«وكانوا - رضي الله عنهم
- [يعني السَّلف] يَنْهَون عن التَّعرُّضِ للغَوامِضِ، والتَعمُّقِ في المشكلاتِ،
والإمعان في مُلابسةِ المُعضلاتِ، والاعتناء بجمع الشُّبهات، وتكلُّفِ الأَجوبة
عمَّا لم يقع من السؤالات. ويَرون صَرفَ العناية إلى الاستحثاث على البِرِّ
والتَّقوى، وكفِّ الأَذى، والقيام بالطاعة حَسَب الاستطاعةِ.
ومَا كانوا ينكفُّون -
رضي الله عنهم - عما تعرَّضَ له المتأخِرون عن عِيٍّ و حَصَرٍ، وتَبلُّدٍ في
القرائح، هيهات! قد كانوا أَذكى الخلائقِ أَذهاناً، وَ أَرجحَهم بياناً؛ ولكنَهم
استيقنوا أَنَّ اقتحام الشبهات داعيةُ الغَوَايات، وسبب الضلالات، فكانوا يُحاذرون
في حقِّ عامة المسلمين ما هم الآن به مُبتَلَوْن، وإليه مَدفوعون».
إمام الحرمين الجويني
رحمه الله، الغياثي (ص333 - 334)
الحمد لله وحده،
والصلاة والسَّلام على مَن لا نبيَّ بعده، وبعد:
فهذه لَقطة عَجْلان، آمل
مِنها أن تُميطَ اللِّثام عن قَدْرٍ يسير من سموق بصر أئمَّة السَّلف، ومَوفور
فِقْهِهم في الدَّلائل الشرعية. وهذا السُّموق والعُمق كلاهما دالٌّ على أَحقيَّة
المنهج السَّلفي بامتلاك الحقيقة؛ لاستمداده - أي المنهج - من الوحي المالك
للحقيقة.
وجميعُ ذَرَّات هذه
المقالة وجزئيَّاتها تأرز إلى أَصْلٍ جامعٍ، وأُسٍّ كُليٍّ، وهو (أَنَّ الدَّليلَ
العقليَّ عند السَّلفِ ليس بمهْمَل ولا بِمُرْسَلٍ).
وتَفْتنُّ إلى جُملةٍ مِن
المَقَاصد التي تُساق ابتداءً عاريةً عن التمثيل والتوضيح، ثم يجيء التفصيل
المراعي للمقام تِباعاً بإذن الله.
المقصد الأَوَّل: الدليل
العقلي عند السَّلف... الدلالة والمفهوم.
المقصد الثاني: حقيقة
التَّسليم عند السَّلف.
المقصد الثَّالث:
النَّظَرُ العقلي عند السَّلف تمعقلٌ أم تعَقُّلٌ؟
المقصد الرابع:
النَّظرة الشُمولية السَّلفيَّة لفقه العلاقة بين العقل والنَّقل.
المقصد الخامس:
سَبر بعض المَقولات التي يُتوَهم شخوصها عن المنهج.
وإني لأَبسطُ يد الاعتذار
عما يقع من إخلالٍ في بَسْط القول في هذه المقاصدِ؛ فإنَّ هذه الورقات لا تفي
ببيان منزلة الدَّليل العقلي عند السَّلف؛ إذِ البيان يفتقر إلى أَدوات عِدَّة،
منها التتبُّع لعُرُوقِ مَسَائلهم، واستقصاء ما صحَّ من آثارهم، كلُّ ذلك مع حَثِّ
مَطيَّة الفِكْر في أَنجادها وأَغوارِها، وهذا ما لم يـتأتَّ لي جميعه في هذه
العُجَالة.
وأرجو من الكريم الرحمن
أن يهيئ من يقوم بتجلية هذه المسألة الجليلة، التي ظنَّ من ظنَّ ممن قَصُر عن دَرك
حقيقة منهج السلف أَنَّهم أَخلُّوا في الاستناد إلى النظر العقلي! حتى نَسَب كُلَّ
فضيلة للمتكلِّمين مع ابتداعهم في الدلائل، وسلب السَّلف فضيلة النظر بإطلاق.
والحقُّ أنَّهم - أي
السلف - أَيقنوا بغَناء الدَّلائل الشرعيَّة بالبراهين العقليَّة الفِطريَّة
وكفايتها عن الابتداع في دين الله، وهذا جوهر الخلاف بينهم وبين مخالفيهم؛ فإن
المخالفين لمَّا اعتقدوا أَنَّ الدَّلائل النَّقليَّة تَعْرى عن البراهين العقلية،
قادهم ذلك إلى ابتداع دلائل على مسائل الدِّين، بل جمعوا بين الابتداع في
الدَّلائل، والإحداث في المسائل. ولو أَنَّهم علموا أَن دلائل القرآن العقليَّة
لها صفة الثَّبات والاستمراريَّة إلى يوم الدِّين؛ بحيث لا يُفْتَقَرُ في
الاستدلال على أصول الدِّين إلى غيرها، لما وقعوا في هذه الـمُشاقة.
وأَمَّا الحِجاجُ العقلي
عند السَّلف لتقويض مثارات المخالفين العقليَّة، فمُتحقِّق لا يُدفع؛ لكن قلَّته
في القرنين الأوَّلين نابعة مِن قلة البدع في ذلك الزَّمان، هذا من جهة.
ومن جهةٍ أُخرى سذاجة
وبساطة البدع آنذاك؛ وأَعني بالسَّذاجة هنا: كون تلك البدع مَبنيَّةً على فَهم مَغلوط
للدَّلائل النَّقليَّة لا على بدع مُركَّبةٍ من مُشْتبهات عقليَّة ونقليَّة؛ فإنَّ
مثل هذا التركيب جاء مُتأخراً عن الجيلين الأولين[1]. فلزم من هذا غَلَط مَن نَسب إليهم التقصيرَ في الحجاج العقلي
الشرعي لتقويض المثارات العقليَّة لدى المُخالف؛ فإنَّ هذه الإِضافة سببها الجهل
بتاريخ نشوء الفرق في الأُمَّة.
وبعد هذه الطَّليعة، يحسن
الولوج إلى بيان المقاصد المذكورة آنفاً.
المقصد الأَوَّل: مفهوم
الدليل العقلي:
يراد بهذا المُركَّب
التقييدي (بإيجاز): ما أوصل إلى المطلوب بنفسه (أي ببداهة العقل كمبدأ الهوية والعليَّة)،
أَو بالنَّظر إلى مُقدِّمات ترجع إليه.
