بعد انقسام
مملكة بني إسرائيل إلى مملكةٍ شمالية (إسرائيل) وأخرى جنوبية (يهوذا) عام (930 ق.
م) تقريباً، شرع الكهنة اللاويُّون[1] المتنافسون في الشمال والجنوب في
تدوين ما تحصل لهم من تاريخ بدء الخليقة والأنبياء. فكتب الكهنة الموسَويُّون[2] في «شيلوه» بمملكة الشمال ما يُعرَف بالنص أو المصدر
«الإلوهيمي» Elohistic الذي يستعمل كلمة «إلُوهِيم»
العبرانية للإشارة إلى الرب، ويرمز لهذا النص بالحرف الأول (E). أما الكهنة الهارونيون في مملكة الجنوب «يهوذا» فكتبوا النص
«اليهْويِّ» Jahwistic الذي يشير إلى الرب باسم
«يهْوَه»، ويرمز له بـ (J).
ولما سقطت
مملكة الشمال عام (722 ق. م) على أيدي الآشوريين أخذ اللاجئون من إسرائيل نسختهم
الإلوهيمية (E) إلى الجنوب؛ فكان لا بد من
الجنوح إلى التقريب بين فكر الشماليين والجنوبيين لأن تعايش الطرفين أضحى حتماً.
فقام أحد الكتبة المجاهيل بضم الروايتين في رواية واحدة (JE) وتجنَّب الحذف منهما قدر الإمكان. وقد تمت هذه العملية بدقة
متناهية، لكن آثار هذا الدمج لم يمكن إخفاؤها تماماً[3]. بَيْد أن هذا النص المشترَك أبقى على نصوصٍ تقدح في عدالة نبي
الله هارون، عليه السلام.
فلما تولى
«حزقيا» المُلْك (715 - 687 ق. م) وشرع في إصلاحاته الدينية قام الكهنة الهارونيون
بتلفيق وثيقة أخرى لتكون بديلاً عن النص المشترك (JE) وتُواكِبَ الإصلاحات القائمة. كما حذفوا من النص المشترك (JE) تلك القصص التي تحط من قدر هارون - عليه السلام - كقصة عبادة
العجل التي تنسب صُنعَه إليه! كما أدخلوا فيه شريعة الكهنة الهارونيين التي تشكل
جُلَّ «سفر اللاويين». وهنا نرى أن أهواء كهنة وأحبار بني إسرائيل هي التي حكَمت
شريعتهم وليس العكس. تعرف هذه الوثيقة البديلة باسم «المصدر الكهنوتي» Priestly Source، ويرمز لها بالحرف الأول (P).
بعد وفاة
الملك «حزقيا» وارتكاس بني إسرائيل في الوثنية ظهر مصلحٌ جديد هو «يوشِيَّا» الذي
اعتلى العرش من (640 - 609 ق. م) ملكاً على بني إسرائيل. رأى كهنة «شيلوه»
الموسويون في هذا العهد فرصة سانحة لكتابة شريعة جديدة تخدم كهنوتهم، واتفق الكهنة
والملك على وضع ما كتبوا داخل الهيكل وإعلان العثور عليه مصادفة وكأنه من آثار
الأنبياء. كُتب هذا السفر ليلائم مذهب كهنة «شيلوه» ويشرِّع للإصلاح الجديد ويصوِّر
الملك «يوشِيَّا» كموسى آخر ينقذ مملكة «يهوذا». يُرمَز لهذا السفر بـ (Dtr1)؛ أي «التثنية 1».
لكن الأمور
لم تجرِ كما خُطِّط لها؛ فلم يطل بالمَلِك العمرُ ليكون منقذاً لبني إسرائيل كما
كان موسى - عليه السلام - بل مات على إثر مواجهةٍ مع الجيش المصري عام (609 ق. م)
فانتقضت كل إصلاحاته من بعده، ثم دُمِّرت «مملكة يهوذا» على يد البابليين عام (586
ق. م)، وأُحرق الهيكل، وأُبيدت العائلة الملكية، ونُفي اليهود إلى بابل، وتبددت
الأحلام. فقام كاتب سفر «التثنية 1» بإضافة بعض التعديلات والتبريرات ليعكس الواقع
التاريخي ويتلافى ما كان قد وقع فيه من تصويره «يوشِيَّا» مخلِّصاً لمملكة
«يهوذا»؛ فعلل سقوط «مملكة يهوذا» ببعدها عن إصلاحات الملك الراحل. تُعرف هذه
التعديلات النصية باسم «التثنية 2» أو (Dtr2). أما مجموع النص الأصلي (Dtr1) وتعديلاته (Dtr2) فتؤلف ما يُعرَف بسفر «التثنية» أو «تثنية الاشتراع» (D) وهو السفر الخامس والأخير من الأسفار الخمسة التي تنسب كذباً
وادِّعاء إلى موسى - عليه السلام - كما أشرتُ في الجزء الأول من هذا المقال.
