله: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم﴾ ليدل على أنَّ هذا الحال متكرر ومستمر.

الحالة الثانية: هي الإعراض عن حكم الله ورسوله حين يُدعون إليه، وهذه - كما ترى - صفة ليست مختصة بالحكام الذين يأبون إنفاذ حكم الله تعالى في القضايا والخصومات، بل تشمل أيضاً المحكومين من الرعية آحاداً وجماعات، فكل مَن يُدْعى إلى حكم الله ورسوله فيجب عليه الإذعان، وهذا الوجوب يتعلق بالاعتقاد، فإذا أذعن الإنسان واستجاب إلى حكم الله ورسوله حاكماً أو محكوماً فقد أبان عن صحة إيمانه وسلامة اعتقاده وحُسن إسلامه، وكلُّ من أبى الاستجابة والإذعان فقد أبان عن فساد إيمانه ومرض قلبه.

والقرآن يصف هذا الإعراض بالديمومة والثبات ولذلك عبَّر عنه بالاسم لا الفعل ﴿مُّعْرِضُونَ﴾ وهو ما يعني رفضهم الدائم لكل دعوة لهم إلى طاعة أمر الله ورسوله.

وهي حالة لا تقتصر على الخصومات المالية أو القضايا الجنائية، بل تشمل معها الخصومات الفكرية والحوارات العلمية والنزاعات الاجتماعية والأسرية. ولذلك تجد الموفقين دائمي اللجوء إلى الكتاب والسنة في كل ما يَعرض لهم من إشكال في أي باب؛ يحاولون الاستضاءة بنور الوحي، موقنين أنَّ الله تعالى هدانا لأحسن الأقوال والأفعال والأخلاق كما هدانا لأحسن المعالجات، ولذلك قال الشافعي عبارته المشهورة: «فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها»[7].

والناس تمتحن في إيمانها في المواقف والأحداث والحوارات، وثمة يتبين النقاء الإيماني.

الحالة الثالثة: هي قبول الحق حين يعلمون أنه يقف إلى صفهم، ﴿وَإن يَكُن لَّهُمُ الْـحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ قال الزجاج: «جاء في التفسير: مسرعين. والإذعان في اللغة الإسراع مع الطاعة، تقول: قد أذعن لي بحقي، معناه قد طاوعني لما كنت ألتمسه منه، وصار يسرع إليه»[8]. فهم لا يقبلون الحق إلا إذا كانوا مستفيدين منه وَفْقَ معاييرهم، فهم في هذه الحالة يبادرونه ويسرعون إليه، قال ابن كثير: «وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله: مذعنين. وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق، وأحب أنْ يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم  ليروج باطله ثَمَّ. فإذعانه أولاً لم يكن عن اعتقاد منه أنَّ ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لَـمَّا خالف الحقُ قصْدَه، عدل عنه إلى غيره»[9].

ومعنى ذلك أنَّ هؤلاء الانتهازيين لم يُقبلوا على الحق وإنما أقبلوا على مصالحهم الشخصية، فصادف أنْ تتقاطع هذه المصالح مع الحق في بعض المرات، فإنَّ المعيار الحقيقي لديهم هو المصلحة الشخصية، وهذه صورة من صور عبودية الذات التي وصفها القرآن الكريم بعبادة الهوى، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].

والسعدي يعلل ذم القرآن لهؤلاء الانتهازيين، فيقول: «فليسوا ممدوحين في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين، لأنَّ العبد حقيقةً مَن يتبع الحق فيما يحب ويكره، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه، وينبذه عند مخالفته، ويقدم الهوى على الشرع، فليس بعبدٍ على الحقيقة»[10].

والسعدي لا يقصر هذا السلوك والأحكام المتعلقة به في مسألة الخصومات، بل هو يضمنها كل سلوك تجاه أوامر الله تعالى وطاعته فيقول في اقتران الإعراض بالتولي: «فإنَّ المتولي، قد يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولى عنه، وهذا المتولي مُعرِض، لا التفات له، ولا نظر لما تولى عنه، وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدَّعي الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان، وتجده لا يقوم بكثير من العبادات؛ خصوصاً العبادات التي تشقُّ على كثير من النفوس، كالزكوات، والنفقات الواجبة والمستحبة، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك»[11]. وهذه الإشارة تفيـدنا بأنَّ الإعـراض ليـس له شكل محدد أو صورة موحدة، فهو يصدر في سلوكيات متنوعة ومختلفة، وفي مواقف متنوعة، تفيد - في نهاية الأمر - وجود رفض وإعراض قلبيين، عياذاً بالله.

فتأمل هذه الأحوال الثلاثة التي تتكرر في داخل أوساط مؤمنة ومجتمعات مسلمة، لتدرك أنَّ التجرد من حظوظ النفس ووضع المصالح الدنيوية تحت الأمر الإلهي والإذعان والخضوع لأمر الله ورسوله مما تستلزمه حقيقة العبودية لله، سواء في ذلك الفرد والجماعة، والحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، في أي أمرٍ كان.

أين مكمن الخلل؟

في جملة اعتراضية يبيِّن الله فيها الحكـم على هذه الطائفة الانتهازية فيقول: ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ﴾ فنفى الإيمان عنهم، وهذا أمر عظيم، قال الشوكاني: «وهؤلاء هم المنافقون الذين يُظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فإنهم - كما حكى الله عنهم ها هنا - ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبةً بمجرد اللسان، لا عن اعتقاد صحيح، ولهذا قال: ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْـمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة»[12].