المقصد الثَّاني: حقيقة
التسليم عند السَّلف:
مِن البديهيات
السَّلفيَّة أَنَّ قَدَمَ الإِسلامِ لا تقوم إِلاَّ على ظهر الانقياد والاستسلام[2]. والتَّسليم السَّلفي كما أنَّه تسليم مطلق ليس مَشروطاً بقيد
لأنَّه مقتضى الإيمان بالنُّبوَّة، ومَن كان تسليمه مَشْروطاً بانتفاء الـمُعارض
لخبر الرَّسول أَيّاً كان نوعه، لم يكن متحقِّقاً بالإيمان به، وكان ممَّن عاب
اللهُ - تعالى - في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ
بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر:
83]. إلاّ أَن التِّسليم السَّلفي في الوقت ذاته تسليمٌ واعٍ؛ بمعنى: أنَّه عندهم
منتوج مَنطقٍ يتوالجُ فيه يقينُ العقل، وضرورة النَّفس اللذان يقضيان بالإقرار
بصدق نبوَّة الرَّسول وعصمته؛ وإلاَّ كان اعتباطاً يقبل التبدُّل والتخلُّف؛ لهذا
كان للوحي سُلطانه العظيم على شواعر وعقول من صُقلت فطرهم لتلقِّيه ولم تَلْتَاثْ
بما يحول بينها وبين نوره، وقد أَبان الله - تعالى - عن حال أهل المعرفة من أهل
الكتاب عند سماعهم للوحي فقال - جل وعلا -: {وَإذَا
سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ
مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْـحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]، وقال - تعالى -: {وَبِالْـحَقِّ
أَنزَلْنَاهُ وَبِالْـحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ مُبَشِّراً
وَنَذِيراً 105وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ
وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً 106قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ
سُجَّداً107 وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَـمَفْعُولاً 108 وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}
[الإسراء: 105 - 109].
ومِمَّا يُجلِّي هذا
المنطق أمران:
الأوَّل: وجودي، ويتبدَّى
في قيام التوافق والتَّلازم بين نور الوحي وبصر العقل الفطري، وتَعذُر الانتفاعِ
بأحدهما دون الآخر؛ فنور الوحي بلا بصر العَقل لا تتحصَّل الاستفادة منه؛ إذ
بالعقلِ عُلم صِدق الوحي وأنَّه من لدن حكيم خبير. وبَصَر العَقَلِ بلا نور الوحي
قضاءٌ عليه بالتِّيهِ في مَنادِح الأهواء.
ولا ريب أَنَّ الخضوع
والانقياد لما تحقَّقَ صِدقُهُ واستبانت عصمتُهُ من الخطأ: أَنَّ ذلك مِن حَتمياتِ
العقل؛ ولذا كان اعتناء الوحي على برهنة الأُصول الدِّينية والكشف عن فطريَّتها؛
لأنَّها البِنيةُ التي إن تجذَّرت انقاد العبد بكُليَّتهِ لتحقيق مقتضيات تفاريع
الشَّريعة، وليس يُرام من ذلك نَفي معقوليَّة التَّشريع وابتنائه على الحكمة
ورعاية مصالح العباد في العاجل والآجل؛ إذ من الممتنع أن تكون هذه الشِّرعة من
ربِّ العالمين ثم تكون مقصورة مصالحها على ما يتحصل للمكلفين من الخير في الآجل
دون العاجل، وفي بيان ذلك يقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله -: «الدِّين
والشَّرعُ ضَروريٌّ لبني آدم لا يَعيشون بدونه، لكن ينقسم إلى شَرعٍ غايته نوع من
الحياة الدُّنيا وشَرعٍ فيه صلاح الدُّنيا فقط، وشَرع فيه صلاح الدُّنيا والآخرة،
ولا يُتصوَّر شَرعٌ فيه صلاح الآخرة دون الدُّنيا، فإن الآخرةَ لا تقوم إلاَّ
بأعمال في الدُّنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، صلاحها غير التناول لفضولها»[3]، بل إنَّ الأَصل في أحكام الشريعة أَنَّها مُعلَّلة بالحِكَم
الظاهرة التي لا يجد العباد مَسَاغاً إلاَّ التسليم لها والانقياد لحُكْمها.
الأمر الآخر: عدميٌ،
ويتحرَّرُ بانتفاء التناقض الحقيقي بين الأدلَّة الشرعيَّةِ النقليَّة والعقليَّة؛
إذ جَرَيانُ التناقضِ بين وحي الله الَّذي تنتظمُهُ إرادةُ الرَّبِّ الأَمْريَّة
الشرعيَّة، وبين العقل الذي تنتظمُهُ إِرادة الربِّ الخَلقيَّة التكوينيَّة:
مُمْتنعٌ؛ ومَجْلى هذا الامتناع أَنَّ كليهما مِن عند الله فالأوَّل أَمرُهُ،
والثاني خلقه، ولا تعارض بين خلقه وأَمره {أَلا
لَهُ الْـخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]. فإذا
استبانت لنا حقيقة التسليم السَّلفي، عَلمنا عندئذٍ أَنَّ سَلب التسليم خاصيَّةَ
البَرْهَنة مُطلقاً من حيث هو تسليمٌ وجعله مُرادِفاً للتَّقليد كما يُقرِّره بعض
مُفكِّري العرب الذين جعلوا مَدَاره على إيمان يكون قسيماً للبرهان العقلي[4]: خطأٌ يَنمُّ عن مدى ضَرَاعة مَدَاركهم الفكريَّة وانجذابها
لقُطُوبِ المَقولاتِ الغربيَّة التي تنصب بَرْزخاً بين المنطق الديني والمنطق
العقلي[5]، دون سَبر لِبنية هذه
المقولة التي أَفرزها واقع العقل الأُوروبي ابتداءً من عصر النهضة نتيجة لمَلاحمه
مع اللاهوت الكنسي المستبطن لتناقضات عميقة في رؤيته للإنسان والكون فضلاً عن
القضايا الغيبية[6].
المقصد الثَّالث:
النَّظَرُ العقلي عند السَّلف تمعقلٌ أم تعَقُّلٌ؟
النَّظرُ العقليُّ عند
السَّلف على ثلاثة أضرب، الأوَّل: نَظَر استثمار، والثَّاني نظر كشف وإرجاع،
والثالث: نَظَر فَحْصٍ (مَشْروطٍ) وإبطال.
