أُسُّ الفساد
من الأخبار الجديرة بالتأمـل قـول جـابر بن عبــد الله - رضي الله عنهما -: لَـمَّا رَجَعَت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟». قال فتية منهم: يا رسول الله! بينما نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم، تحمل على رأسها قُلَّة من ماء، فمرت بفتىً منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها على ركبتيها، فانكسرت قُلَّتُها، فلما ارتفعت التفتت إليه ثم قالت: ستعلم يا غُدَر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلَّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صدقت، ثم صدقت، كيـف يُقدِّس اللــه قومـاً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟»[1].
الظلم من أسوأ الأدواء الإنسانية التي قد تنتشر في أي مجتمع من المجتمعات، وهو أُسُّ الفساد ورأسُه، وسبب تصدُّع كيان المجتمع وتمزُّق أوصاله. وهو بيئة خصبة لنمو كل ألوان الفجور وانتهاك كرامة الإنسان.
إنَّ الحياة المادية المعاصرة جعلت الإنسان يعيش في غابة موحشة، القوي فيها هو الذي يصنع القيم، وهو الذي يشرِّع النظم والقوانين التي تحقِّق مصالحه وأهواءه، وهو الذي يعتدي بعصاه الغليظة؛ لينتهب لقمة الضعيف، ويسرق ابتسامة الفقير.قال الله - تعالى -: {وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: ٥٠٢].
وإن الدعاة وهم يحملون راية الإصلاح في مجتمعاتهم ينبغي أن يكون من أُولَى أولوياتهم الانتصار للمستضعفين، ورَفْع الظلم عنهم. وإذا كان من واجبهم أن ينشروا التوحيد، ويدعوا إلى أصول الإسلام وأركانه، ويطالبوا بتطبيق الشريعة في شأن الأمة كلِّه؛ فإن الدعوة إلى إقامة العدل بين الناس وردِّ الحقوق إلى أصحابها من أعظم مقتضيات ذلك. ولهذا كانت شعائر الإسلام حتى في عهدها المكي ومنذ بداية البعثة النبوية تنهى عن الظلم وتذم أهله، وتنتصر للمستضعـفين، وتأمر بزجر الظالم وردعه، قال - جل وعلا -: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِـمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ *} [إبراهيم: ٢٤ - ٣٤] وذكر القرآن العظيم صوراً من ممارسات الظلم التي كانت منتشرة في العصر الجاهلي، وحذرهم منها. قال الله - تعالى -: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: ١ - 5]، وقال الله - تعالى -: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْـمِسْكِينِ} [الماعون: ١ - ٣].
وذمَّ - سبحانه وتعالى - المشركين بقوله: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْـمِسْكِينِ} [الفجر: ٧١ - ٨١]. ولهذا كانت العقوبة شديدة، كما قال - تعالى -: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْـجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْـمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إلاَّ الْـخَاطِئُونَ} [الحاقة: ٠٣ - ٧٣]، بل إن قريشاً لَـمَّا تحالفت في جاهليتها على ردع الظالم والسعي لنصرة المظلوم، قبل البعثة بعشرين عاماً، تحالف معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال لَـمَّا أوحي إليه: «شهدت حلف المطَّيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حُمْرَ النعم، وإني أنكثه»[2]، وقال أيضاً: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت»[3].
إن دين الإسلام دعوة جادة لمواجهة الظلم بكل صوره وأشكاله، ابتداءً من أيسر صوره (وليس في الظلم شيء يسير): كظلم الخادم أو العامل، ومروراً بكل أنواع الطغيان التي تنخر في كيان المجتمع.
والأمة التي لا تؤسس أركانها على إقامة العدل، لا خير فيها؛ فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع»[4].
إن السكوت عن تطاوُل المفسدين على حقوق العباد، والتهاون في الإنكار على المنتهكين لحرمات المجتمع، خيانة للأمة، وخذلان للمسلمين، وقد صـــحَّ عــــن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه»[5].
وعَجْز الصالحين وتفريطهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأسباب الرئيسة لانتشار البغي، واتساع أبوابه. قال - تعالى -: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: ٣٦]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه)[6].
والدعوة إلى مواجهة التظالم الاجتماعي ليست شعاراً سياسياً مجرَّداً، أو مزايدة حزبية أو انتخابية، بل هي ديانة وقربة يتقرب بها الدعاة لنيل مرضاة الله وفضله، وكلما كان الدعاة أقرب إلى المجمتمع وتبنِّي قضاياه وهمومه، والذب عن مصالحه وحقوقه؛ كانوا أقدر على تحقيق الإصلاح، ونشر معالم العدل، ومن العلم الذي ينبغي أن يشدَّ الدعاة رحالهم لطلبه ودراسته، قول الفضيل بن عياض: (إني لأستحي من الله أن أشبع حتى أرى العدل قد بُسِط، وأرى الحق قد قام)[7].
[1] أخرجه: ابن ماجه، رقم: (4010) وابن حبان، رقم: (5058) وحسَّن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة: (4/183) وقواه الأرنؤوط بشواهده في تحقيقه لابن حبان.
[2] أخرجه: أحمد (3/193 و 210)، رقم: (165 و 1676) والبخاري في الأدب المفرد: (567) وأبو يعلى، رقم: (844 و 845 و 846). وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، والأرنؤوط في تحقيقه للمسند.
[3] عزَاه ابن كثير في البداية والنهاية: (3/456) إلى الحميدي، وإسناد الحميدي إسناد صحيح.
[4] أخرجه: ابن ماجه، رقم: (2426) وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم: (2417).
[5] أخرجه: البخاري، رقم: (2442) .
[6] أخرجه: أحمد (1/208) رقم (30) والترمذي رقم (2168 و 3057) وقال: حسن صحيح، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[7] حلية الأولياء: (8/108).