تستند إثيوبيا في تقسيمها الفيدرالي للبُعد العرقي؛ فهي تتكون من تسعة أقاليم فيدرالية، يُقيم كلَّ إقليم ويُديره عرقيَّةٌ بعينها، ويُديرها حزب ممثل لتلك القومية، ولديها قوات عسكرية وشبه عسكرية تعبِّر عنها
إن انفجار الأوضاع في الداخل الإثيوبي أثار عدة تساؤلات بين المعنيين حول مستقبل
الأمن الإقليمي في حوض نهر النيل؛ خاصة فيما يتصل بملفٍّ هو الأهم في العقد الأخير
لدول الإقليم؛ وهو ملف سد النهضة. ومن ثَمَّ ستُعنى هذه المقالة بتحليل تداعيات
الاضطراب الداخلي في إثيوبيا على ملف مستقبل سد النهضة على مائدة التفاوض الإقليمي.
لمحةٌ حول الدولة الإثيوبية من الداخل قُبيل الأزمة...
مسببات الانفجار الذاتي:
إثيوبيا دولة فيدرالية برلمانية حبيسة (أي غير مشاطئة). تبلغ مساحتها ١.١٠٤.٣٠٠ كم2؛
أي أكبر قليلاً من مساحة جمهورية مصر العربية، وحدودها الممتدة ٥.٩٢٥ كم مع ست
دول،: هي: جيبوتي ٣٤٢ كم، إريتريا ١٠٣٣ كم، كينيا ٨٦٧ كم، الصومال ١٦٤٠ كم، جنوب
السودان ١٢٩٩ كم، السودان ٧٤٤ كم، ويبلغ عدد سكانها ١٠٨.١١٣.١٥٠ نسمة وَفْقاً
لتقديرات يوليو عام ٢٠٢٠م، أي تقريباً تماثل مصر في عدد سكانها.
وتستند إثيوبيا في تقسيمها الفيدرالي للبُعد العرقي؛ فهي تتكون من تسعة أقاليم
فيدرالية، يُقيم كلَّ إقليم ويُديره عرقيَّةٌ بعينها، ويُديرها حزب ممثل لتلك
القومية، ولديها قوات عسكرية وشبه عسكرية تعبِّر عنها، باستثناء أديس أبابا
باعتبارها عاصمة الحكومة الفيدرالية، وهذه الأقاليم هي (أديس أبابا/ الزهرة الجديدة
بالأمهرية - عفر - أمهرة - بني شنقول/ قماز - ديرة داوا - جامبلا - هرر - أوروميا -
صومالي/ أوجادين - الأمم الجنوبية - تيجراي). وأكبر تلك الأقاليم هو إقليم أوجادين/
صومالي ٣٢٧.٠٦٨ كم٢، وثاني تلك الأقاليم إقليم أوروميا ٢٨٦.٦١٢ كم٢،
وثالثها إقليم أمهرة ١٥٤.٧٠٩ كم٢، في حين تبلغ مساحة إقليم تيجراي
٥٠.٠٧٩ كم٢، ويسكنه ٥ ملايين نسمة تقريباً.
أما عرقياً فيبلغ الأورومو ٣٤.٩٪، ثم الأمهرة ٢٧.٩٪، وثالثاً التيجراي ٧.٨٪،
وسيداما ٤.١٪، وعرقية الولياتا ٣٪، وعرقية الجوراج ٢.٨٪، وعرقية الصوماليين ٢.٧،
عرقية عفار ٦٪، وعرقية هاديا ٢.٢٪، وعرقيات أخرى ١٢.٦٪، يتكون الائتلاف الحاكم
لإثيوبيا منذ عام ١٩٩١م، والممثَّل بالجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية التي تأسست
عام ١٩٨٨م من أربعة أحزاب (حزب جبهة تحرير شعوب التيجراي والأغلبية السياسية وقادة
الائتلاف الحاكم منذ عام ١٩٩١م وحتى قبل آبي أحمد، وحزب المنظمة الديمقراطية لشعوب
الأورومو، وحزب حركة الأمهرة الديمقراطية الوطنية، وحزب الجبهة الديمقراطية لشعوب
جنوب إثيوبيا).
لمحة حول المشهد الداخلي المضطرب...