فالأَوَّل: يُراد
به استثمار السَّلف للدَّلائل العقليَّة التي شُحنَت بها الدَّلائل النَّقليَّة
كاستثمارهم دلالة النَّظر في الأَنفس البشرية وعجيب تركيبها التي نَبَّه الله
العقول عليها بقوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
[الذاريات: 21] على توحيده، تبارك وتعالى. قال قتادة مُستدلاً بكمال صُنعه للأنفس
على وجود خالق عظيم مستحقٍّ للعبادة: (مَن تفكَّر في نفسه عَرف إنَّما لُيِّنت
مفاصله للعبادة)[7]، وكاستثمارهم للدلالة
العقلية التي حكاها الله في كتابه عن نبيِّه إبراهيمَ - عليه السلام - في قوله -
تعالى -: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى
كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}
[الأنعام: 76] قال قتادة مستثمراً لهذه الدَّلالة على كمال ربوبيَّة الله: (عَلمَ
أَنَّ ربَّه دائمٌ لا يزول)[8]. ونظائرُ ذلك من صور
الاستثمار السَّلفي للبَرَاهين العقليَّةِ التي لَفَتَ النظر إليها القرآن الكريم
كقياس الأولى، وقياس الغائب على الشَّاهد.
وأَمَّا الضرب الثاني:
فنوعان: الأول: نظر كشف وإرجاع: ويُراد به كشف السَّلف عن اتساق الدَّليل النَّقلي
لمنهج العقل ببيان الإمكان ودفع الامتناع عما يُظنُّ امتناعُهُ، وعُنصرُ الإمكانُ
يعدُّ منطقة الحِياد العقلي، ويجيء البرهان النَّقلي مُرجِّحاً وناقلاً الحكم من
رُتبة الإمكان إلى رُتبة الحادثيَّة.
وأيضاً يكون الكشف عن
امتناع ما يُناقض الدَّلائل النقليَّة وهذا الإيقاف منهم على حكم الإمكان، أو
الامتناع إنَّما يكون في كثير من الأحيان لمن عَرضت له شُبهة تستلزم دفعها، ومِن
أَمثلة ذلك ما يلي:
ما ورد عن علي بن
أَبي طالب - رضي الله عنه - أنَّه قال للذي استشكل كيف يُحاسِبُ الله العباد في
ساعة واحدة؟ قال له (كما يَرزقهم في ساعة واحد)[9] فعَلِي - رضي الله عنه - استدلَّ بالمتَّفق عليه على المُختَلَف
فيه بجامع الإمكان في الصورتين وانتفاء الامتناع. وهذا استدلال بحكم العقل الذي يقضي
ببطلان إدخال الممكن في دائرة الممتنع بلا برهان.
ومن ذلك إبطال
الإمام أحمد لدعوى الحلول التي ادَّعاها الجهميَّة بأن زعموا أنَّ الله - تعالى -
في كُلِّ مكان، ولا يكون في مكان دون مكان؛ وذلك بالبرهنة على امتناع ما ادَّعوه؛
حيث إن من المقرَّر عند السَّلف والجهميَّة أنَّ الله كان ولا شيء ثم خلق الشيء؛
فالقسمةُ العقليَّة الحاصرة تُحتِّم على هذا المتجهم أن يصير إلى إحدى ثلاثة أمور
لا مَعْدَى منها:
الأمر الأوَّل: أَن يكون
خلق الخلق في نَفْسِهِ، وهذا ممتنع في العقل الفطري؛ إذ يكون الله مَحلاً
للمخلوقات فتكون النجاسات وإبليس - مما يبعد عن الله - في جوف الله تعالى.
الأمر الثَّاني: أن يكون
خلقهم خارجاً عن نَفْسِه ثم دخل فيهم، وهذا أَيضاً ممتنع في العقل الفطري.
والأَمر الثَّالث: أن
يكون خلقهم خارجاً مِن نفسه ثُم لم يدخُلْ فيهم، وهذا ما يقبله العقل وتوطده
الدَّلائل المحكمة، هو قول أهل السنة أجمـع. وفي تقـرير ذلك يقـول الإمام أحمد -
رحمه الله -: (إذا أَردتَ أن تعلم أنَّ الجهميَّ كاذبٌ على الله حين زعم أَنَّ
الله في كُلِّ مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، فقل له: أَليس الله كان ولا شيءَ؟
فسيقولُ: نعم. فقل له:
حين خَلَق الله الشَّيءَ خَلَقَه في نَفْسِهِ، أَو خارجاً مِن نَفْسِهِ؟
فإنَّه يَصير إلى
ثلاثة أقاويل لا بُدَّ له مِن واحدٍ منها: إن زعم أَنَّ الله خَلَق الخلقَ في
نَفْسِه فقد كفر، حين زعم أَنَّه خَلَق الجِنَّ، والشياطينَ، وإبليسَ في نَفْسِهِ.
وإِن قال: خَلَقَهم خَارجاً
من نفْسه ثُمَّ دخل فيهم، كان هذا أَيضاً كُفر؛ حين زعم أَنَّه دخل في مكان وحُشٍّ
قَذِرٍ رديءٍ.
وإن قال: خلقَهُم خارجاً
مِن نَفْسِهِ ثُمَّ لم يَدْخُل فيهم، رجع عن قوله كُلِّه أجمع، وهو قول أَهل
السُّنَّةِ)[10].
ومن صور ردِّ السَّلفِ
المُخاصِمَ في الدَّلائل النقليَّة إلى ضرورات العقل المعيارية الفطريَّة: نقَض
الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - دعوى المانعين من حصول العذاب والنعيم في
القبر مُعْتلِّين في ذلك بانتفاء الحياة المعهودة للميِّت؛ وذلك بالإبانة عن جواز
ذلك وعدم مناكدة العقل له. وفي تقرير ذلك يقول بعد أن ساق دعواهم: (عِلَّتُنا[11]) في الإيمان بجميعه والتصديق به: عِلَّةٌ واحِدةٌ؛ وهو تظاهر
النُّصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، مع جوازه في العقل وصحَّته فيه؛
وذلك أنَّ الحياة معنى، والآلام واللَّذَّات والعلوم معانٍ غيره، وغير مُسْتحيلٍ وجود
الحياةِ مَع فَقْدِ هذه المعاني، ووجود هذه المعاني مَع فقد الحياةِ لا فرقَ بين
ذلك)[12].
فأنت تلحظ في هذا النَّص
توظيف الإمام ابن جرير الدَّليلَ العقلي الفطري لدفع ما يُناقض الأدلة النقليَّة
الصحيحة؛ وذلك بالاستدلال بقانون الهُويَّة الذي يقضي بأن يكون الشيء هو هو لا
غيره؛ ذلك أنَّ كُلَّ غَيْرَينِ لا بُدَّ أن يصِح من بعض الوجوه وجود أَحدهما مع
عدم الآخر؛ وإلَّا انتفتِ الغَيْريَّةُ التبس حالهما بحال المعنى الواحد.