لكن حال
اليهود تغير بعد غزو الملك «قورش» الفارسي لبابل عام (539 ق. م) وإعادة الملأ من
يهود يَقدُمهم «عزرا» المعروف بالـ «كاتب» إلى بيت المقدس. فقد وجد «عزرا» نفسه
أمام روايةٍ مشتركة (JE) تناقض الروايةَ الكهنوتية (P) في تاريخها وعقيدتها، وشريعةٍ (D) تنافس شريعة الكهنة (P). ولم تكن تلك المرحلة قابلة لمزيد تشرذم في صفوف الشعب الذي
أذلَّه نير العبودية وقهر الجلاء. فكانت الفرصة سانحة للكاهن «عزرا» لأن يلفِّق
ويوفِّق بين قصص وشرائع مختلفة بين دفتين. ففعل ذلك مع شيء من التعديل والتهذيب ثم
قرأه على أتباعه من اليهود[4]. فعزرا (اليهودي/ الفارسي) هو
الذي أعد «العهد القديم» في صورته الملفقة النهائية التي بين أيدينا. وقد ذهب إلى
هذا المؤلفُ الشهيرُ «ريتشارد فريدمان» في كتابه «مَن كتب التوراة؟» ونَقل مثلَه
عن الكاتب النصراني «أندرياس فون مايس» الذي عاش قبل أكثر من أربعمائة عام[5].
لكنَّ ما
توهم «فريدمان» أنه وليد أبحاثه وأبحاث من سبقه من النصارى قد أشار إليه أبو محمـد
بن حزم رحمه الله (ت. 456 هـ) في «الفِصَـل»؛ إذ قال: «وكان كتـابة «عِزرا»
للتوراة بعد أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس. وكُتبُهم تدل على أن «عزرا» لم
يكتبها لهم ولم يصلحها إلا بعد نحو أربعين عاماً من رجوعهم إلى البيت، بعد السبعين
عاماً التي كانوا فيها خالين، ولم يكن فيهم حينئذٍ نبيٌّ أصلاً و لا القُبَّة و لا
التابوت... ومن ذلك الوقت انتشرت التوراة ونُسخت»[6].
وأصرح منه
قولُ السموءل يحيى بن عباس المغربي (ت 570 هـ) – وهو ممن أسلم من أحبار اليهود –:
«فلما رأى «عزرا» أن القوم قد أُحرِق هيكلهم وزالت دولتهم وتفرَّق جمعهم ورُفِع
كتابهم جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفَّق منه هذه التوراة
التي في أيديهم؛ ولذلك بالغوا في تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة وزعموا أن النور
إلى الآن يظهر على قبره الذي عند البطائح بالعراق لأنه عمل لهم كتاباً يحفظ دينهم؛
فهذه التوراة التي في أيديهم على الحقيقة كتاب عزرا وليس كتاب الله»[7].
هذه قصة
تلفيق اليهود للتوراة أوردتُها موجزة. وقد جاءت هذه القصة مزخرفة عند بعض من ينقل
عن أهل الكتاب، مبالِغة في تعظيم الفارسي «عزرا» الذي أسمته «عزيراً». قال ابن
كثير - رحمه الله - في تفسيره: «وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك
[أي حصلت لليهود في اتخاذهم عزيراً ابناً لله] أن العمالقة لما غلبت على بني
إسرائيل فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب
العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه. فبينما هو ذات يوم إذ مرَّ على جبانة، وإذا امرأة
تبكي عند قبر وهي تقول: وا مُطعِماه! وا كاسياه! فقال لها: ويحك من كان يطعمك قبل
هذا؟ قالت: الله. قال: فإن الله حي لا يموت. قالت: يا عزير! فمن كان يُعلِّم
العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وُعِظ
به. ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصلِّ هناك ركعتين فإنك ستلقى هناك
شيخاً فما أطعمك فَكُلْه. فذهب ففعل ما أُمِر به فإذا الشيخ، فقال له: افتح فمك
ففتح فمه فألقى فيه شيئاً كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات، فرجع عزير وهو من أعلم
الناس بالتوراة. فقال: يا بني إسرائيل! قد جئتكم بالتوراة. فقالوا: يا عزير ما كنت
كذاباً. فعمد فربط على أصبع من أصابعه قلماً وكتب التوراة بأصبعه كُلَّها، فلما
تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا
أودعوها في الجبال وقابلوها بها فوجدوا ما جاء به صحيحاً فقال بعض جهلتهم: إنما
صنع هذا لأنه ابن الله»[8].
وهي رواية
مزوقة – كما ترى – لتلفيق «عزرا» للتوراة، وقد تكون من وضع بعض اليهود الذين
أرادوا بمثلها أن يوهموا أهل الإسلام بصدق كتبهم، ولكن هيهات بعد أن فضحهم الله -
عز وجل - بقوله:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 75 وَإذَا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإذَا خَلا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ
قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ
عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ 76 أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ 77 وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إلاَّ أَمَانِيَّ وَإنْ هُمْ إلاَّ يَظُنُّونَ 78 فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ
وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75 - 79].
[1] نسبة إلى سبط
«لاوي» أحد أبناء يعقوب - عليه السلام - حسب العهد القديم. ومن نسله موسى وهارون،
عليهما السلام.
[2] هكذا يسميهم بعض علماء العهد القديم، نسبة إلى موسى، عليه السلام.
[3] كما سأبيِّنه في
مقال لاحق إن شاء الله تعالى.
[4] نحميا 8: 2، 3.
[5] Richard E. Friedman. Who Wrote the
Bible?,
p.
242-244.
[6] أبو محمد بن حزم،
الفصل في الملل والأهواء والنحل (القاهرة: مكتبة الخانجي): 1/ 148 [حسب ترقيم
الشاملة 2.11].
[7] السموءل المغربي، بَذْلُ المجهود في إفحام اليهود (دمشق: دار
القلم/ بيروت: الدار الشامية، 1410 هـ)، ص134.
[8] أبو الفداء إسماعيل
بن كثير، تفسير القرآن العظيم (دار الفكر، 1414 هـ): 2/ 424.