محاولة للفهم:
في عام ٢٠١٢م توفي ميليس زيناوي رئيس الوزراء الأول للائتلاف الحاكم منذ وصوله
للحكم في عام ١٩٩١م، والذي كان ينتمي للتيجراي التي تعد أقلية عرقية، ولكنها أغلبية
سياسية تقود الائتلاف الحاكم الممثَّل بالجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية. وكان
يتمتع بنفوذ واسع في مواجهة الجميع باعتباره بطلاً قومياً إذ يتمتع بشريعة الكفاح
المسلح ضد الحكم الشيوعي، تم تصعيد (هايلي مريام ديسالين) الذي كان نائباً لزيناوي
رئيساً للوزراء، إلا أنه لم يكن لديه الكاريزما الكافية لقيادة التحالف العرقي
المذكور؛ فعلى الرغم من النمو الاقتصادي المتسارع في إثيوبيا، إلا أن الضغوط
الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن هذا النمو كانت واقعة بالأساس على الأغلبيات
العرقية كالأورومو والأمهرة، وهي عرقيات مهمَّشة سياسياً على نطاق واسع؛ إذ يسيطر
التيجراي على مختلف مفاصل الدولة في إثيوبيا على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود،
فتنامت الاحتجاجات والاضطرابات الداخلية خاصة من الأورومو والأمهرة في واجهة
الحكومة الفيدرالية برئاسة (مريام ديسالين)، وهو ما دفعه للاستقالة في فبراير
٢٠١٨م.
وبناءً عليه اتجهت الجبهة الديمقراطية باعتبارها الائتلاف الحاكم لاختيار رئيسٍ
لها، وهو الذي سيكون بالتبعية رئيساً للوزراء، وذلك عبر المؤتمر العام للائتلاف
الحاكم الذي يتكون من ١٨٠ عضواً (٤٥ عضواً لكل حزب من الأحزاب الأربعة) حيث حصل آبي
أحمد على ١٠٨ أصوات من إجمالي الأصوات.
ومع البداية التوافقية التي بدأها آبي أحمد بتقديم نفسه رئيساً لجميع الإثيوبيين؛
وخاصة أنه أول رئيس للائتلاف الحاكم وللحكومة الفيدرالية ينتمي لقومية الأورومو
المهمشة سياسياً، ولِـمَا أبداه من سياسة خارجية توافقية خاصة مع الجارة إريتريا في
صراعها التاريخي مع إثيوبيا، تم منحه جائزة نوبل للسلام لعام ٢٠١٩م، وذلك بعد عام
ونصف من وجوده على رأس الحكومة الفيدرالية في إثيوبيا.
ولكن سرعان ما اتسعت الهوة السياسية بين حزب جبهة تحرير شعوب التيجراي (باعتبارها
الفاعل السياسي الأهم في الائتلاف الحاكم قبل آبي أحمد) وبين آبي أحمد، وهو ما دفعه
في ٢٦ نوفمبر ٢٠١٩م لتأسيس ائتلاف حاكم جديد تحت اسم حزب (الرخاء) يتكون من الأحزاب
الثلاثة المشكِّلة للائتـلاف السابق، باستثناء جبهة تحرير تيجراي التي رفضت
الانضمام له؛ وذلك على أمل خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بهذا التحالف الجديد.
واتجه حزب جبهة التيجراي الذي يحكم إقليم تيجراي من ناحية، ويسيطر على كثير من
مفاصل الحكومة الفيدرالية من ناحية أخرى خاصة الجيش، للاعتراض على سياسات آبي أحمد
وأهمها سياسة الإحلال والتفكيك لنفوذ التيجراي في مفاصل الدولة الفيدرالية؛ إذ
انتهج سياسة اعتقال التيجرانيين في العاصمة أديس أبابا بتُهَم التآمر وغيرها،
وإقالة موظفيهم في مؤسسات الخدمة المدنية والأجهزة الفيدرالية.
وثاني أهم أسباب الاعتراض أيضاً هو اعتراضه على اتفاق السلام مع الجارة إريتريا،
التي تشترك في حدودها مع إثيوبيا عبر أراضي إقليم تيجراي في الأساس وإقليم عفار.