ومن صور توظيفُ أئمَّة
السَّلف للقرينة العقليَّة لدرء الفَهْمِ المغلوط عن الدَّليل النقلي: دفع
الاستدلال الغالط من الجهميَّة على أن القرآن مخلوقٌ بحديثِ «يجيء القرآنُ يوم
القِيامَةِ في صورة الشَّابِ الشَّاحبِ، فيأتي صاحِبَهُ فيقول: هل تَعْرفني؟ فيقول
له: مَنْ أَنت؟ فيقولُ: أَنا القُرآنُ الَّذي أَظمأَتُ نَهَارَكَ، وأَسْهَرتُ
لَيْلَكَ، قال: فيأتي به اللهُ، فيقولُ: يا ربِّ!...» الحديث[13].
فهذا الحديثُ استدلَّ به
الجهميَّةُ على أَنَّ كلام الله مخلوق لكونه يجيء ويتغيَّر من حال إلى حال، فأبان
أَئمَّة السَّلف على أنَّ الحديث قد فُهم على غير مراد المُتكَلِّم به، وأنَّ فيه
محذوفاً مُقدَّراً مَدلولاً عليه بالاقتضاء، وهذا المحذوف هو (الثواب) فالمجيء
والتصوُّر إنَّما هو لثواب قارئ القرآن لا للقرآن نَفْسِهِ، وفي بيان ذلك يقول
الإمام ُ أحمد - رحمه الله -: (فادَّعوا أنَّ القرآن مخلوقٌ من قِبَلِ هذه
الأحاديث... وإنَّما معنى أَنَّ القرآن يَجيءُ: إنَّما يجيء ثواب القرآن فيقول: يا
ربِّ!...)[14] وهذا التقدير قال به
جِلَّةٌ مِن أَئمَّة السَّلفِ، وبرهان استقامته يتأتَّى من ثلاثة اعتبارات:
الأَوَّل: اعتبار نقلي،
والثَّاني: اعتبار عقلي، والثَّالثُ: اعتبار لِساني لغوي.
فأمَّا الاعتبار
الأَوَّل: فإنَّ هذا التقدير تَشْهدُ له الدَّلائل النَّقليَّة الكُليَّة التي
تَدلُّ على أنَّ الذي ينتفع به العبد في آخراه هو ثواب عَمَله الصَّالح، ومن تلك
الدَّلائل قوله - تعالى -: {مَن جَاءَ
بِالْـحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا
يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:
160] والحسنة هنا العمل الصالح، والسيَّئة العمل السيئ؛ وإنما جزاؤهما ما يكون من
الثواب والعقاب عليهما[15].
وأَمَّا الاعتبار العقلي
الَّذي جاء تبعاً للاعتبار السَّالف: فهو ما صاغه الإمام الدَّارميُّ بقوله: (...
أَنَّه قد عقل كُلُّ ذي عقل ورأْي أَنَّ القولَ لا يتحوَّل صورةً لها لسان وفَم
ينطق ويشفع، فحين اتَّفقت المعرفةُ من المسلمين أنَّ ذلك كذلك، علموا أنَّ ذلك
ثَوابٌ يُصوره الله بقدرته صورةَ رَجل يُبشِّر به المؤمنين؛ لأنَّه لو كان القرآنُ
صورةً كصورة الإِنسانِ لم يتشعَّبْ أكثرَ من ألف ألف صورة، فيأتي أكثر من ألف ألف
شافعاً وماحلاً؛ لأنَّ الصورة الواحدةَ إذا هي أتت واحداً؛ زالت عن غيره، فهذا
معقولٌ لا يَجهلُهُ إلاَّ كُلُّ جهولٍ)[16].
ومقصوده من هذا الاستدلال
امتناع إِسناد المجيء إلى القرآن نَفسه؛ لأنَّ ذلك يَستلزمُ تشعُّب صورته بعدد من
يَشفع له في آن واحد، وكذا تعدد المجيء بعدد مَن يَشفع له وهذا غير جارٍ على قانون
العقل؛ إِذ الشيءُ لا يكون في مكانين في آنٍ واحد.
وأَمَّا الاعتبار
اللِّساني اللُّغوي: فهو ما أَلمح إليه الإمام أَبو عُبيد القاسم بن سلاَّم حيث
قال: (ولم نَرَ العربَ تدفعُ في طَبعها أن يقول الرَّجلُ للرَّجلِ: (لأَوفِّينَّك
ما عملتَ) ليس أَنَّه يُريد نَفس ما عمل؛ إنَّما يَعِدُهُ على الطَّاعةِ
الثَّوابَ، ويتوعَّده على المعاصي العقابَ، وإنَّما معنى مجيء البقرة وآل عمرآن
إنَّما يعني ثوابهما)[17]. والسِّياق دالٌّ
أَيضاً على ذلك؛ إذ الحديث سِيق لبيان عظيم ثواب قارئ القرآن، والثواب هو
المُحصَّل للمُكلَّف المكتسَب بفعله، فناسب أن يكون المجيء له، وإنَّما حُذف للعلم
به؛ و(حَذْفُ ما يُعلم جائزُ).
وهذه الصور في التوظيف
تُبِيْنُ أنَّ الشَّارع لا يُخْلي كلامَه من قرينة تدل على مُراده؛ فالقرينة
العقليَّة تحتفُّ بالخطاب ليتحصَّل للنَّاظر إحراز مقصود المُخاطِب بخطابه، ولا
تستبِدُّ هذه القرينة بذلك، بل لا بُدَّ أَن يكون في الدَّلائل النقليَّة ما يَشهد
لها، والكَشْفُ عن هذه القرينةِ وإعمالها لا يعتبر تمعْقلاً على النَّصِّ؛ بمعنى
أن يتوارى النَّصُّ خلف ما أَصَّله النَّاظر من أصولٍ تُباينُ ما دلَّ عليه النَّص
وتفارقه؛ فتُمْنحُ المركزيَّة في هذه الصورة لهذا العقل الموهوم الذي يُلغي اعتبار
النَّص؛ لا أَنَّه تَطلُّبٌ لمقاصد النَّص التي قصد إليها المُخاطِب بخطابهِ؛
وإنما يكون هذا التوظيفُ تَعقُّلٌ للبرهان الشَّرعي ليستتمَّ تحقيقُهُ واعتقاده
على الوجه الذي قُصد به.