المشكلة الحقيقية هي مشكلة القلب، ولذلك عقَّب المولى سبحانه على سلوكهم تجاه طاعة الله ورسوله بالسؤال التوبيخي عما يعتلج في صدورهم من دوافع خبيثة ودسيسة فاسدة فقال سبحانه: ﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾. قال ابن كثير: «لا يخرج أمرهم عن أنْ يكون في القلوب مرض لازم لها، أو قد عرض لها شك في الدين، أو يخافون أنْ يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّاً ما كان فهو كفر محض، والله عليم بكلٍّ منهم، وما هو عليه منطوٍ من هذه الصفات»[13].

إذن تدور الأسباب الدافعة إلى هذا النوع من الجحود والكفران على ثلاثة أسباب:

أولها: مرض النفاق المودي بالقلب إلى هلاكه، عافانا الله وإياكم.

وثانيها: الشك والارتياب في دين الله تعالى وشريعة الإسلام.

وثالثها: الخوف من ظلم الشريعة الإسلامية وجورها!

وجميعها أعمال قلبية كما ترى، تصيب الإنسان فتهلكه، عياذاً بالله. وحتى لا يتسرب إليك الوهم بأنَّ السبب واحد فقط من هذه الثلاثة بسبب (أمْ) أضربت الآية عن جميعها بقوله تعالى: ﴿بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ﴾ وهو «إضراب انتقالي، إشارة إلى استجماعهم تلك الأوصاف الذميمة، التي كل واحد منها كفر ونفاق، والمعنى: دع هذا كله، فإنهم هم الكاملون في الظلم، الجامعون لتلك الأوصاف»[14]، وهذه الأوصاف هي التي أدت إلى سلوك التولي والإعراض والانتهازية الحقوقية.

إلا أنَّ ابن عاشور يلاحظ على سلوكهم أنه ناتج عن كفرٍ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم  على وجه التحديد، فيقول: «وأُسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أنْ يكون ما شرعه الإسلام حيفاً لا يظهر الحقوق. وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله؛ وأنْ يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم، وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله، ولا يؤمنون بأن محمداً عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله، فالكلام كناية عن إنكارهم أنْ تكون الشريعة إلهية؛ وأن يكون الآتي بها صادقاً فيما أتى به. واعلم أنَّ المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة، وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول؛ سواء في ذلك من حلَّت به قضية ومن لم تَحل»[15]. وهذا ملحظ مهم؛ فإنَّ جوهر النفاق هو تكذيب ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى: {إذَا جَاءَكَ الْـمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ 1 اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: ١ - ٢]، فتأمل هذا الأصل جيداً. فإنَّ حقيقية أمر المعرضين عن تسليم القلب لله تعالى والإذعان لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم  أنهم لم تلامس شغاف قلوبهم معاني الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولو قالوه بألسنتهم وسطروه بأقلامهم، فإنَّ للإيمان حقائق يجب أنْ تظهر على سلوك الإنسان وأعماله ومواقفه، وإلا فلا صحة لهذه الدعاوى المكذوبة.

وتلك الأطروحات التي تهوِّن من شأن العمل أو تقلل من قيمة السنة أو تستهين باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم  ثم توحي بالاكتفاء بما في القلب واللسان غير صادقة ولا صالحة، ألا ترى أن هذه الآيات نفت صحة القلب حين فسد العمل، ولم تعتد بقول اللسان لإثبات ما في القلب!

ديننا يعلمنا أنَّ للإيمان حقيقةً قلبيةً، وأن لهذه الحقيقة مظهراً سلوكياً في المواقف والأفعال، خلافاً للمرجئة الذين يتفقون مع أهل النفاق في هذا الباب.

وابن عاشور يطارد المنافقين حتى لا يدع لهم فرصة لالتقاط أنفاسهم فيستنبط من الآية التنبه لخوافي الأمور وعدم الاكتفاء بظواهرها، فيقول: «ولما كان هذا شأناً عجيباً استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفْت الأذهان إلى ما انطووا عليه؛ والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية، لأنهم كانوا يُظهرون خلافها»[16].

وحين تَحْدُث كل هذه التناقضات في أوساط مسلمة فإنَّ المؤمنين يحتاجون معها إلى توجيه إلهي يعصمهم من الوقوع في مرض النفاق ويحفظ عليهم إيمانهم، لذلك نجد الله تعالى يعقب على هذه الآيات بقوله: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْـمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، والسمع قول، أما الطاعة فهي فعل وحقيقة مسلكية لمن صح إيمانهم وأذعنت قلوبهم لله ورسوله. هذا هو سر فلاح المؤمنين؛ أفراداً كانوا أم جماعات. جعلنا الله وإياك من هؤلاء المفلحين.


 


[1] معالم التنزيل: 6/57.

[2] تفسير القرطبي: 12/296.

[3] مفاتيح الغيب: 24/411.

[4] التحرير والتنوير: 1/123.

[5] فتح القدير: 4/54.

[6] تفسير السعدي: 1/572.

[7] الرسالة، ص19.

[8] معاني القرآن: 4/50.

[9] تفسير ابن كثير: 6/74.

[10] تفسير السعدي: 1/571.

[11] تفسير السعدي: 1/571.

[12] فتح القدير، بتصرف: 4/52.

[13] تفسير ابن كثير: 6/74.

[14] محاسن التأويل، بتصرف: 7/401.

[15] التحرير والتنوير: 18/272.

[16] التحرير والتنوير: 18/270.

 

 

أعلى