ومع احتدام الصدام السياسي بين حزب جبهة تيجراي وحكومة آبي أحمد الفيدرالية، انتقل
الصراع من سياسي إلى عسكري عندما اندلع القتال بينهما في ٤ نوفمبر 2020م، وذلك على
خلفية توجيه آبي أحمد للقوات الفيدرالية بالرد على غارة مزعومة على معسكر للجيش
الفيدرالي في إقليم تيجراي، وهو ما دفع الأخيرة للسيطرة على مركز القيادة الشمالية
للجيش الفيدرالي، والاستيلاء على معدَّاته وقواته فيها، وتستمر الأزمة بتصعيد آبي
أحمد عسكريّاً بإعلانه ما أسماه
«نهاية
عملية إنفاذ القانون»
في ١٧ نوفمبر ٢٠٢٠م؛ وذلك بتوجه القوات الفيدرالية للسيطرة على مدينة ميكيلي عاصمة
إقليم تيجراي، وإعلانها مهلة ثلاثة أيام للعفو عن القوات المقاتلة حال تسليم أنفسهم
وأسلحتهم، وهي المهلة التي انتهت دون جدوى، فاستمر التصعيد عسكرياً بغارات جوية
وبرية فيدرالية على الإقليم، وتصاعد أزمات إنسانية ممثلة بالنازحين داخلياً، ولجوء
نحو ٣٠ ألفاً من الإقليم للسودان في ولايتي كسلا والقضارف السودانيتين المجاورتين
لإقليم تيجراي، وتفاقم الوضع الأمني إقليمياً بدخول أطراف إقليميين على خط الأزمة
بإغلاق الحدود من قبل السودان، أو دعم أحد طرفي الصراع من قبل إريتريا، وهو ما يشير
لضيق ومحدودية البدائل المطروحة في المستقبل المنظور أمام الجميع بين سيناريوهات
الهشاشة والفشل والانفصال أو تعزيز السلطوية...
ولكن ماذا عن سد النهضة من تداعيات هذا الصراع؟
موقع السد من الاضطراب الداخلي... جغرافياً:
جغرافياً يقع السد في أحد الأقاليم الفيدرالية التسعة لإثيوبيا وهو إقليم بني
شنقول/ قماز على مجرى نهر النيل الأزرق غربي إثيوبيا، على بعد حوالي ٣٠ كم من
الحدود السودانية، ويبعد السد عن العاصمة أديس أبابا ٤٧٢ كم، من ناحية، ويبعد عن
مدينة ميكيلي عاصمة إقليم تيجراي بؤرة الصراع الحالي بين الحكومة الفيدرالية
والتيجرانيين حوالي ٥٣٨ كم.
ومن ثَمَّ فإن السد يبعد جغرافياً مسافة كافية عن مساحات الصراع والأعمال المسلحة
المتبادلة بين طرفي الصراع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يقع في إقليم فيدرالي غير
متورط بصورة معتبرة في الصراع الدائر؛ بيد أنه يقع في النصف الأسفل لخط الحدود
السودانية الإثيوبية الممتدة ٧٤٤ كم.
ما انتهى إليه ملف التفاوض حول السد قُبيل الأزمة الداخلية الأخيرة (سياسياً
واقتصادياً وعسكرياً):
سياسياً: تبلور في الأفق التفاوضي بين مصر والسودان وإثيوبيا انسداد مع استمرار
تعثر المفاوضات، وذلك مع محاولة آبي أحمد توظيف ملف السد لتأسيس شرعية إنجاز داخلية
يلتف حولها الإثيوبيون، فأعلنت مصر في ٢٢ يونيو ٢٠٢٠م طلبها من مجلس الأمن الدولي
عقد جلسة طارئة في أقرب وقت ممكن، وفي ١٥ يوليو ٢٠٢٠م جاء إعلان وزير المياه
الإثيوبي عبر التلفزيون الرسمي بَدء ملء السد، كما أعلن مجلس الأمن في ١ يوليو
٢٠٢٠م أنه
«سيراقب
تطورات أزمة سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا خلال شهر يوليو تحت رئاسة ألمانيا»،
وأيضاً صرح الرئيس الأمريكي ترامب بشأن تفهمه الموقف المصري من أزمة السد، وأعلن
قادة مصر والسودان في ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٠م تمسكهم بالتوصل لاتفاق ملزم بشأن ملء سد
النهضة وتشغيله في لقاء عُقد بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والفريق عبد
الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني بقصر الاتحادية في القاهرة.