فإِن قيل: صَرفُ المعنى
الظاهر إلى المَعنى الَّذي دلَّت عليه الدَّلائل الأخرى مع ضميمة ما احْتفَّ بهذا
الخطاب من قرينة عقليَّة توطِّد هذا المعنى المعدول إليه، هذا الصرفُ يُعدُّ
تأويلاً، وهذا عين ما عابه السَّلفُ أَنْفُسُهم؛ فكيف يأبونه ثم يقعون فيه؟
فيقال: هنا مقامٌ لا معدى
مِن تأْثيله لينبني عليه ما بعده، وهذا المقام، هو أنَّ الظاهر المعدولَ عنه هو
الظاهر الموهوم النَّاشئ لدى المخاطَب لتقصيره في فهم الخطاب، لا الظاهر الحقيقي
للنَّصِّ؛ فإنَّ ظاهر النَّصِّ تارة يكون بَسيطاً، وتارة يكون مُركَّباً، فأمَّا
الظَّاهر البسيط فهو المعنى المُتبادَر من النَّصِّ إلى الذِّهن من أَوَّلِ وهلة.
وأَمَّا الظاهر
المُركَّبُ فهو ما يَفْتَقِرُ في إصابته إلى جُملة من الدَّلائل الأُخرى الخارجة
عن هذا النص، مع إعمال القرائن المُحتفَّة بالنصِّ؛ لأنَّ المُخاطِبَ قد يُجمِل في
بعض الموارد في كلامه استناداً على ما بَسَطه وفصَّله في مَوطنٍ آخر؛ فالشَّريعةُ
كالكلمةِ الواحدة، يقول الإمام الشَّاطبي - رحمه الله - في تقرير ذلك: (مآخذ
الأدلَّة عند الأئمَّة الرَّاسِخين إنما هي أنْ تؤخذ الشَّريعةُ كالصورة الواحدة؛
بحَسَبِ ما ثبت من كُلياتِها، وجزئياتها المرتبة عليها، وعامِّها المُرتَّب على
خاصها، ومُطْلَقِها المحمول على مُقيِّدها، ومُجْمَلها المفسَّر بمبينها. إلى ما
سوى ذلك من مَنَاحيها. فإذا حَصَل للنَّاظر مِن جُمْلتها حُكْمٌ من الأحكام، فذلك
هو الذي نطقت به حين اسْتُنْطِقَت)[18]. وقد يكون ذلك
استناداً على فهم المُتلقِّي للخطاب[19]؛ فإذا تبيَّن أنَّ
الظاهر من الخطاب هو المعنى الذي رام بيانه المُخاطِب بخطابه علمتَ أَنَّ العدول
إلى هذا المعنى المقصود وإظهاره محمودٌ مطلوب؛ وإن سُمِّي تأويلاً فلا يكون من جنس
ما عابه وأنكره السَّلفُ؛ فيكون التأويل هنا من المُشترَك اللفظي الذي يندرج تحته
معانٍ مُختلفة؛ فإن التأويل الذي ذهب إلى معناه السَّلف هو بيان مُراد المتكلِّم،
وتفسير كلامه، وضابط هذا التأويل الصحيح: أن يكون المعنى المصروف إليه الخطاب مما
يسوغ في اللِّسان، ويصحُّ نِسبته عند أهل العلم إلى صاحب الخطاب[20]، فتبيَّن أَنَّ حقيقة هذا التأويل تعظيم الشَّرع ورعْيُ حريمه،
بخلاف تأويل المُتكلِّمين الَّذي هو في حقيقته تكذيب للشَّرع، وإِزهاق لمقاصد
خطابه.
والنَّوعُ الآخر:
نظر التَّوظيفِ للأدلة العقلية؛ وذلك بأن تُسْتقطَب
لإحراز مقاصِد الشَّارعِ، والإِبانة عن الاتِّساق بين كُليَّات الشَّريعة
وجُزئياتها، أَو بين الجزئيات أَنْفُسِها، وكذا لِسَبْر الدَّلائل لبيانِ المُحكم
مِنها من غيره، وهذا النظر ليس مُستقلّاً بل هو تابع للأدلة النقليَّة كما
سيتبدَّى لك من خلال الأمثلة.
ويحتضن هذا النَّوع عدداً
من الأمثلة، أَضرب لذلك مثالاً واحداً:
وهو ضَرْب ابن عبَّاس -
رضي الله عنه - الأَقيسة العقليَّة لإِبطال الأخذ بحديث (الوضوء ممَّا مَسَّت
النَّار)؛ لكونه ثبت عنده عدم إحكامه بالخبر الثابت المتأخر في الزَّمان المحكم من
جهة عدم ورود ما يناقض دلالتِه، وهو شهوده مااستقرَّ عليه فعل النبي صلى الله عليه
وسلم في آخر الأمر بترك الوضوء ممَّا مسَّت النَّار إلا لحم الجزور.
وهذا الاعتراض من عبـد
الله بن عبـاس - رضي الله عنه - كان على أَبي هريرة - رضي الله عنه - في ما رواه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «الوضوء ممَّا مسَّت النَّار، ولو مِن
ثور أَقط» فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: يا أَبا هريرة! أَنتوضأُ من الدُّهنِ؟
أَنتوضأُ من الحميم؟ فقال أَبو هريرة: يا ابن أخي! إِذا سمعتَ حديثاً عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلا تضْرب له مثلاً[21].
فمعارضةُ ابن عباس - رضي
الله عنه - للخبر ليست مؤسَّسةً على نَظَرٍ عقلي أصالة؛ وإنما على جهة التتبع
للدلالة النصية؛ ذلك أنَّ ما يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - ليس هو المحكم الذي
استقر عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم والذي شَهِده ابن عباس منه صلى الله عليه
وسلم؛ وإنما المحكم وآخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ممَّا مَسَّت
النار. لذا روى ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (جمع عليه ثيابه ثم
خرج إلى الصلاة فأُتي بهديَّةٍ خُبْزٍ ولَحْمٍ. فأكل ثلاثَ لُقَمٍ. ثُمَّ صلَّى
بالنَّاس وما مسَّ ماءً)[22].
فلما رأى ابن عباس إصرار
أَبي هريرة على التحديث بما نُسِخ حكمه، أبان عن المحكم في هذه المسألة واعتضد
بضَرب المعقول المُبرهِن على صِحَّةِ ما شهده من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على ذلك، ما
تراه من جمعه - رضي الله عنه - بين ما شهده من النبي صلى الله عليه وسلم وبين
المعقول الشرعي المُبرهِن على صحة ما ذهب إليه كما في الرواية الأخرى؛ فعن محمد بن
عمرو بن عطاء قال: كنتُ مع ابن عباس في بيت ميمونة في المسجد، فجعل يَعجبُ ممن
يزعمُ أنَّ الوضوء ممَّا مَسَّت النار، ويضرب فيه الأمثال، ويقول: إنَّا نستحمُّ
بالماء المُسَخَّنِ، ونتوضأ به وندَّهن بالدُّهن المطبوخ. وذكَرَ أَشياء مما يُصيب
النَّاس ممَّا قد مَسَّتِ النَّار، ثم قال: لقد رأيتني في هذا البيت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقد توضأ ولبِس ثيابَه، فجاء المؤذن فخرج إلى الصَّلاة حتَّى
إذا كان في الحُجْرَةِ خارجاً من البيتِ لقيَته هدية عضو من شَّاة، فأكل منها لقمة
أو لُقمتين ثُمَّ صلى وما مسَّ ماء)[23]. قال الإمام البيهقي
بعد سوقه لرواية ابن عباس، رضي الله عنه: (فيه دلالةٌ على أَنَّ ابن عبَّاسٍ شهد
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم)[24] والرِّواية الأخرى
التي أخرجها مسلم مُصرِّحة بشهوده - رضي الله عنه - إذ فيها أنَّ ابن عباس شهد ذلك
من النبي صلى الله عليه وسلم[25].
فإذا تحرَّرت هذه
الأَحرفُ، استبان للنَّاظر أَنَّ العلاقة بين العقل والنَّقل تُفهَمُ فهماً على
الجادَّةِ مِن خلال إطار شموليٍّ توافقي لا تنتصِبُ فيه الخُصومة بين الدَّليلين
لتكون المركزيَّة لأَحدهما على الآخر، بل الاستبداد في آخر الأمر للمركزيَّةِ
المُحتضنة لهذا الإِطار الشمولي الَّذي تكون المقابلة بينه وبين ما يُناقضه مقابلةً
بين الحقِّ والباطل، والشريعة والهوى، والسُّنة والبدعة[26]، وهذه النَّظرةُ الشموليَّة هي مقام امتياز المشروع السَّلفي على
غيره من المشاريع التي انتحلها المخالفون من أَصحاب الرؤى الاحتجانيَّة
الاختزاليَّة الضيِّقة، وهو ما قصدته بالمقولة التَّالية، وهي: النَّظرة الشُمولية
السَّلفيَّة لفقه العلاقة بين العقل والنَّقل.
فإنَّ هذه الرؤيةَ
السلفيَّة لا يكون فيها الدليل العقلي قَسيماً للدَّليل الشرعي، بل هو مندرجٌ تحت
سُرادقه؛ فالبراهين لا تتناقض بل يؤيدُ بعضُها بعضاً.
أَمَّا الضَّربُ
الثالث: فنظر الفحص (المَشروط) والإِبطال:
منهج الأئمَّةِ
النُّقَّاد في سَبْر المتون مَنهجٌ مَوضوعيٌّ مُساجٌ بِسياج العقل طاردٌ
للذَّاتيَّة - التي لا تَنْضبط - أَن تكون منظومةً في أُصول مَنْهجهم المُحْكَمِ.
وبتقرِّي جزئيات
تعليلاتهم للمتون تجد أَنَّها تُدار على أَربعة معايير، ثلاثة منها أَصليَّة،
وواحد تَبعيٌّ عاضدٌ للأوَّل، وهذه المعايير أَو العلل الموجبة لنقد المتن هي
كالتَّالي: الأوَّل: التعليل بالمخالفة، الثاني: التعليل بالتَّفرُّد، الثالث:
التعليل بالاضطراب[27]. وأَمَّا المعيار
التبعي العاضد للأَوَّل: فهو التعليل بالمناقضة للقواطع العقليَّة.
والَّذي يختصُّ بهذا
المقام من هذه المعايير السالفة: هو المعيار الأول الأَصيل والرَّابع التبعي،
ودونك الآن صفوةَ القول فيها:
أمَّا المعيار الأَوَّل،
وهو التعليل بالمخالفة: فيراد به مناقضة المتن لقواطع الدَّلائل النَّقلية من
الكتاب والسُّنَّة وما تركَّب منهما، والتعليل بالمُخالفة؛ هو قُطبُ رحى المنهج
النَّقدي عند المُحدِّثين، حتى قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (مَدَارُ
التَّعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف)[28].
وكون مناطِ التَّعليل
بالمُخالفة قائماً على الأُصول الثَّلاثة (الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع) يشهد له
أَمران:
الأوَّل: التَّصرُّف
العملي مِن الأئمَّة النُّقَّاد.
والثَّاني: وقوع التنصيص
منهم على ذلك، وفي الإِبانة عن ذلك يقول الإمام ابن حِبَّان - رحمه الله - في سياق
تَقْنينه لِمَنهج يُعرَف به الرُّواة بطريق الاعتبار: (ومتى عُدِمَ ذلك [يقصد وجود
متابعة أو شاهد]، والخبرُ نَفْسُهُ يُخالف الأُصول الثلاثة، عُلِم أَنَّ الخبرَ
موضوعٌ)[29].
وأَمَّا المعيار التبعي:
فإعمال النَّظر العقلي مسانداً للأُصول المُتقدِّمة للكشف عن بطلان متنٍ ما.
ومثاله: حديث: (إنَّ الله
- عزَّ وجل - خَلَقَ الفرس، فأجراها، فَعَرَقتْ، ثُمَّ خلق نفسه منها)[30].
فهذا الحديث
مُناكِدٌ للدَّلائل الشرعيَّة النَّقليَّة والعقليَّة، فأمَّا النَّقل فبيِّنٌ
ظاهر كقول الله - تعالى -: {لم يلد ولم يولد}
فإذا كان الله قد نفى أن يكون متولداً من غيره - تعالى عن ذلك - فإن امتناع أن
يكون مخلوقاً من غيره مما خلقه أَوْلى في الامتناع.
وأَمَّا البرهان
العقلي المعاضد فهو أنَّ الخالق يستحيل أن يكون خالقاً لنفسه؛ فيكون خالقاً
ومخلوقاً في آنٍ واحد فإنَّ ذلك من باب اجتماع النقيضين.
لذا قال ابن
الجوزي: (هذا حديثٌ لا يُشَكُّ بوضعه، وما وضع مثل هذا مسلمٌ، وإنَّه لمن أَركِّ
الموضوعات وأَبردِها؛ إذ هو مستحيل؛ لأنَّ الخالق لا يخلق نَفْسَه)[31].
وقال الإمام ابن تيميَّة
بعد أن ساق هذا الحديث وغيره من المختلَقات: (أحاديث مكذوبة موضوعة باتِّفاق أهل
العلم)[32].
فإن قيل: ظاهر كلام
الأَئمَّة عَدُّ المعيار العقلي أَصلاً مُستقلّاً من أُصول النَّقد للمتون. كقول
الخطيب البغدادي - رحمه الله -: (ولا يُقبَل خبر الواحد في مُنافاة حُكْمِ العقل)[33].