وفي يوم ٤ نوفمبر ٢٠٢٠م - وهو اليوم نفسه لاندلاع الصراع العسكري بين حكومة تيجراي
والحكومة الفيدرالية - أعلنت وزارة الري المصرية في بيان لها إخفاق وزراء مياه
الدول الأطراف في مفاوضات سد النهضة في الاتفاق حول منهجية استكمال المفاوضات في
المرحلة المقبلة، واتفاق الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) على رفع تقارير
فردية لكل منها إلى دولة جنوب إفريقيا بصفتها الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي يشمل
مجريات الاجتماعات ورؤيتها حول سبل تنفيذ مخرجات اجتماعات هيئة مكتب الاتحاد
الإفريقي على مستوى القمة بشأن هذا الملف، ليُعلن السودان في ٢١ نوفمبر ٢٠٢٠م عن
عدم المشاركة في جلسة التفاوض الوزارية المزمع عقدها في اليوم نفسه بشأن السد، بعد
تصريح وزير الري السوداني قُبيل الاجتماع بأن
«مفاوضات
سد النهضة لن تستمر إلى ما لا نهاية، وطَلَبُ مدِّ المفاوضات ١٠ أيام ليس له جدوى»
حسب وصفه.
اقتصادياً تبلغ التكلفة النهائية لمشروع السد والمشروعات الفرعية المرتبطة به حوالي
٨ مليارات دولار، منها ٤.٨ تكلفة بناء السد، وتتولَّى بنائه شركة (ساليني)
الإيطالية للإنشاءات، التي تُعَد ثالث أكبر مقاول عام في إيطاليا، ويعد هذا المشروع
أكبر مشروع تتولاه الشركة في الوقت الراهن، وقـد أعلنت إثيوبيا عن التمويل الذاتي
للسد في أعقاب امتناع بعض المؤسسات الدولية عن تمويل مشروعات السدود بصفة عامة لعدم
جدواها الاقتصادية، واتهام إثيوبيا مصر بالضغط على الدول المانحة للامتناع عن
تمويله، مع العلم أن إثيوبيا تواجه عجزاً مالياً في تمويل مشروعات إنشائية خاصة
بسدود أخرى أصغر حجماً بدأت في إنشائها قبل الشروع في إنشاء سد النهضة، وهو ما يثير
تساؤلات حول حقيقة إمكانية التمويل الذاتي لمشروع السد، واحتمال وجود تمويل دولي
غير معلن له من بعض الأطراف الدولية.
ومع اندلاع الصدام المسلح بين تيجراي والحكومة الفيدرالية وما يترتب عليه من تكلفة
اقتصادية مباشرة للعمليات المسلحة، وتكلفة غير مباشرة مرتبطة بالأزمات الاقتصادية
والإنسانية المترتبة على الصراع تتكاثف تلك التساؤلات حول إمكانية المضي قدماً في
تمويل مشروعات السد، أو بالأحرى المشروعات المرتبطة به.
عسكرياً: أعلن (ملف دبكا) - وهو موقع إلكتروني إسرائيلي متخصص في الشؤون العسكرية
والاستخباراتية، يصدر باللغتين الإنجليزية والعبرية في ٧ يوليو ٢٠١٩م - عن بدء
إسرائيل بناء منظومة دفاع جوي حول سد النهضة منذ مايو ٢٠١٩م، عقب قرار إثيوبيا شراء
منظومة الدفاع الجوي الصاروخي الإسرائيلية (سبايدر) المضادة للطائرات، وفي ٢٧ يوليو
٢٠٢٠م تداولت وسائل إعلام أجنبية وروسية أخبار تدمير بطاريتَي صواريخ روسيتين من
طراز (بانستير - إس) بعد أن ضربهما البرق في محيط منطقة السد، دون توافر معلومات
رسمية حول الخسائر أو الضحايا.
وفي ٥ أكتوبر ٢٠٢٠م (أي قبيل اندلاع الصراع المسلح الداخلي بشهر تقريباً) أعلنت
هيئة الطيران المدني الإثيوبي حظر الطيران فوق سد النهضة لاعتبارات أمنية، وذلك على
خلفية إعلان قائد القوات الجوية الإثيوبية (يلما ميرداسا) أن إثيوبيا مستعدة تماماً
للدفاع عن السد ضد أي هجوم.
ويجب الأخذ في الاعتبار عند تقويم الوضع العسكري للسد عدَمَ الاستقرار الأمني في
منطقة السد؛ وذلك على خلفية قيام الحركة الشعبية لتحرير بني شنقول - وهي حركة
معارضة تسعى لانفصال إقليم بني شنقول/ قماز يتزعمها السفير الإثيوبي السابق يوسف
حامد ناصر، في ٩ مايو ٢٠١٤م - بتنفيذ هجوم مسلح على حافلة عسكرية أسفر عن مقتل تسعة
جنود إثيوبيين على خلفية ما وصفته بالاحتلال الإثيوبي للإقليم ومعارضتها لبناء
السد، على الرغم من إعلان الحركة المذكورة في ٩ يونيو ٢٠١٣م إنهاء صراعها المسلح ضد
الحكومة الإثيوبية.