وقول ابن الجوزي - رحمه
الله -: (... فكلُّ حديث رأَيتَه يُخالفُ المعقول، أو يُناقض الأُصول فاعلم أنَّه
موضوع)[34].
وقول الإمام ابن القيِّم
الجوزيَّة - رحمه الله -: (ونحن نُنبِّهُ على أُمور كُليَّةٍ، يُعرفُ بها كون
الحديث موضوعاً... منها: تكذيب الحِسِّ له)[35]، ومراده بالحسِّ هنا العقل المستند إلى الحس؛ لأن الأخير لا حكم
له؛ وإنما هو ناقل لمعطيات خارجيَّة.
فيقال: هنا نُكتةٌ ينبغي
تقريرها، وهي أَنَّ مقالة هؤلاء الأَئمَّة حقٌّ في رُتبتها، فهي حقٌّ من جهة أنَّ
العقل الفطري بمبادئه الضَّروريَّة، أو المُستند إلى الحس كلاهما يعمل على توطيد
الحكم بوضع متن بعد انتصاب الدَّلائل المُحكَمة من الأُصول السابقة على تكذيب هذا
المتن، ودفع صدقه؛ لذا ترى أَنَّ الأمثلة المُساقة لديهم في بيان حظِّ العقل في
نقد المتون كلُّها مما لا يُدرَك فَسادُها من جهة العقل فقط، هذه واحدةٌ.
وثانية: أَن عدَّ العقل
أَصلاً في نقد المتون انزياحٌ عن مَدْرجة الموضوعيَّة إلى فضاء الذَّاتيَّة؛ وذلك
أمر يتنافى مع المنهج النَّقدي الذي شاده صيارفة الحديث ونُقَّاده؛ ومَنْشأ ذلك:
أنَّه لا يؤمَن من غَواشي غلبة الهوى، وطغيان العقد القلبي على العقل، أو طروء
الوهم والخطأ على الحِس؛ بحيث تكون الصورة في الظَّاهر توظيفاً للضرورة العقليَّة
أو الحسِّيَّة، وفي باطن الأمر إنما هو الهوى أو الوهم، لا البرهان العقلي.
وفي تقرير أنَّ العقل
وحدَه لا يستقل في نقد المتون يقول الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله -: (والواقع
أنَّه ليس في الأخبار الصحيحة التي لا معارِض لها من جِنسْها ما يُخالفُ القرآن و
لا العقل)[36].
وقال: (... كما بيَّنَّا
أنَّه لا يوجد حديثٌ صحيحٌ مستحِقٌّ للرَّدِّ بلا حديث يُعارضه)[37].
المقصد الرَّابع:
سبر بعض المقولات التي يُتوَهم شخوصها عن المنهج:
قد وردَ عن بعض أئمَّة
السَّلف ما قد يُشكل على ما تقدَّم بيانه من اعتبار الدَّليل العقلي برُتبته
المُلمَح إِليها؛ وذلك كالوارد عن الإمام أحمدَ - رحمه الله - حيثُ قال: (ليس في
السُّنَّة قياس، ولا يضرَب لها الأمثال، ولا تُدرَكُ بالعقول ولا الأهواء؛ إنَّما
هو الاتِّباع وترك الهوى)[38].
وكقولِ الإمام أَبي
المُظفَّر منصور بن محمد السمعاني - رحمه الله -: (فَمن الدِّينِ معقول وغير
معقول، والاتِّباعُ في جميعه واجبٌ)[39].
بل هذا هو قول سائر أئمة
السَّلفِ - رحمهم الله - كما حكاه عنهم أَبو العباس ابن تيمية، رحمه الله[40].
وتحرير معنى المنقولِ
عنهم - رحمهم الله - يتأتَّى بالكشف عن قضيَّتينِ:
الأولى: بيانُ مقصودهم
بنفي إدراك العقل للشَّرعِ.
الأخرى: بيانُ أن الجهة
مُنفكة بين ما نفاه الأئمةُ - رحمهم الله - وبين ما أثبتوه، وأَنَّ النفي واقع على
غير محل الإثبات.
أمَّا القضيَّةُ الأُولى:
فليس المقصود بنفي إدراك العقول في ما ورد في كلام الإمام أحمد، وأبي المظفر -
رحمهما الله - فَهْمَ العقلِ لما خُوطِبَ به، وهذا لا نزاع فيه؛ إذ كيف يقع
التكليفُ والاتباع دون أَن يتحقق مناطُ التكليف من فَهم المُكلَّف لخطاب الشارع؛
سواء كان هذا الخطاب متعلقٌ بأصول الدِّين أو فروعه.
ومما يؤكد حقيقة ما يرمي
إليه هذان الإمامان وغيرهما: دلالة السياق التي تدلُّ على مُرادهما، وبيان ذلك:
أن سياق كلام الإمام أحمد
يدل على أن ما نفاه هو معارضةُ السُّنَّة في ما يُظَنُّ أنه معقول؛ فهو - رحمه
الله - يرمي إلى تثبيت التسليم والاتباع لما دلَّت عليه النصوص، وعدم إناطة
التسليم بانتفاء المعارِض العقلي؛ إذ مَن صدَّق الرَّسول صلى الله عليه وسلم حقاً
فإنه يجزم بعدم إخباره صلى الله عليه وسلم بما يُحيله العقل؛ فمن أناط تصديقه في
ما يُخبر به باشتراط عدم المعارض العقلي، فلن يقع له الاستدلال بالنَّقل مُطلقاً؛
لأن إناطة قبول النقل بعدم ما لا يتناهى؛ إناطة بما لا يمكن تحقيقه؛ فيكون العلم
بانتفاء ما لا يتناهى مستحيلاً؛ فيكون القبول أَيضاً مستحيلاً.
فَفَهْمُ العقل
وتمييزه لما خُوطب به ليس هو المتناول بالنفي في كلام هذين الإمامين وغيرهما، لذا
يقرر أَبو المظفَّر - رحمه الله - ذلك بقوله: (إنَّ الله أسس دينه وبناه على
الاتباع، وجعل إدراكه وقبوله بالعقل) وقال: (فهذه الدلائلُ دلَّت أنَ الله - تعالى
- هو المُعرِّفُ؛ إلاَّ أنه إنَّما يُعرِّفُ مع وجود العقل؛ لأنّه سبب الإدراكِ
والتمييزِ، لا مع عدمه...)[41].
القضيَّة الأخرى:
أنَّ المنفي هنا إدراكُ العقل للمطالب الدِّينية جميعها على جهة الاستقلال دون
هداية من الوحي، أو إدراك المكلفين حكمةَ الشَّارع في شرعه على جهة التفصيل، أَو
أنَّ العقل يُوجبُ شيئاً، أو يُحرِّمُ شيئاً، أَو أنَّه يقضي بثوابٍ أو عِقابٍ قبل
دلالة الوحي على شيءٍ من ذلك، وأَمَّا المثبتُ فهو دركُ العقل وفهمه لما خوطِب به،
وإمكان الاستدلال ابتداءً على بعض المطالب الدِّينيةِ كمسائل أصول الدين، كإثبات
وجود الله - تعالى - وإثبات الكمال المطلق للباري - جل جلاله - وإثبات البعث.
والله - تعالى - أعلم.
وصلى الله على نبيِّنا
محمدٍّ وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] انظر: «درء
التعارض»، لابن تيميَّة: (5/244).
[2] انظر: «العقيدة
الطحاوية»، (ص6).
[3] جامع المسائل،
تحقيق محمد عزير شمس (ص150، 151 - المجموعة السادسة)
[4] انظر - على سبيل
المثال -: «موقف من الميتافيزيقا» لزكي نجيب محمود، و «الدين والدولة وتطبيق
الشريعة»، لمحمد عابد الجابري، (ص142).
[5] انظر: «الآراء
والمعتقدات»، لغوستاف لوبون، وقد أقام كتابه على هذا التباين: (7 - 9،
146، 148).
[6] انظر: «آلام العقل
الغربي» لريتشارد تارنس، نقله للعربيَّة فاضل جكتر (200، 208 ،210)، و «قصة النزاع
بين الدين والفلسفة»، لتوفيق الطويل.
[7] نقله السيوطي في
«الدُّرِّ المنثور»: (6/137).
[8] أخرجه ابن أبي حاتم
في «تفسيره»: (4/1329).
[9] لم أجده مُسنداً؛
وإنما أورده بعض أهل التفسير. انظر - مثلاً -: «المحرر الوجيز» لابن عطيَّة:
(1/277)، و «الجامع لأحكام القرآن» للقُرطبي: (3/360)، واستدلَّ به ابن تيميَّة
ونَسبَه إلى ابن عباس، رضي الله عنه. انظر: «شرح حديث النزول»، (ص335).
[10] «الرَّدُّ على
الزَّنادقة والجهميَّة»، (ص300، 301).
[11] يعني أهل
السُّنَّة.
[12] «التبصير في معالم
الدِّين»، (ص211، 212).
[13] أخرجه ابن ماجة في
كتاب «الأدبِ»، باب «ثواب القرآن»: (2/ 1242)، والدَّارمي، كتاب «فضائل القرآن»،
باب «في فضل سورة البقرة وآل عمرآن»: (2/450). قال البوصيري: (إِسْنادُهُ
صَحِيحٌ)، وتعقَّبه الألبانيُّ بقوله: (لا، فإنَّ فيه بشيرَ بن مُهَاجِرٍ، وهو
صدوق ليِّن الحديث، كما قال الحافِظُ في «التقريبِ» فَمِثْلُهُ يَحْتَمِلُ
حَدِيثُه التَّحْسِينَ، أَما التصحيح فَبَعيدٌ ).انظر «شرح العقيدة الطحاوية»، (ص
123، حديث رقم 59).
[14] الرَّد على الزنادقة
والجهميَّة، (ص321، 322).
[15] انظر: جامع البيان،
لابن جرير: (10/36 - 38).
[16] «نقض الإمام أبي
سعيد عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد»، للدَّارمي: (1/501).
[17] نقله عنه شيخُ
الإسلام ابن تيميَّة في «بيان تلبيس الجهميَّة»: (6/203 - 204). ولم أَظفر بنص
كلامه في شيء من أَسفاره المطبوعة؛ وإنما الموجود في كتابه «فضائل القُرآن»(ص235)
هو اقتصاره على تفسير المجيء بقوله: (يعني ثوابهما)، فلعلَّ شيخ الإسلام نقل عن
كتاب له لم يطبع، أو أنَّ في النسخة سَقطاً.
[18] «الاعتصام»،
للشَّاطبي (2/50).
[19] انظر: «جواب الاعتراضات المصرية»لابن تيميَّة، (ص100).
[20] انظر: «درء تعارض
العقل والنقل»: (1/201)، و «الفتاوى الكبرى»:(6/21)، و «جواب الاعتراضات المصرية»،
(ص 102، 103).
[21] أخرجه الترمذي في
«السنن» كتاب «الطهارة»، باب «ما جاء في الوضوء مما غيرت النار»: (1/114، 115)
وصحَّح إسناده الشيخ أحمد شاكر، وحسَّنه الألباني. انظر: «صحيح الجامع»: (1/1201).
[22] رواه مسلم في
صحيحه، كتاب «الحيض»، باب «نسخ الوضوء مما مست النار»: (1/275)، رقم 359.
[23] أخرجه البيهقي في
«السنن الكبرى»: (1/ 153).
[24] المصدر السَّابق:
(1/153).
[25] أخرجه مسلم في
صحيحه كتاب «الحيض»، باب «نسخ الوضوء مما مست النار»: (1/275)، رقم 359. وما ذهب
إليه ابن عباس هو مذهب الخلفاء الراشدين في ترك الوضوء مما مسته النار (إلا لحم
الجزور). انظر: «معرفة السنن والآثار «للبيهقي»: (1/447)، و «المجموع» للنووي:
(2/69)، و «النَّفح الشَّذي»، لابن سيد الناس: (2/250)
[26] انظر: «درء تعارض
العقل والنقل»:(1/198).
[27] انظر: نقد المتن
الحديثي، لخالد الدِّريس، (ص22).
[28] النكت على كتاب ابن
الصلاح: (2/711).
[29] صحيح ابن حبَّان:
(1/154، 155 - بترتيب ابن بلبان).
[30] أخرجه ابن الجوزي
في الموضوعات: (1/149).
[31] المصدر السابق:
(1/149).
[32] درء التعارض:
(1/149).
[33] الكفاية، (ص432).
[34] الموضوعات، لابن
الجوزي: (1/151).
[35] المنار المنيف،
(ص44).
[36] جواب الاعتراضات
المصرية، (ص50).
[37] المصدر السابق،
(ص85).
[38] أُصول السنَّة
للإمام أحمد، (ص19، ضمن عقائد أئمة السلف ).
[39] الانتصار لأصحاب
الحديث، جمع محمد بن حسين الجيزاني، (ص78).
[40]درء
التعارض: (5/297).
[41] المصدر السابق،
(ص78، 79).