وبناءً عليه تُعَدُّ منطقة السد مكشوفة عسكرياً لاعتبارات عدة، منها انخراط القوات
الفيدرالية في القتال أقصى الشمال الشرقي للبلاد في إقليم تيجراي، ووجود تهديد
عسكري وأمني محتمل من المعارضة العرقية المحلية المسلحة في إقليم السد الواقع أقصى
الغرب، وهي الحركة التي تنادي ابتداءً بالانفصال، والتي قد تتعزز فرصها مع استعار
القتال شرقاً، وما قد يرتبط به من مكاسب سياسية محتملة للتيجراي حال قدرتهم على
الاستمرار في مواجهة الحكومة الفيدرالية، وهي الاستمرارية التي عبَّرت عنها قيادة
الجبهة بأنهم استطاعوا مواجهة الحكومة الشيوعية لسنوات حتى عام ١٩٩١م، ومن ثَمَّ
فهم قادرون على الاستمرار في مواجهة حكومة آبي أحمد لسنوات قادمة، وهو ما قد يُشجع
جبهة تحرير بني شنقول للسير على خطاها مع مراعاة فارق التجهيز العسكري والقدرات
القتالية لتلك الجبهة مقارنة مع جبهة تيجراي لصالح الأخيرة، وأخيراً، فإن الوجود
العسكري الإسرائيلي سيكون هو المحدد الحاسم في حماية السد في خضم الاقتتال الداخلي
المشهود.
مستقبل الأزمة الداخلية الأخيرة وانعكاسه على ملف السد:
استناداً للتحليل السابق يمكن القول بأريحية بضعف موقف المفاوض الإثيوبي في
المستقبل المنظور على الرغم مما يبديه من تعنت مستمر، وذلك بصرف النظر عن
سيناريوهات إنهاء الصراع في الداخل الإثيوبي، ويأتي ضعف الموقف التفاوضي الإثيوبي
المتوقع لصالح تحسن نسبي محتمل يتشكل في الأفق للمفاوضَين المصري والسوداني، وهو
التحسن الذي يتبلور حالياً في مواقف المفاوض المصري والسوداني، وعززه التنسيق
الأخير بينهما، وتقارب وجهات النظر والمواقف السياسية بين حكومتي القاهرة والخرطوم.
فحتى مع احتمال تذرع المفاوض الإثيوبي بأزمته الداخلية لتأجيل المفاوضات لشهور
مثلما حدث قبيل انتخاب آبي أحمد، فإن ذلك سيرتبط في ظل تنامي الضغوط العسكرية
والأمنية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية الناجمة عن استمرار الصدام الداخلي
المسلح، بتباطؤ خطى إتمام مشروع السد.
بَيْدَ أن الموقف الدولي الراهن واحتمالات تحوله من آبي أحمد في المستقبل المنظور
يعتبر العامل الحاسم؛ إذ يحدد كثيراً من مسار مفاوضات ملف السد مستقبلاً، وهو
الموقف الدولي الذي تحوَّل من إغفاله الصراع الداخلي في بدايته إلى مناشدات دولية
للتفاوض وخفض حدة التصعيد، وما صاحَب ذلك من جهود أممية للتخفيف من حدة الأزمة
الإنسانية الناجمة عن هذا الصدام.
في النهاية، يمكن القول باطمئنان إن المفاوض المصري والسوداني أمام فرصة لم تكن
لتلوح في المستقبل المنظور وَفْقاً لأكثر التقديرات تفاؤلاً بشأن إعادة بناء موقف
تفاوضي متماسك يضغط على الحكومة الإثيوبية نحو مزيد من المرونة في الوصول لاتفاق
نهائي كامل لإدارة سد النهضة وتشغيله، فالدولة المصرية لا تستهدف تصعيداً أو
توظيفاً سياسياً ينال من مصالح الشعب الإثيوبي في ظل لحظة الهشاشة الراهنة التي
تشهدها الدولة الإثيوبية؛ وإنما يهدف للحفاظ على أمن إقليم حوض النيل عبر إدارة
جماعية مشتركة ومتوازنة لموارده المائية.